السودان: الحرب في زمن الكوليرا
بعيدًا عن مقولة «إن المصائب يجمعن المصابين» وقريبًا من الموقف الشعبي السوداني القديم الناظر للقضية الفلسطينية كـ«قضية حقوق بالدرجة الأولى، وحرب تحرير وطني تستوجب المناصرة»، وبرغم حالة الحرب المستعرة في السودان إلا أن اللافت فعلًا أن يفرد السودانيون مساحة للتضامن مع المقاومة والشعب الفلسطيني مجددًا منذ السابع من أكتوبر المنصرم.
تمثل ذلك في بيانات تضامنية للمكونات المدنية السودانية في الداخل والخارج، لا سيما وسط القوى الثورية التي رفعت لاءات ثلاثة في مؤتمر الخرطوم «لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض» مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق إلى أصحابه، الذي عقد بالخرطوم في 29 أغسطس 1967، وعلى أساس شعار الثورة السودانية «حرية، سلام، عدالة» وهي القاعدة التي لا يمكن تجزئتها، وجاء أيضًا في سياق شجب الموقف الدولي الذي يغض النظر عن الجرائم ضد المدنيين العزل والنزيف المتوصل هنا وهناك.
نصف عام ونصف شهر مضى منذ بداية الحرب وسطوة الخوف والعنف التي جعلت الواقع السوداني بعيدًا عن تحقيق حلم إرساء مجتمع أكثر سلامًا وعدلًا، تهاوي الوضع الإنساني والحقوقي كان الملمح البارز، أصبح السودان الآن بحاجة إلى السلام أكثر من أي وقت مضى، وتعالت قيمة المسؤولية الفردية والجماعية عن تعزيز السلام، والعمل لتحقيق التنمية المستدامة المؤدية إلى تكوين ثقافة سلام للجميع، لم تزل الحرب والصراعات تطلق العنان للدمار والفقر والجوع وتشرد الملايين، إضافة إلى التلوث البيئي في كل مكان، واتساع فجوات العدالة وعدم المساواة والاستقطاب السياسي الحاد، لكن مع استعداد ومساهمة مجموعة واسعة من الجهات الشبابية الفاعلة، يبرز الأمل مجددًا في أن تتحقق بعضًا من الأهداف وجزءًا من الأحلام التي انحصرت الآن فقط في إحلال السلام.
فارغ الصّدر
تعددت تقارير ومطالبات محلية ودولية خلال الأسابيع الماضية تنادي بإنفاذ الشرعية الدولية وتحقيق العدالة، لكن ومع مرور الوقت وتكرار الصمت الدولي لم يعد ضحايا الحرب في السودان ينتظرون الحصول على العدالة والإنصاف، بل أضحى جل همهم ألا يطول الضيم أكثر.
حتى الآن، تظهر آثار الحرب في السودان بفقدان البلاد سيادتها، وتحولها إلى مسرح لصراع مراكز قوة متعددة، بلا سلطة واحدة معترف بها أو مركز موحد لاحتكار العنف المقنن، أو جهة واحدة تمثل الدولة، وبذا تكون مسألة تحقيق العدالة لضحايا الحرب بعيدة وغير ممكنة في الوقت الراهن.
وقف الحرب أولًا، ووقف تداعياتها، هو ما يفتح الطريق أمام كل الخطوات المهمة التي تليها، ولا يستقيم القفز على المراحل، فضلًا عن أنه لا يمكن إجراء أي معاملة عدلية في ظل الحرب وغياب المؤسسات القانونية والعدلية وانهيار المحاكم وتشريد القضاة والمحامين، وهو ما يشير أيضًا إلى عدم القدرة على أن يتم ذلك داخل السودان خلال السنوات القليلة المقبلة.
أمر تحقيق العدالة للضحايا في السودان يمكن أن يتم فقط في حال تحرك المجتمع الدولي لتقديم المتهمين السابقين والجدد للمثول أمام «المحكمة الجنائية الدولية» للمساءلة عن الجرائم والانتهاكات الفظيعة التي لم تزل ترتكب بحق المواطنين السودانيين. وتظل مهمة استعاده الدولة السودانية هي أول المطلوبات، ثم تأتي البقية وبينها التفاكر حول السبل الكفيلة بتحقيق العدالة للضحايا.
وبحسب الأمم المتحدة، فإن النزاع المشتعل في السودان منذ 15 أبريل، دفع ملايين الأشخاص إلى مغادرة منازلهم، حيث نزح 5.9 مليون شخص في 3.855 موقعًا في جميع ولايات السودان البالغة 18 ولاية -لجأ أكثر من 1.2 منهم إلى البلدان المجاورة، ويضاف إلى ذلك أكثر من 3 ملايين نازح قبل النزاع الحالي، مما يجعل السودان أكبر أزمة للنازحين داخليًا في العالم- وأحصت الأمم المتحدة وقوع 921 حادثة اعتداء على العمليات الإنسانية 60% منها بسبب النزاع الفعلي والبقية عبارة عن أعمال عنف ضد العاملين في المجال الإنساني وأصوله الثابتة والمتحركة، بينها عدد 60 عملية هجوم على مرافق الرعاية الصحية منذ بداية الصراع، أدت إلى مقتل 34 شخصًا بينهم كوادر طبية وإصابة 38 آخرين، مما أثر بشكل أكبر على توافر الرعاية الصحية والعلاجية.
وتزامنت وقائع الحرب الدائرة في السودان الان مع انتشار أمراض وأوبئة مثل الكوليرا وحمى الضنك والملاريا والحصبة وغيرها، وتشير التقديرات الاممية إلى أن أكثر من 3.1 مليون شخص معرضون لخطر الإصابة بالكوليرا حتى نهاية كانون الأول/ديسمبر 2023، حيث تفاقمت الاوضاع الصحية بالقدر الذي دفع منظمة الصحة العالمية لوصفها بالـ«الوصول إلى نقطة الإنهيار» بحسب آخر تصريح صحفي للمنظمة، وذلك بسبب خروج أكثر من 60% من المستشفيات والمرافق والمراكز العلاجية ومراكز غسيل الكلى من الخدمة في كل السودان، وتوقف كل العمليات الوقائية وتلك المتصلة بالتوعية الصحية، وتناثر الجثث في كل مكان بمناطق الصراع، فضلًا عن تعرض الكوادر الطبية والصحية للموت والاعتقال والتشريد.
ضد إشاعة البشاعة
بينما تواصل تردي الأوضاع الإنسانية والحقوقية بفعل تزايد الانتهاكات ضد المدنيين العزل من منتسبي الأطراف المتحاربة، في مناطق الصراع المسلح وحولها، ارتفعت معدلات الحراك الحقوقي من مجموعات ومراكز وأفراد فاعلين في مجالات رصد وكشف وشجب تلك الانتهاكات، ونظمت حملة تطالب بمعرفة مصير المغيبين قسريًا من المدنيين بفعل أطراف النزاع ورفع 47 تشكيلًا مدنيًا مذكرة إبلاغ عن المئات من حالات الإخفاء القسري لمجلس حقوق الإنسان، مع تكرار التحذير من نقل الصراع للمناطق الآمنة نسبيًا، وعدم تعريض حياة المدنيين للخطر باتخاذهم دروع بشرية، ووقف عمليات الحط من الكرامة بأي داع كان، ومنع تنفيذ أحكام ميدانية دون الرجوع للمحاكم، وإدانة قتل أسرى الحرب والجرحى، والالتزام بالقوانين والأعراف.
صدرت خلال الشهر السادس من حرب السودان تقارير كثيرة حول الأوضاع الإنسانية، والتجاوزات الحقوقية، تناولت أوضاع النازحين داخل السودان واللاجئين السودانيين في دول الجوار، وحجم الانتهاكات والاعتقالات للمواطنين، وسمت بعض تلك التقارير قصف الاعيان المدنية وتحول المدنيين إلى أهداف عسكرية بأنها «أخطاء بسبب ضعف القدرات التسليحية وضمور المسؤولية»، بينما أكدت تقارير أخرى بأن «ليس في الأمر صدفة، فضرب الأهداف المدنية يتم بتخطيط مسبق من كل الأطراف المتحاربة بغرض زيادة الضغط على الأطراف الأخرى وتحميلها المسؤولية».
لكن كان الجديد في محتوى تقرير صادر عن «محامو الطوارئ»، وهي مجموعة حقوقية فاعلة في الدفاع عن محتاجي العون القانوني والناشطين في العمل العام، أنه أحصى ضحايا القصف الجوي والمدفعي من المدنيين خلال فترة خمسة أشهر نفذت فيها 160 عملية قصف مدفعي، و31 طلعة جوية لطائرات أصابت أهداف مدنية وتسببت في مقتل 954 من المدنيين، وإصابة 2434 آخرين في كل من الخرطوم العاصمة ونيالا بإقليم دار فور، والأبيض بولاية شمال كردفان، حيث كانت المرة الأولى التي تتناول انتهاكات الجيش السوداني المرتكبة بحق المواطنين العزل، وضم التقرير أيضًا إحصاء لعمليات نفذتها «قوة ثالثة، غير الجيش وميليشيا الدعم السريع»، وهو ما يجعل التقرير مهمًا وخطيرًا في آن، ويجعل لمطالبة «محامو الطوارئ» لمجلس الأمن الدولي باتخاذ إجراءات واضحة ضد أطراف النزاع في السودان وتوسيع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية لتشمل جميع مناطق السودان منطقيه ومطلوبة.
إزاء ذلك أعلنت مجموعات حقوقية أخرى عن عزمها على ملاحقة بعض الصحفيين السودانيين المحرضين والداعين لاستمرار الحرب، وبث خطاب الكراهية والدعوة للتطهير العرقي، وكشفت المحامية رحاب المبارك عضوة جماعة محامي الطوارئ الحقوقية عن ترتيبات لتقديم مذكرة مفصلة إلى المحاكم الوطنية حال تهيئة الأوضاع وإقامة القضاء العادل، ومتابعة الصحفيين المتورطين في إذكاء نار الحرب عبر المؤسسات الدولية المعنية في حال وجودهم خارج السودان، وهنا نلفت الانتباه إلى أن دمارًا مريعًا قد لحق بالمحاكم والمقرات القضائية والعدلية، والسجلات والمضابط المحفوظة فيها، وهو بالتأكيد ضياع لحقوق المتقاضين ونذير لانهيار المنظومة العدلية والقضائية بدرجة يصعب ترميمها قريبًا.
واشنطن على الخط
الشاهد أن الإدارة الأمريكية تعد لإطلاق حزمة ترتيبات ممرحلة، إلى جانب العقوبات المفروضة على «المؤثرين في الحرب الدائرة في السودان» وقوائم عقوبات تضم أسماء أخرى، تشمل تلك الترتيبات أيضًا تعيين مبعوث خاص للسودان يتبع للرئاسة الأمريكية مباشرة، وتجاوز حالة البطء في تحريك الملف السوداني الواقع ضمن اختصاص ومسؤولية مولي في مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية. وتتجه إدارة بادين إلى تسمية سفيرها في السودان. وبالرغم من التحركات الأمريكية، يتوقع بعض السودانيين أن يتحول السودان كله إلى ساحة معارك عسكرية بين الجيش والدعم السريع، في حرب يديرها علي أحمد علي كرتي، أحد زعماء الحركة الإسلامية السودانية، وفق ما ذكرت وزارة الخزانة الأميركية التي أوقعت عليه عقوبات كونه أحد أطراف إشعال الحرب، ثم رفض وتقويض اتفاق وقف إطلاق النار .
وفي هذا الاتجاه يرى الدبلوماسي السوداني السابق عمر عبد الرحمن «أن العقوبات رغم تأثيرها السياسي والدبلوماسي على المستهدفين بها لن تؤدي إلى إيقاف الحرب بشكل مباشر لأن الإدارة الأميركية وضعت السودان في أسفل قائمة أولوياتها، وأنها تتحرك بدفع وضغوط من الحلفاء الإقليميين مثل المملكة العربية السعودية».
بينما يرى آخرون أن العقوبات المفروضة على كرتي لا تتعدى كونها رسائل لدفع آخرين داخل تنظيم الحركة الإسلامية للتراجع عن الموقف الرافض لوقف إطلاق النار ودعم آلية منبر جدة التفاوضي، الشيء الذي قد يؤدي إلى رضوخ جزئي يصاحبه انقسام وسط صفوف الحركة الاسلامية، أو فرض عقوبات إضافية على التنظيم بأكمله بأهداف مزدوجة خصوصًا مع تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط، والتغيرات الميدانية واحتمال قيام ميليشيا الدعم السريع بإعلان «حكومة موازية للتكليف الوزاري المحدود الذي أعلن بواسطة الجنرال البرهان وشمل وزارات الطاقة والتعدين، والتجارة والتموين، والنقل، والعمل والإصلاح الإداري، مما قد يؤدي الى وجود حكومة تدار من بورتسودان، وأخرى في دارفور بينما تظل الخرطوم منطقة صراع، وهو ما لن توافق عليه واشنطن خصوصًا مع إحمال انهيار الحكومة التي يرأسها البرهان .
شراء الأسف
يبدو أن الكثيرين ممن كانوا ضمن دعاة الحرب في السودان قد تراجعوا، عدا قلة لها مراميها، وتمثل هذا التراجع في انحسار التناول المشجع على المزيد من استخدام العنف من كل الاطراف، ربما بفعل وقائع الحرب نفسها وما نتج عنها من دمار مقيت، لكن الأرجح أن الامل في أن تكون «حربا خاطفة» قد تضاءل، ولم تعد الحرب من الدروب المختصرة للانفراد بالسلطة أو العودة لها، مضى نصف عام دون أن يصل أي طرف من أطراف الاقتتال لما يصبو إليه أو ما أعلنه من أسباب الحرب التي سماها أصحابها (عبثية وبلا فائدة!) وهو ما كان يمكن تجنبه لو أنهم اصغوا للنصائح الغالية قبل البداية.
هذا وغيره من أسباب وعوامل داخلية تتمثل في فقدان السيطرة واحتمال المزيد من التشظي وأخرى خارجية برزت كشروط تملي وقف الحرب، بل تلوح بمحاسبة أطرافها وتشير إلى ضرورة إبعادهم عن المشهد السياسي القادم ورفض نشوء دولة فاشلة أخرى في المنطقة بحجم وتأثير السودان، قد يفسر ما رشح عن لقاءات سرية خارج المبادرات المعلنة يجريها مبعوثي الجيش و مليشيا الدعم السريع، بهدف إيقاف الحرب بأيديهم لا بدفع خارجي، لكن لم يؤكد أي من الطرفين صحة التسريبات حول تلك اللقاءات، وقد يفسر ايضا اتجاه كل الاطراف لمحاولة استمالة التعاطف الجماهيري بعد فترات من التيه تخللها خطاب متعالي.
اختلف الشيخان
يستند بعض المتابعين والمحللين الصحفيين على خلافات اعترت مؤيدي استمرار الحرب (الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني) الذين يشكلون طرفا مليشي ثالث في الحرب يقف إلى جانب الجيش في حربه ضد مليشيا الدعم السريع، واعتبروها مؤشرات لنهاية الحرب التي دخلت شهرها السابع ولم تزل الأوضاع تسير إلى أسوأ فيما تزداد الممارسات فظاعة.
المؤشرات حسب المتفائلين تتمثل في انحسار تدريجي للخطاب المتشدد الداعي للحرب خلال الأشهر الستة الماضية، وتصاعد خلافات لأسباب سياسية وتنظيمية وعسكرية داخل منظومة الحركة الإسلامية أثناء سير المعارك في الخرطوم، وانعكست في انقسامات باعدت بين قادة الجيش والقدرة على السيطرة ميدانيًا، وتباينت الرؤى وتعددت الخطوط السياسية بين الجماعات (الحزب والحركة) ودفع ذلك بعض القادة العسكريين إلى محاولة البحث عن حلول بعيدًا عنهما، خصوصًا وأن وجود الطرف الميليشيوي الثالث لم يحدث تغييرًا لصالح الجيش يمكنه من فرض آرائه الخاصة بمواصلة الحرب، أو يبرر إصغاء قيادة الجيش لهم، بل على العكس تسبب وقوف ذلك الطرف الطامح للعودة إلى السلطة التي فقدها عبر ثورة شعبية في خسران الجيش لتأييد قطاع كبير من مناهضي عودة النظام السابق بالرغم من عدم تأييدهم لميليشيا الدعم السريع أيضًا.
اقبلوا يتلاومون
التسجيلات الصوتية الآخذة في الانتشار والصادرة من الكوادر الخطابية للحركة الإسلامية أكثرت من صب اللوم على القيادة العليا للقوات المسلحة لا سيّما في الأسبوع الأخير من أكتوبر وبداية نوفمبر الجاري، وصلت في بعضها إلى حد الاتهام بالتواطؤ والخيانة مع ميليشيات الدعم السريع بغرض «التخلص من الجيش وتكملة مخطط خارجي» لذا أصبح من المتوقع أن ينفرط عقد التحالف بين الجيش وميليشيات الطرف الثالث (كتائب البراء وغيرها) التي عجزت عن فرض وجودها، وتعاني من جفاف حاد في مواردها المالية وتعثر في الأنشطة الاقتصادية لن يمكنها من مواصلة الحرب، أو يحدث اصطفاف جديد، لكن لم يزل احتمال إقدام «الحركة الإسلامية» على القيام بانقلاب يطيح بقادة الجيش وارد، لكنه في حال أن يحدث سيصدم برفض القادة الميدانيين من ذوي الرتب المتوسطة والدنيا والجنود، وهو الذي قد يوصل لوقف الحرب بعد تناحر داخلي مريع، وبعد مخالفة قوات أحد أطرافها للـ(الأوامر العليا) وبذا تكون قد سجلت سابقة جديدة في تاريخ الحروب العبثية والنهايات المأساوية.
حتى السودان
استنكر المراقبون الرفض والاحتجاج السوداني الرسمي، الذي تزامن مع ترحيب قطاعات شعبية سودانية واسعة بمشروع القرار الخاص بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة لتقصي الحقائق حول الجرائم والانتهاكات والجرائم المرتكبة خلال فترة الحرب في السودان، الذي قدمته لمجلس حقوق الإنسان في وقت سابق من هذا الشهر كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا والنرويج، وتواصل الرفض والاحتجاج الرسمي على القرار حتى عند اعتماده من قبل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جلسة الأربعاء 11 أكتوبر المنصرم بأغلبية 19 صوتًا مقابل 16 صوتًا وامتناع ممثلي 12 دولة عن التصويت الذي أظهر انقسام واضح في موقف أعضاء المجلس الـ47 حول القضية وبروز تباينات سياسية لم ترجح البعد الإنساني والقيمة المعنوية للقرار التي كانت تستوجب الموافقة بالإجماع دون اعتراض.
وبالرغم من أن القرار يتسق مع معطيات وضرورات الواقع في السودان، ويصب في مصلحة ضحايا الانتهاكات، فإن ممانعة السودان الرسمية على القرار الذي يصنف ضمن أقل درجات آلية التحقيق الاممية، فإن التصويت ضد القرار والامتناع عنه تم وفق أبعاد ودوافع سياسية لا علاقة لها بحقوق الإنسان، بالنظر إلى قائمة الدول الرافضة للقرار وهي الإمارات، قطر، المغرب، الجزائر، الصومال من المجموعة العربية، والصين، ماليزيا، باكستان ودول أخرى من الدول الآسيوية، ومن المجموعة الأفريقية ساحل العاج وإريتريا، مع امتناع دول أفريقية وآسيوية أخرى عن التصويت، وفي المقابل صوتت المجموعة الأوروبية والولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية لصالح القرار.
وتباين الموقف يوضح أن لاختلافها دوافع أخرى، تأكدت مسبقًا مع رفض الاجتماع التشاوري السنوي لمجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي وأعضاء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في مقر الاتحاد الأفريقي – أديس أبابا، الجمعة 6 أكتوبر – التدخل الخارجي في السودان لأنه قد يزيد من تفاقم الصراع، وهو امتداد لموقف الدول المجاورة للسودان المعلن في قمة القاهرة لكنه جاء مقرونًا بمناشدة للمجتمع الدولي لتقديم الدعم اللازم للاجئين والبلدان المضيفة لهم، مع المطالبة بفرض وقف الأعمال العدائية فورًا، وإقرار وقف دائم لإطلاق النار، ودعوا إلى استئناف عملية الانتقال السياسي وصولًا إلى إجراء انتخابات ديمقراطية لتشكيل حكومة يقودها مدنيون.
لكن ومع الترحيب الشعبي الكبير، لم تكن ممانعة السودان على أساس اعتبار القرار «تجاهلاً للآليات الوطنية والجهود الحكومية والاقليمية. وأنه لا أحد يهتم بحقوق الإنسان أكثر من حكومته» وفق تصريح ممثل السودان في المجلس، مبررة ولا مقبولة لأن (حكومته) هذه هي إحدى أطراف الصراع المسلح، والصحيح أن 120 منظمة سودانية تقدمت عند بداية أعمال المجلس في سبتمبر بمذكرة طالبت فيها بتشكيل لجنة تحقيق بشأن الأوضاع في السودان، واستبقت وزارة الخارجية السودانية القرار حين أصدرت بيانًا في نهاية الأسبوع الأول من الشهر الجاري أوضحت رفضها لمشروع القرار لأنه «ساوى بين الجيش والدعم السريع ولم يرتب الأولويات»، إما التصريح الداعي للاستياء والحسرة معًا فقد صدر من وزير خارجية السودان علي الصادق الذي وصف فيه القرار الخاص بالتحقيق والتقصي عن الانتهاكات بأنه «تجاهل الأولويات الراهنة بالسودان وتجاهل المجلس تعاونه مع آليات حقوق الإنسان» وهي أيضًا إشارة سافرة إلى أن رصد وكشف ووقف الانتهاكات والجرائم ليست أولوية حسب رؤية الوزير التي لم تتخل عن نبرة التعالي وتحقير المتصل بسلامة المواطنين العزل.
اللجان مرة أخرى
مثلما يحدث دائمًا عند تعثر القوى السياسية السودانية وعجزها عن طرح رؤى تعبر عن تطلعات المواطنين العاديين خرجت لجان المقاومة وهي القوى الثورية الشبابية التي أحدثت التغيير السلمي للنظام الجنرال البشير برؤية سياسية لإنهاء الحرب طرحتها للتداول الجماهيري وبينت فيها تمسكها بمبدأ السلمية وإغلاق الطريق أمام احتمال الانخراط في الحرب كطرف مستقل عن أطرافها الحالية، وتجدد تمسكها بالميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب، ولتجعل استكمال مهام ثورة ديسمبر 2018 شرطًا أول ومحور التقاء مع القوى الثورية الأخرى، وهذا ما يجعل ضرورة التفكير في مهمة إيقاف الحرب ضمن مشروع لإعادة توحيد القوى المدنية على أساس القضايا الوطنية، وهو في ذات الوقت إشارة مبكرة لكل من يعمل على وقف الحرب لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 15 أبريل حين اندلعت الحرب، فالواضح أن للجان المقاومة رأيًا في كل ذلك.
أرقام وأقوال
في نهاية الأسبوع الأول من أكتوبر أكد البنك الدولي أن اقتصاد السودان سوف ينكمش بنسبة 12% في العام الحالي ، حيث يعاني من وضع كارثي انعكس في تدهور قيمة العملة المحلية وارتفاع تكاليف المعيشة، ودمار البنى الأساسية، وتوقف حركة الإنتاج وخروج المستثمرين وأصحاب الأعمال عمليات النهب وتدمير البنوك والشركات والمصانع والمشاريع الإنتاجية. وعلى الرغم من ذلك، أتت تصريحات وزير المالية جبريل إبراهيم متفائلة حين قال في حوار عن الراهن الاقتصادي مع وكالة السودان للأنباء: «أنا مطمئن تمامًا لمستقبل الاقتصاد السوداني بعد الحرب، لأن السودان لديه إمكانات ضخمة وكبيرة جدًا غير متوفرة في معظم دول العالم مثل الزراعة والمعادن والثروة الحيوانية، تتطلب ترتيبات كبيرة تتعلق بعدم تمركز الخدمات في مكان واحد مثل العاصمة».
لكن الواقع يقول إن «الاقتصاد السوداني في الأصل كان يعاني من مشكلات عدة قبل الحرب وتفاقمت بعدها، منها انخفاض قيمة الجنيه وارتفاع معدلات التضخم والبطالة والفقر وأزمة مرتبات العاملين في القطاعين العام والخاص، فضلًا عن البطء المزمن من قبل الدولة في معالجة الأزمة الاقتصادية بكاملها».
وبالتأكيد سيكون لاستمرار وتصاعد القتال أو توسع رقعته آثارًا وانعكاسات سالبة، حتى الآن توقفت عجلة الإنتاج في العاصمة الخرطوم التي تعتبر مركز الثقل الاقتصادي في البلاد؛ إضافة إلى مناطق عديدة في إقليم دارفور وكردفان والنيل الأبيض والجزيرة، وخرجت نحو 400 منشأة تعمل في مجالات الصناعات الغذائية والدوائية في الخرطوم عن الخدمة تمامًا كما خسر 81.3% من العمال مورد رزقهم.
وتأثرت المشروعات الزراعية في كافة أنحاء السودان بسبب نقص تمويل العمليات الزراعية، وفقد نحو 20.4% من المزارعين والعمال الزراعيين مصدر دخلهم الوحيد. وبينما خسر 47.9% من العاملين في مجال الخدمات وظائفهم، كانت الحصيلة المتزايدة يومًا بعد آخر فقدان نسبة 50.3% من إجمالي العاملين السودانيين وظائفهم بسبب الحرب المستمرة بلا آفاق للحل.
وبعد أن انتصف العام الأول من حرب السودان التي اندلعت في 15 أبريل بين الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع-وأدت حتى الآن إلى مقتل أكثر من 9 آلاف شخص وتهجير أكثر من 5.6 مليون من ديارهم واحتياج 25 مليونًا إلى المساعدات الإنسانية- يظل السؤال المهم: هل يتخلى المجتمع الدولي عن شعب السودان، ولمَ لم يعمل بجدية على وقف الحرب وفتح ممرات آمنة لإجلاء المدنيين وإسعاف المرضى والمصابين وتوصيل الإعانات الضرورية لهم؟