السودان: ميلاد وعي
السابع والعشرون من نوفمبر/تشرين الثاني، تاريخ سيتذكرهُ جميع السودانيين على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم، لن ينسى أحدٌ منهم أول أيام العصيان المدني في السودان الذي انطلقت الدعوة له عبر هاشتاجات في مواقع التواصل الاجتماعي تنديدًا بتحرير سعر الصرف وارتفاع أسعار المحروقات والدواء الذي كان هو القشة التي قصمت ظهر البعير، حتى بعد أن عقد وزير الصحة الاتحادي بحر إدريس مؤتمرًا صحافيًا ظهر الجمعة الـ 25 من نوفمبر/تشرين الثاني، معلنًا أن هناك «ربكة» حصلت في تسعيرة الدواء وتم إعفاء الأمين العام للمجلس القومي للأدوية والسموم.
لا يعلم أحد حتى الآن إلى أين ستنتهي الأمور، لكن هناك من هجروا حالة البقاء في الأمان والخوف من المجهول، وحاولوا خلق واقعٍ أفضل مقررين الاعتصام في منازلهم، بعضهم لم تكن لتسمح ظروف عملهم بذلك، وآخرون انتموا للحزب الحاكم، وثارت ذات الأسئلة التي ظل الشعب يسمعها على مدى أعوامٍ وأعوام: من البديل؟ هل تريدون أن يكون السودان مثل سوريا، اليمن، مصر؟ ما الذي جلبتهُ ثورات الربيع العربي؟ إلى آخرين تبنوا ذات الرؤية معززين قولهم بالأمان الذي يحياهُ الناس.
لكنهم ربما جهلوا أو تجاهلوا أن السودان ليس هو العاصمة الخرطوم، وليس هو حتى مدينة أمدرمان، أو الخرطوم بحري. كم من أهل دارفور ممن فقد عزيزًا لديه أو فقد أسرته؟ لا أمان هناك، كم من دموعٍ حبست في محاجرها، كم من أم مكلومة على وليدها، أو على أولادها، كم من قرية هناك لم تبق منها سوى شجيراتٍ صامدة تشير إلى حياةٍ كانت هناك، فقدوا معنى الوطن، لاجئين في أوطانهم، في مخيمات اللاجئين هنا أو في الخارج، الأوطان البديلة، الوطن الذي يبقى قيد أفواه السياسيين وورش العمل!
كم من قرى تبعد بضع كيلومترات عن المدن لا أثر فيها للحياة كما ينبغي، هؤلاء الذين يتحدثون عن الأمن، يتحدثون عن أمنهم الخاص، عن حياتهم، لا عن الآخرين.
كم من شبابنا عبر البحر وغرق في عرض المحيط. كنتُ قد سألت أحد المهاجرين وقد استقر به المقام في إيطاليا. أخبرني أنهُ فقد ما يقارب الأربعين من أسرته الممتدة والقريبة جراء الحرب في درافور. قال إنهُ تعرض للموت مراتٍ عديدة خلال رحلته إلى هناك، لكن حياته برمتها تساوت مع الموت، إذ باع كل ما يملك ليصل إلى أوروبا، سنوات قليلة ويحصل على الجنسية وحين يعود إلى وطنه يعود محميًا لا يملك أحدٌ أن يغتصب حقه.
كان من المضني أن ترى حديث المخذولين وبعضهم رفاق، وكان المضني أكثر أن لا يشعروا بآلام الآخرين من إخوانهم في الوطن. أما وعاظ السلاطين فقد انتهى عهدهم، ما عاد يسمع لهم صوت، ما عاد المواطن يسمع إلا نداء الصلاة.
دارت الكثير من الأحاديث همسًا وجهرًا. كان التساؤل الأبرز: هل سيتفق الشعبُ أخيرًا؟ وقد حدث ذلك بنسبة لا تقل عن 50% وفق التقارير التي بثتها بعض القنوات الإخبارية كالجزيرة، والـ BBC، والحرة.
هل سينجح في إسقاط النظام؟ يدرك الكثيرون أن عملية التغيير أطول مما في أذهان الحالمين وفي ظل نظام ظل يحكم بقبضة من حديد لـ 27 عامًا، أما كسر حاجز الخوف فهو إنجاز في حد ذاته لآخرين.
ذهب آخرون إلى أن المشكلة الحقيقية التي يتناساها البعض، هي النظام العالمي ممثلا في البنك الدولي الذي وجه الحكومة بإجراء «الإصلاحات الاقتصادية»، وأنهم قادرون بشكل جيد على خداع الناس وبتكتيكات جديدة، وحكى لي صديق عن لقائه بأجانب قدموا لجامعة لخرطوم، قسم علم الاجتماع والأنثروبولجيا، بحاجة لمن يساعدهم في بحثهم عن الإثنيات والقبائل المسيطرة محدِّدين 3 قبائل، مدركين أن الدولة تنهار، وضمنوا سيطرةً اقتصادية وسياسية على الواقع، وبدأوا يفكرون فعليًا في المستقبل وأي قبيلة من الممكن أن تشكل قوى لتواجههم، وينتقد ذلك الصديق مثقفينا من أمريكا والخارج داعين الناس إلى اعتصامات واحتجاجات دون أن يخبروهم بالإجراءات التي يمكن أن تتخذها الحكومة والأجانب.
وعلى الرغم من تباين الآراء والضبابية التي تلف الموقف، وذلك دون وجود قيادة لهذا العصيان، لكن ذلك لم يمنع الكثير من فئات المجتمع من إعلاميين، ولاعبي كرة قدم، وفنانين، وبعض الفئات المستنيرة، من تبني الثورة ضد الظلم، ولو كانت تتشكل في أولى لبناتها.
حالةٌ من الترقب والتوجس، وحالةٌ من الصمت قبع فيها آخرون، نسي بعض مدعي حالة الأمن التي تسود العاصمة، ومطالبتهم بالمزيد والمزيد من الصبر ومحاولة إجراء تداول سلمي للسلطة، أنهُ لا تغيير من دون ثمن، ويتوجب علينا أن نؤمن أن الطريق طويل، وأنها البداية لنتوحد على الأقل وننبذ كل ما فرقنا، وكل ما تراكم على الشعب السوداني طيلة الـ 27 عامًا. نعم هناك أمل. صحيح أن الأمل قاتلٌ أحيانًا، إلا أنهُ الوعي بصعوبة ما نواجه وبضرورة مواجهته، وسنكون نحن الجيل الذي يقدم قربان الحياة لوطن يحتضر، وإن كانوا قلة.
وكما ذكر عالم النفس أريك فروم في كتابه «الإنسان بين الجوهر والمظهر»: «ليست هذه أول مرة في التاريخ تشير فيها أقلية إلى المسار الذي سيتخذه التطور التاريخي».