طوابير ولاشيء سوى الطوابير!

في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة في السودان، إذا كنت تريد أن تُموِّن سيارتك، أو كنت ممن يرتادون المواصلات العامة، فلا بد أن تكون ذا بال وصبر طويل. فمع شح الجازولين قد تضطر أن تنتظر دورك بالساعات أمام محطات الوقود في ظل اصطفاف المئات من السيارات من مختلف الأنواع.

أما إذا كنت ممن يفضلون الرياضة، فلن يفوتك متعة الوقوف في طابور العيش مثلا، فبالرغم من محاولات الحكومة السودانية للتدخل لحل تلك الأزمة بزيادة الدعم على الخبز، فإنها لا تلبث أن تتجدد مرة أخرى. فقد باتت المخابز في السودان تضج ازدحاما بالمواطنين، بينما يغلق بعضها الباب في وجه المواطن السوداني بحجة نقص القمح والطحين.

يعيش السودان، منذ بداية العام الجاري، تحت وطأة أزمات اقتصادية متلاحقة، وسط آمال تتجدد ثم تخيب، وظروف معيشية قاسية تُنذر بانفجار احتجاجات من قبل الشعب السوداني ضد نظامه، خصوصًا في ظل التصاعد الشديد لمعدل التضخم وتراجع قيمة الجنية السوداني وتخبط الحكومة وغياب قدرتها على تبني استراتيجية فعالة في مواجهة الأزمة.


الواقع الحالي للاقتصاد السوداني

طيلة الـ 20 عامًا الماضية، عانى السودان من أزمة اقتصادية خانقة بفعل العقوبات الاقتصادية الأمريكية عليه، والتي رغم رفعها في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2017، فإنه لا يزال يعاني من آثارها، كما لم يشطب اسم السودان من قائمة تمويل الإرهاب حتى الآن.

اشتدت الأزمة الاقتصادية بانفصال جنوب السودان في عام 2011، الأمر الذي تسبب في حرمان السودان من ثلاثة أرباع إنتاج النفط، الذي يمثل مصدرا مهما للعملة الصعبة. وما جعل الأمر يزداد سوءا، إقرار البرلمان السوداني للموازنة في 31 ديسمبر/كانون الأول العام الماضي، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية في إقحام السودان في حلقات مفرغة من الأزمات الاقتصادية المتتالية التي اشتعلت على أوجها منذ بداية العام الجاري.

إذ تضمنت زيادة سعر الدولار الرسمي والجمركي إلى 18 جنيها مقابل 6.9 جنيهات في الموازنة السابقة لها. الأمر الذي تسبب في قفز التضخم من 25% في ديسمبر/كانون الأول 2017 إلى أكثر من 50% في يناير/كانون الثاني من العام الجاري. ووفق ما أعلنه الجهاز المركزي للإحصاء، فإن التضخم في السودان قد ارتفع إلى 68.64% على أساس سنوي في سبتمبر/أيلول من العام الجاري مقابل 66.82 % في أغسطس/آب. وذلك نتيجة الارتفاع الشديد في أسعار السلع الغذائية في مقابل خفض الدعم.

ووفق ما قد كشفته بيانات رسمية وأوضحه المراجع العام في تقريره السنوي للبرلمان، فإن حجم الدين الخارجي في السودان بلغ 47.5 مليار دولار خلال عام 2017، كما أن مديونية الحكومة بحسب بنك السودان المركزي قد وصلت إلى 151.9 مليار جنيه، أي ما يقارب 3.2 مليار دولار بنهاية عام 2017.

أما بالنسبة لعجز الميزان التجاري، فقد بلغ في الربع الأول من العام الجاري 934 مليون دولار،وذلك بانخفاض قدره 13 مليون دولار، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وفق ما ورد في تقرير حول أداء موازنة الحكومة في الربع الأول لعام 2018. وكان صندوق النقد الدولي توقع في تقرير له استمرار العجز في حدود 9% من الناتج المحلي حتى عام 2022، وفي الأمد الأبعد في حدود 6.3%.


سياسات الحكومة في مواجهة الأزمة

خلال العام الجاري حاولت الحكومة السودانية احتواء الأزمة بأكثر من طريقة، لعل أبرزها:

1. تقليص النفقات

أعلن البشير في 10 سبتمبر/أيلول الماضي عن استراتيجيته في تخفيض الإنفاق الحكومي بنسبة 34%، وتقليص عدد الوزارات الحكومية من 31 إلى 21 وزارة،وتخفيض حجم المجلس الرئاسي وإعادة هيكلة الحكومة على مستوى الولايات.

وفي سبيل ترشيد الإنفاق أصدر الرئيس السوداني عمر البشير في الثاني من مايو/آيار 2018 قرارًا جمهوريًا بإعادة هيكلة التمثيل الخارجي. وذلك بإغلاق 13 ممثلية دبلوماسية للسودان في جميع أنحاء العالم، وتقليل عدد الدبلوماسيين في سبع بعثات أخرى إلى شخص واحد. جاء ذلك القرار بعد مرور أيام قليلة على إقالته لوزير الخارجية إبراهيم غندور، الذي وقف أمام البرلمان السوداني معلنًا عدم تقاضي الدبلوماسيين في البعثات الخارجية رواتبهم لمدة 7 أشهر، وأن منهم من هدد بالعودة إلى السودان.

2. التحرير الجزئي لسعر الصرف

كان البنك المركزي السوداني قد أعلن في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن خفض قيمة الجنيه السوداني مقابل الدولار بنسبة 63.8%، فأصبح السعر الجديد للعملة المحلية عند مستوى 47.5 جنيه للدولار الواحد لسعر الشراء مقابل 29 جنيها للدولار في الأسبوع السابق للقرار. على أن يتم البيع بزيادة 0.5% من سعر الشراء.

صاحب ذلك القرار توقعات سلبية من قبل الخبراء، إذ أكد علاء عبد الحليم، الخبير في شئون الاقتصادات الإفريقية، أن ذلك التراجع في سعر صرف الجنيه السواداني أمام العملات الأجنبية سيتسبب في زيادة أسعار السلع في السوق المحلية، الأمر الذي سينعكس سلبًا على المواطن السوداني.

كما أشار حسن بشير، أستاذ في الاقتصاد، إلى احتمالية تفاقم مشكلات التضخم وزيادة سعر صرف الجنيه في السوق الموازي مقابل العملات الحرة، لعدم وجود سيولة نقدية من تلك العملات يمكن للحكومة أن تضخها في السوق. في حين اعتبر محمد الناير، محلل اقتصادي، أن ذلك القرار يعد «خطوة ممتازة، كونها أفضل من التحرير الكامل من غير احتياطي نقدي من الدولار»، وأن ذلك القرار فيه تحفيز للمغتربين لجلب مدخراتهم إلى الداخل السوداني، والتي تقدر بنحو 6 إلى 8 مليارات دولار أمريكي. كما أنها في نظره ستزيد من حجم الصادرات.

3. إعادة جدولة الديون

أعلن رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية السوداني معتز موسى عن لجوء بلاده للاقتراض الخارجي بهدف توسيع رقعة التنمية في السودان، لا لسد العجز في الموازنة، مشيرًا إلى موافقة الصندوقين السعودي والكويتي للتنمية على إعادة جدولة ديون السودان لمدة 40 عامًا. وأن ذلك سيساهم بدوره في تنمية مشروعات البنى التحتية في مناطق الإنتاج.

في حين اعتبر خبراء سودانيون في الاقتصاد أن تلك الخطوة مهمة لدعم الإصلاح الاقتصادي، وتكشف عن حسن نية تلك الدول تجاه السودان ورغبتها في تجاوز تلك الأزمة. إذ أشار عصام الدين عبد الوهاب بوب، خبير اقتصادي، إلى أن تلك الخطوة تمثل انتصارا ونجاحا كبيرا للفريق السوداني المفاوض في هذا الأمر، وأن هذا القرار يعني رضاء من تلك الدول عن أداء الحكومة السودانية الحالية.

لكن عبد الله الرمادي، خبير اقتصادي سوداني، اعتبر ذلك حلا سريعا للأزمة لكنه «مؤقت»، فإعادة جدولة الديون لن تعين السودان على تحفيز الإنتاج وإعادة الاقتصاد إلى مساره الصحيح.

بيد أن السياسات الحكومية في السودان لا تزال مثار جدل بين الخبراء والاقتصاديين حول مدى جدواها، بين مستبشر ومتشائم من نجاح تلك السياسات في كبح جماح التضخم، لكن متابعين كُثرا يشيرون إلى أن السياسات المالية والنقدية التي اتبعتها الحكومة السودانية خلال العام الجاري لم تُسفر إلا عن «خروج نسبة كبيرة من الكتلة النقدية من الجهاز المصرفي، وتصاعد التضخم مما انعكس على أداء القطاع المصرفي بكامله».

وكانت الحكومة السودانية الجديدة قد قدمت وعودها عبر محمد خير الزبير، محافظ البنك المركزي،باتخاذ إجراءات إضافية جديدة في ميزانية العام الجديد 2019، من شأنها أن تكبح جماح التضخم المتزايد وسعر الصرف، إلى جانب العمل على تحديد سعر صرف واقعي، مصرحًا بإلغاء البنك المركزي لسياسة الموافقة على طلبات الاستيراد.