إدمان النجاح: لعنة تُفقدك حياتك
تستيقظ في صباح يوم جديد بعد تحقيق إنجاز ضخم بالأمس، قد يكون حصولك على دكتوراه فريدة، أو جائزة كبرى، ربما يكون زواجاً سعيداً أو حتى وظيفة مرموقة حلمت بها سنوات طويلة.
تختلف الإنجازات، لكن السعي والإحساس يحملانك دائماً لطريق واحد، طريق سعيت إليه مراراً وتكراراً، لتفاجأ بعدها بشعور.. اللاشعور! ما هذا؟!
أين ذهب النجاح! وكيف ذهبت معه أحلامي بالسعادة، أين شعوري بامتلاك السماء لحظة تتويجي بهذا الإنجاز؟ ذلك الشعور الذي ركضت طويلاً من أجله.
ما هذا «اللاشعور»؟ وكيف يطغى على عقلي لهذه الدرجة؟!
لم أعد أدري كيف أقف على مسافة واحدة من النجاح العظيم والفشل القاتل.
اجعلني أخبرك أنه تأثير «تكيُّف المتعة» أو كما يُسمى علميًا الـHedonic adaptation، أو Hedonic treadmill وهي نقطة مهمة يُحدِّدها عقلك ويُصّر عليها مهما بلغت النتائج، فيعود معك لنقطة الصفر، سواء بإرادتك أو رغماً عنك.
الشكل العلمي لهذا الشعور يُعني التأقلم على المتعة والنجاح أو الاعتياد على لحظات السعادة والحزن، ما يُحرك السلوكيات الإنسانية دائماً للعودة لمسارها المعتاد، ويعود معها لحالته الآمنة وهي توازن جميع المشاعر الإنسانية معاً.
وقد يظهر ذلك جلياً في شعورك بعد أول ملعقة من وجبة ساخنة انتظرتها طويلاً، أو إمساكك لهاتف ثمين ادخرت أموالاً كثيرة لشرائه، ويصل الأمر لأعلى المراتب الوظيفية التي يتمناها أي شخص. فكل إنجاز يعقبه توازن حتمي وكل هدف ضخم تُحققه يليه «اللاشيء».
هذا «التلاشي السريع» للشعور بالإنجاز سيدفعنا نحو تحقيق أهدافٍ مُتتالية للبحث عن الشعور ذاته، الذي يدفعك للمحاولة باستمرار حتى تألفه، ثم تعاود الكرّة من جديد، وهكذا تصل لمرحلة الإدمان وخلالها تلهث وراء النجاحات التي تُشعرك بذاتك وتلقى خلالها احترام وتقدير المحيطين، وهنا تظهر لدينا ظاهرة جديدة؛ هي إدمان النجاح.
إدمان النجاح الذي يرتبط في ذهن كل شخص بالسعي لتحقيق السعادة الدائمة، فيُفقد الأشياء لذتها ويفقد السعادة ذاتها!
إدمان النجاح: ندّاهة العصر الحديث
بين السعادة والنجاح معادلة واضحة، جميعنا يربط خيوطها ببعضها البعض، ولكن المفاجأة الكبرى أن يكون النجاح بداية قاسية لنوبات الاكتئاب والتوتر التي لن تنتهي يوماً.
الجميع يتوقع حصوله على السعادة الدائمة بمجرد اجتيازه اختباراً معيناً أو حصوله على جائزة لم يحقق أيٌّ من أبناء جيله مثلها، ولكن واقع الأمر أنها في بداية الأحيان تكون بداية اللعنة.. لعنة عقلية تكتسح معها الأخضر واليابس!
هذا ما يتوافق تماماً مع نظرية «مغالطة الوصول»، بمعنى أن هذا التوقع العقلي الذي تنتظر معه السعادة الدائمة، بمجرد وصولك لإنجاز معين، ينتهي بمرور وقت محدود لأنك بكل بساطة تألفه أو تتكيف معه، تبعاً لبحث المخ الدائم عن الاستقرار.
البحث عن المكافأة باستمرار هو محركك الأول لذلك عندما تخطط من أجل شيء ما، فأنت في وضع بيولوجي للشعور بالرضا عن ذاتك مقابل تحقيق هذا الشيء، وبمجرد تحقيقه وانتهاء شعورك المتوقع عند الوصول يتوقف إفراز هرمون الدوبامين المسؤول عن دوافع سعادتك وتعود نفسك إلى حالتها العادية وكأن شيئاً لم يكن وكأنك لم تفعل شيئاً.
هو إذن إنجاز يأتي مُحملاً بسعادة مؤقتة، ورغم تغيُّر نسب التكيف من شخصٍ لآخر بحسب دراسة أكسفورد فإن دائماً حب الانتصارات يتلاشى أسرع مما نعتقد.
فريدة وغيرها من الطامحين: ألا تكفَ عن الركض
هكذا نتحدث إلى أنفسنا في كل مرة نحلم ولا نحقق أو حتى إذا حققنا بالشكل الذي لا يُرضي غرورنا بالشكل الكامل، المفاجأة أن تعنيف النفس بهذه القسوة يزداد سوءاً حتى مع التحقيق الدائم للإنجازات، فيظلُّ الحديث ذاته.. بل يزداد حدة لتكرار حلقات سلسلة الإنجازات التي لن تنتهي يوماً.
وتلك هي تحديداً مشكلة صديقتي «فريدة»، إحدى مدمنات النجاح اللائي أعرفهن في حياتي، وخلال حديثها لـ«إضاءات» عن مشاكل الطموح المُبالغ فيه على حياتنا، كان حديثها مع ذاتها هو ما اعتدناه مراراً وتكراراً بين أنفس كل الطامحين؛ وهو تعنيف النفس لعدم حصولها على الإنجاز المطلوب في الوقت المحدد، مثلما تنوي الاستيقاظ مبكراً لإنجاز عدة أعمال مهمة، أو الحصول على عدد ساعات في تمرين معين تصل من خلاله لبطولة كبيرة، ولأي سبب من الأسباب تُفسَد مخططاتِك، ومعها تُفسد على ذاتك لذتها، ويبدأ جلد الذات والتعنيف ليأخذك لدرجة السخطواللوم ثم الحكم بالفشل.
هذا المجهود الشاق المتتالي الذي لن تعقبه راحة، يعتصرك وكأنك الجلاد الذي لن يرحم أبداً.
عن كلمات «فريدة الفتاة العشرينية حديثة التخرج التي تحمل كثيراً من اسمها قالت: «في سنة واحدة كانت إنجازاتي أكبر من كل أبناء عُمري؛ منصب كبير، مشروع ضخم، أصبحتُ مُدرِّبة بمجالي، حصلت على راتب أكبر، وتركت كل شيء سلبي ورائي وركضت كثيراً، لم أهنأ يوماً بجلسة بين الأصدقاء أو سهرة مع عائلتي، لطموحي الدائم وشغفي بعدم الانقطاع عنه».
تضيف: كانت المفاجأة لديّ أني لم أكتفِ! دائماً يتسرب إلي شعور بأنه ما زالت هناك طرق طويلة وخطوات كثيرة وطلبات لن تنتهي، أطلبها من نفسي يومياً وأفرضها على أعصابي بالقوة، ومجرد عدم إنجازها كاملة أقابلها بالسخرية من ذاتي ومن قدراتي.
وتتبع: خطواتي المتفرقة في أنحاء عدة، جعلتني لا أتقن أيًّا منها، وحتى إن أتقنتها كُلها.. لن أكتفي. يوم واحد كان فاصلاً بحياتي، يوم لم أجد فيه طاقتي! استنفدتها كاملةً، وقفتُ رافضة أي خطوة جديدة، أو حتى متابعة القديم، جلستُ وحدي ناقمة على ذاتي التي لم تشعر بالسعادة مع أي تحقيق.
ثم كشفت فريدة لـ«إضاءات»، أنها سألت نفسها «هل هذه النسخة الحديثة التي عشت أتمناها وأحلم بها؟ وكانت الإجابة بالطبع لا».
شعرتْ فريدة أن ثمة شيئاً ما على ظهرها، هناك خطأ وعليها إصلاحه، لذا بدأت تبحث من جديد عن ذاتها التي فقدتها أثناء الركض، ذاتها التي عنّفتها مراراً وطلبت منها فوق مستوى قدراتها حتى انهارت، اليوم بدأت البحث عنها مُجددًا ولكن هذه المرة لتُدلّلها وتسير بها في طريق هادئ بعيداً عن الصراعات.
إن لم تُنجز كثيراً فلا وجود لك
نجد دائماً خيطاً رابطاً ما بين إدمان النجاح والاكتئاب، ولكن لماذا يتأثر الناجحون بالاكتئاب على عكس المتوقع؟ تعتبر النقطة الأهم في الإجابة على هذا السؤال، هي «المنافسة».. المنافسة القاتلة للمتعة والسعادة.
تقول «ديبورا سيراني»، عالمة النفس ومؤلفة كتاب للتعايش مع الاكتئاب:
لذا مجرد فكرة السعي للكمال أو المثالية المُبهرة التي يتم تصديرها للمجتمع بالوقت الحالي وكأنها المسار الطبيعي للحياة في حد ذاتها تقتل للأشخاص استمتاعهم بالحياة.
لم تقف مآسي تلك المقارنات عند الأضرار النفسية بل تمتد إلى الصحة الجسدية، فقد أظهرت بعض الدراسات أن هوس الكمال يرافقه دائماً ارتفاع ضغط الدم، وبعض الإصابات بأمراض القلب.
وكأن البحث الدائم عن المثالية وإدمان النجاح وصفة مُتقنة للعيش في ضغط مزمن قد يُفضي إلى الموت في نهاية المطاف.
خدعة التواصل الاجتماعي: فخ المقارنات
كيف يتحول التواصل لمرض المقارنات، والمبارزة في الوصول لما هو أعلى من المحيطين، هذا تحديداً ما وصلت إليه السوشيال ميديا تحت مُسمى «التواصل الاجتماعي».
إذاً ما الدافع الأكبر الآن للسعي وراء المجهول أو ربما المثالية الزائفة، التي تتحول لمجرد مشاركة مع الغير كي ينال الشخص إعجابهم ومواكبتهم في تطوراتهم الحياتية الظاهرة.
في تدوينة شهيرة لإيلون ماسك قال، إن «الواقع يتكون من قمم عالية، وارتطام بالقاع، وضغط لا يرحم، لكن لا أحد يريد أن يعرف شيئاً عن النقطتين الأخيرتين».
الأفراد ببساطة يحبون رؤية النجاح في القمم فقط، بغض النظر عن ضغوطاتك وإخفاقاتك السابقة، دعهم لذاتك لا يهم، وكذلك نجد أن أغلب المشاركات على مواقع التواصل يغطيها الظهور بالأحداث السعيدة فقط، وإلا سيُقال عن الشخص مُتاجر بأحزانه.
على جانب آخر من مرض التظاهر التكنولوجي يخوض كثيرون مجموعات متتالية من الدورات التدريبية بلا هدف، حتى إذا كانت مدتها يوماً أو ساعة لا تؤثر تأثيراً جوهرياً في خبراتك، إلا أن الشخص يخرج بشهداتها لـ«فيسبوك» وكأنه مالك للأرض وما عليها بنجاحاته المتتالية التي عادة ما تكون زائفة. فقط من أجل البحث عن التقدير في عيون الآخرين، وكأن «زرار» اللايك هو من يحدد قدرك بينهم.
أحيانًا نُسرف في ربط القيمة بالتحقيق حتى تسحب معها كل لذتنا بالحياة، فعندما يكون لدينا عمل جيد، أو إنجاز كبير تكون لدينا قيمة شخصية ودور مجتمعي مهم. فمثلاً عندما يحدثك أحدهم للتعرف عليك، تقول مباشرة «أنا فلان (طبيب، مهندس، كاتب)»، دائماً هناك ربط بين حالة الوجود وألقاب الوظائف، كأهم نقطة تميزك.
من ثم تشاركها كأهم انتصاراتك، ويليها التباهي بالسيارات الحديثة والهواتف مع السفر والتجول من مكان لآخر، وهو ما يجري بإسهاب على صفحات التواصل الاجتماعي ويتسبب في موجات الاكتئاب التي اجتاحت مستخدمي «فيسبوك» و«إنستجرام» على الخصوص.
فرغم ظهوره المُبهج، فإن تلك الصور المُدمجة بهيروين المتع الزائفة، يصيب الآخرين بالاكتئاب مباشرة بعد مقارنة تلك الحيوات بحياته الهادئة الرتيبة، فيسعى فوراً لتحقيق ما يمكنه الافتخار به، من دون الشعور بأهميته أو استمتاعه الحقيقي به.
الأخطر هو تحول الموضوع لعادة طبيعية يسير عليها الجميع وكذلك نجح مطورو وسائل التواصل الاجتماعي في تحويلها لأمر ثابت نفعله من دون شعور، بمعنى أدق صنع عادات المستهلكين تبعاً لكتاب Hooked لخبير علم النفس الاستهلاكي Nir Eyal، الذي أكد أن كثيرين باتوا يسعون لتحقيق الإنجازات الشخصية فقط للتباهي بها عبر وسائل التواصل.
كيف نسعى للسعادة من دون أن تُطحن عظامنا؟
«لن يهدأ لي بال حتى أنجز ما عليّ بأبهى صورة ممكنة، وأتجنب كل الأخطاء المحتملة، وأحقق كل التوقعات العالية وأنتج ما أعمل عليه بلا عيب يُذكر».
في دراستهما بمجال «المثالية» أكد جوردون فليت، الأستاذ في كلية الصحة بجامعة يورك في أونتاريو بكندا، وبول هيويت أستاذ علم النفس في جامعة كولومبيا البريطانية، أن للمثالية المُزمنة ثلاثة أشكال:
- الكمال الذاتي: وهي التوقعات العالية جداً للإنسان من نفسه فينتظر معها المثالية في كل خطوة من حياته، يترتب عليها كثير من التوتر والقلق خلال أداء أي مهمة.
- الكمال الموجه نحو الآخرين: هنا يتوقع من الآخرين أن يكونوا كاملين، فيضع عليهم توقعات مرتفعة، ما يؤثر سلباً على علاقاتهم معاً.
- الكمال المحدد من قِبل المجتمع: أما هذا النوع فكيف ينظر المجتمع له وكيف تظهر انبهاراتهم لمثاليته الفريدة.
وأكثرهم سوءاً على نفسية البشر هو الكمال المحدد من قِبل المجتمع، فله القدرة على إضعاف الشخص أكثر من أي نوع آخر.
الحياة رحلة وليست وجهة
في واحدة من أشهر حكايات القصص الكارتونية الحديثة كانت قصة فيلم «سول Soul»، الذي يقرب لكثيرٍ منا. ليس قريباً فقط في طموحه وإخفاقاته، وربما عدم تقبل المحيطين لحلمه، بل كان الأقرب لنا باقترابه من لحظة تحقيق الحلم؛ الفجوة ما بين الانتظار المميت والفراغ القاتل، لا هو استمتع بهذا أو ترك نفسه لذاك.
فبعدما مرَّ البطل كثيراً بمراحل البحث والسعي وراء نقطة واحدة، وهي حفلته التي يلتقي فيها مع نفسه ويترافق مع سعادته، كانت صدمته الكُبرى فور تحقيق حلمه بالعزف في حفلة مع نجمة شهيرة، وهي اللحظة التي سعى طوال مدة الفيلم لها، بعدما كان مدرس موسيقى على بوابات فقدان الشغف من عمله الروتيني ورفض الجميع لحلمه وأولهم أمه، منذ اللحظة الأولى يسعى ويحلم ويحلم، لدرجة رفضه للموت قبل تحقيق الحلم.
سعادة عارمة تملأ أنحاء قلبه، وكأن روحه هي من تعزف وليست يداه، لتأتي مباشرة اللحظة الأشد وجعاً وقسوة، لفراغ ما بعد الإنجاز!
تساءل عما سيفعله بعد الحفلة الحلم، لتخبره نجمته الشهيرة بأنهم سيكررون يوماً ما حدث الآن.
بكلمات تملؤها المعاني راح يتحدث لذاته:
بعيون دامعة عازفاً على البيانو «لا أعلم كيف سأعيش حياتي، ولكن كل ما أعلمه أنني سأعيش كل لحظة منها»
تسلسل الأهداف هو أمر في غاية الأهمية، ولكن أثناء التنقل بين سلاسل الوصول لا مانع من التأرجح في حلقاتها وزد من استمتاعك أضعاف، فتلك اللحظات لن تعوض أبدًا.
الانتحار: ضريبة النجاح الأقسى
سواء كنت سعيدًا أو حزيناً، حققت إنجازاً أو أخفقت، ستعود سريعاً للاستقرار الحسي، ويليه الرجوع من حيث بدأت.
هذا تحديداً ما يحدث مع الرياضيين المحققين لإنجازات كُبرى تليها نوبات اكتئاب قد تودي بهم إلى الانتحار.
فأغلب الرياضيين الأولمبيين يواجهون «وباء» من الانتحارات المتكررة بعد نوبات حادة من الاكتئاب والشعور بالإخفاق تلي تحقيق نجاحات ضخمة؛ فبحسب الفيلم الوثائقي لمايكل فيلبس اللاعب الأولمبي الأكثر تتويجاً على الإطلاق، كأهم السباحين في تاريخ اللعبة من حيث النتائج والميداليات الذهبية، فكر في الانتحار مرات عديدة خلال مسيرته الرياضية.
عن مشاعر فيلبس اليائسة قال «الاكتئاب يصل لذروته بعد كل دورة ناجحة، هذا شيء ربما يتكرر حدوثه طوال حياتي»، وكانت أقوى مراحل حزنه الحاد التي مر بها وصوله للتفكير بالانتحار، لدرجة حبس نفسه خمسة أيام متواصلة من دون طعام أو نوم، حتى نال الاكتئاب منه.
ولم يكن هو الضحية الوحيدة ليأس ما بعد النجاح، لكن هناك أعداداً كبيرة تصل لأكثر من 166 لاعباً من الأولمبيين المنتحرين بالفعل بجميع أنحاء العالم، بعد التعطش للإنجازات وعدم قبولهم فكرة العودة للحياة الطبيعية بلا إبهار وبعيداً عن عيش لحظات لا تنتهي من البطولة.
كذلك مُبدعو التكنولوجيا، أبرزهم آرون شوارتز والذي كان منذ صغره طفلاً معجزة؛ تعلم الكتابة في الثالثة من عمره، وفي عامه الرابع عشر وضع أسس وقواعد نظام RSS وهي خدمة سهلت الوصول للأخبار فور نشرها، أيضاً كان من مؤسسي موقع Reddit لتبادل ومشاركة المعلومات والمقالات، وغيرها من الإنجازات الكُبرى في عمرٍ صغير.
وهذا الأبلكيشن تحديداً كان له سر من أسرار اللعنة على نفسية شوارتز، بعد بيعه مباشرة بـ20 مليون دولار، وإحساسه بالفراغ بعد عظمة الإنجاز، والوحدة لأنه أصبح يسأل نفسه ماذا سيفعل أكبر مما فعل بالفعل؟! ليتفاجأ الجميع بانتحاره! أنهى حياته في عامه السادس والعشرين، بشنق نفسه رغم ناجاحاته.. ببساطة لأنه لم يعد سعيداً.
كيف نعيش ضحايا وهمَ سعادة الوصول
هل سألت ذاتك من قبل لماذا تشعر بالفراغ مباشرة بعد تحقيق إنجاز يُعني لك الكثير؟ أو لماذا لم تحصل على السعادة المنتظرة؟
هذا السعي الذي يظهر واضحاً في أحلامنا وبخاصة طموحاتنا المادية والمهنية، لأننا نعتقد أنها في النهاية ستجعلنا سعداء.
إذن ماذا يحدث عندما يصبح الهدف الذي عملت طويلاً من أجله فجأة خلفك؟ جميع الارتباطات والمشاغل تختفي، وفجأة لدينا وقت لا نعرف كيف نملؤه. كانت سلسلة تسلم حلقاتها بعض وفجأة انتهت وعشت وحيداً بلا أهداف، فيصبح الحرمان منها أشد قسوة من امتلاكها!
«مهما سعيت لن تنال أكثر من 10% من سعادتك»، تلك هي الجملة الأهم في كتاب شهير عن كيفية السعادة باسم How of Happiness للباحثة سونيا ليوبوميرسكي، تناولت خلاله بعض الدراسات يتضح من خلالها أن ظروفنا لا تصنع معظم سعادتنا؛ فاعتقاد كثيرين- الخطأ- أن وصولهم لمرتبة مجتمعية معينة أو تحسين ظروفه المعيشية حتماً تزيد من سعادته هو أمر مستحيل.
فقد تكون صدمة بالنسبة لك عندما أخبرك أن ظروف الحياة بمختلف أنواعها التي تصبح وتُمسي في تحقيقها، تمثل مجرد 10% فقط من مستوى سعادتك مهما زادت أو قلت.
لأنها ببساطة حقائق ثابتة عن الشخص كالجنس والعمر، أو ظروف النشأة أحداث طفولتك وبلوغك، حتى درجتك العلمية، ومهنتك، دخلك، وظروفك المعيشية، انتماءاتك الدينية وحالتك الصحية، حالتك العاطفية، أصدقائك بطولاتك، إنجازاتك… جميعها مجرد 10%.
هذا ناتج عن Hedonic adaptation وهو قدرة الإنسان على التكيّف كما تحدثنا في الأعلى.
لكن ماذا عن 90% من مستوى سعادة البشر، فيتم تقسيمها حيث يكون لكل فرد نقطة محددة للسعادة، ودرجة استعداد خاصة به، تنشأ تدريجياً بناءً على العوامل الوراثية القائمة على الاستعداد الجيني، وهو الذي يقرر المستوى الأساسي من السعادة، وهذه النقطة وحدها مسؤولة عن نحو 50% من الاختلافات في السعادة من شخص لآخر.
والـ40% المتبقية تتمثل في أفكارك ومواقفك وأفعالك، كما تتلخص في نشاطاتك اليومية ومعتقداتك التي تسير بها، نظرتك للأمور، ومدى تكيفك معها.
بمعنى آخر، إن الطريقة التي تختارها أنت في سير مجرى حياتك هي الحالة الوحيدة التي تزيد من مستوى سعادتك أو عدمها، فمثلاً طريقة استمتاعك أثناء تأدية عمل معين أو تمرين مهم هو أسعد لقلبك من لحظة الفوز أو الترقية ذاتها.
تفكيرك الداخلي في ظروفك يحمل 40% من سعادتك على عكس ظروفك نفسها التي تحمل 10% فقط.
فإذا قررت يوماً صعود قمة جبل إفرست لتحقيق رقم قياسي لا مثيل له، فإنك لن تكون سعيداً طوال رحلة قد تستغرق 50 يوماً – على سبيل المثال – إلا لحظة وصولك قمة الجبل نفسها وتحقيق الهدف.. لحظة واحدة ينتهي بعدها كل شيء.
لحظة واحدة في مقابل 50 يوماً متتالية قضيتها في التوتر والقلق والإجهاد لاقتناص لحظة نجاح ستهرب منك سريعاً.
إذا كانت حياتك هي تسلق الجبل فلا بأس أبداً أن تسعى للوصول إلى القمة، لكن لا تنس أبداً أن تستمتع بكل يوم عشته من أيامك الخمسين.
هذا ما ختمت به «غريتشين روبين» المؤلفة الأمريكية حديثها في كتابها الشهير عن طريق السعادة أثناء السعي كيف يكون أغنى من الوصول ذاته.
فلا يهم أن تغير العالم ولكن يكفيك أن تعيش في تناغم وألفة معه، أو بمعنى أكثر مباشرة واختصاراً «ابحث عن المعنى تجد المتعة.. والسعادة».