«فتاة القطار»: كل الطرق تؤدي إلى الألم
استطاعت «بولا هوكينز» في روايتها «فتاة القطار» أن تجسد الألم، وحتى لا يفلت أي من القراء من قبضة هذا الألم فقد قدمت في روايتها تشكيلة فاخرة منه، ثلاث ألسنة تروي الألم، ثلاث قلوب تنزفه، وثلاث سيدات عشن ألمهن المختلف، القاسم المشترك الوحيد بين آلامهن أنه كان بسبب الحب، وأن المتسبب فيه شخص واحد استطاع ببراعة أن يدمر ثلاث حيوات. رغم أن الرواية تصنف تحت روايات الرعب النفسي إلا أنها تضج بالمشاعر الإنسانية، وتحتفي بالحزن بطريقة لا تجعل تلك المشاعر الإنسانية والعلاقات الاجتماعية التي تتبعها تطغى على طابع الرواية البوليسي.
ريتشل
البطلة الأساسية في الرواية هي «ريتشيل»، وهي سيدة مطلَّقة تستقل القطار يومياً إلى «لندن» وتطل من نافذته لتتلصص على ساكني البيوت التي تطل على المحطة، تختار بيتًا محددًا، يبعد عن بيتها السابق ببضعة بيوت لتراقب ساكنيه، وتنسج قصة خيالية حول الزوجين الذين تراهما يسكنان هذا البيت حتى أنها تطلق عليهم الأسماء.
كانت «ريتشل» هي النموذج الأوضح للألم، النموذج الذي لا يمكن تجاهله، مدمنة على الكحول، مطلَّقة بسبب إدمانها، وبلا عمل لنفس السبب أيضًا، «ريتشل» لا تقوَ على مواجهة الحياة، يؤلمها ما فقدته، ولا تستطيع تجاوز طلاقها، لازالت تحب «توم» طليقها، وتلوم نفسها في كل يوم على إدمانها ثم لا تفعل أي شيء حيال ذلك.
يمكن لأي امرأة أن تكون «ريتشل» ببساطة، ليس بالضرورة أن تدمن على الكحول لتكون مثلها، يمكنها فقط أن تحبس نفسها داخل مربع الماضي حتى تصبح نسخة طبق الأصل منها، يبدو أن المؤلفة أرادت أن تقدم للنساء أسوأ نسخة منهن، واستطاعت ببراعة شديدة أن تجعل القارئ يتعاطف مع «ريتشيل» ثم يكرهها، ثم يعود ليتعاطف معها بعد سطرين لا أكثر، المشاعر المتضاربة التي تصيب من يقرأ يوميات «ريتشيل» هي نتيجة طبيعية جدًا للفوضى التي تحدث بداخل المرأة عندما تحزن.
ربما كانت تلك المشاعر بكل ذلك الوضوح لأن المؤلفة نفسها، «باولا هوكينز» قد اختبرت نوعًا ما من الألم، فشلت كما فشلت ريتشل، فقد نشرت أربعة روايات عاطفية قصيرة لم يكتب لأي منهم أي نجاح، وأوشكت على الإفلاس واقترضت من والدتها كما فعلت «ريتشيل» بالضبط، بل كانت أكبر سنًا من بطلتها عندما تعرضت لكل هذا الألم، فكان من الطبيعي تمامًا أن تجعل القارئ يدخل معها في دهاليز بطلة الرواية النفسية، فهي تعرف كيف يكون الألم، حتى وإن اختلفت حدته واختلفت أسبابه، إلا أنها تعرفه، وقد أصرت على أن تنقله للورق وتمرره للقراء بكل أمانة.
ميجان
كانت «ميجان» هي الشخصية الثانية في الرواية، هي من كانت تراقبها «ريتشيل» من القطار. تختفي «ميجان» فجأة وتتورط «ريتشيل» في البحث عنها، «ميجان» أيضاً حزينة، ألمها يجعلها تتصرف على طرف النقيض من تصرف «ريتشيل»، لا يحبسها في مربع الماضي، بل يدفعها دفعًا للمستقبل، مستقبل طائش لا رأس له ولا ذيل، تعيش «ميجان» لتهرب من كل شيء، وحتى في أيام سعادتها الشديدة ورضاها، تظل تفكر في أن تترك كل شيء وراءها وتبدأ من جديد.
مثلما جعلت المؤلفة «ريتشيل» مدمنة على الكحول، جعلت بطلتها الثانية مدمنة على الأدرينالين، فهو الشيء الوحيد الذي يسكن الألم الذي يجتاح «ميجان» وهي تبحث عنه بضراوة وطوال الوقت، حتى يوردها للموت في اللحظة التي تقرر فيها أن تكف عن الهرب وعن تعاطي الأدرينالين.
استطاعت المؤلفة أن تورد طرفي النقيض في روايتها بنفس الحرفية، فكما جعلت «ريتشيل» مخلصة للدرجة التي تجبرها على الوقوف في مكانها والبكاء على حياتها السابقة، جعلت «ميجان» لا يمكنها أن تكون مخلصة حتى لو أرادت، وجعلت القارئ يتعاطف مع «ميجان» بنفس القدر تقريبًا الذي يتعاطف به مع الطرف الضعيف المنكسر الذي يستحق الشفقة.
استطاعت «هوكينز» أن تنفذ إلى ما داخل «ميجان» إلى الأسباب التي جعلتها مخطئة على طول الخط، أن تلمس الجزء المضيء من روحها، المضيء من فرط الاحتراق لإنسانية «ميجان»، فحتى المرأة المخطئة إنسانة لديها أحزان عميقة هي ما جعلتها تخطيء، وستجعلها تدفع ثمن تلك الأخطاء غاليًا، ولكن لم تستطع المؤلفة أن تقتل «ميجان» وهي مكروهة من القارئ، بل جعلته يبكيها ويسامحها تمامًا، وكان ذلك تمكن شديد من امرأة تعرف أن حظها كان أفضل من حظ بطلتها الثانية، فربما كانت «باولا هوكينز» ستصبح نسخة من «ميجان» لو لم تخدمها أقدارها.
آنا
أما «آنا» فكانت بين الاثنتين، لا تهرب مثل «ميجان» ولا تتجمد في الزمن مثل «ريتشيل»، بالأحرى نحن لا نعرف تصرف «آنا» الحقيقي تجاه الألم، فهي لم تكن تعرف أنها ثالث ضلع في هذا المثلث اللعين الذي يجمعها بالاثنتين الأخرتين، عرفتنا المؤلفة على ألمها في آخر الرواية، ربما خمسة أو ستة مشاهد فقط، اختارت فيهم «آنا» أن تواجه ألمها بالإنكار، ربما لو لم تخلصها «ريتشيل» من سبب الألم لاختارت أن تنكره للأبد، لن نعرف هذا أبدًا، نعرف فقط أنها حاولت أن تنكره، وأنها ساعدت ريتشيل في آخر لتتخلصا من الألم وقتها، وإلى الأبد.
الفيلم
الرواية مشوقة جدًا، وتغوص عميقاً في النفس البشرية، وقد اخترنا في هذا المقال ألا «نحرق» أحداث الرواية ولكن إذا لم تقرأها قريبًا، فلا نضمن لك ألا يقوم أحدهم بحرقها لك لأن الرواية تحولت إلى فيلم سينمائي ينتظر عرضه في السينما في شهر أكتوبر القادم، فاقرأ الرواية سريعًا، وعد لنا لأننا حتمًا سنتكلم عن الفيلم في مقال ليس بعيد، فانتظرنا.