دراسة جديدة: شجرة تطور الثدييات تتآكل بسبب البشر
في منتصف القرن الثامن عشر قام «كارس لنينيوس» عالم الأحياء السويدي بإطلاق اسم «ثدييات – mammals» -مشتقة من الثدي- على مجموعة كبيرة من الحيوانات تشمل الحصان والكلب والقرود والإنسان وغيرهم، ضمن نظامه الثوري الجديد لتصنيف الكائنات الحية.
قبل ذلك بقرابة 66 مليون سنة اصطدم نيزك عملاق بما يعرف الآن بـشبه جزيرة يوكاتان في المكسيك، مخلفًا وراءه الدمار، لينتهي بذلك عصر الديناصورات الضخمة،مع قرابة 70% من الأنواع الحية التي عاشت حينها. على الرغم من ذلك تمكنت الثدييات من تفادي الكارثة، لتعبر إلى عصر جديد، وتنمو بقوة التطور لتشكل أفرعًا جديدة مزدهرة من شجرة عائلتها.
إلا أنه وفقًا لدراسة حديثة نشرت بتاريخ 15 من أكتوبر/تشرين الأول الجاري في دورية «وقائع الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم-PNAS»، فحتى قوة التطور المذهلة لن تستطيع مسايرة النشاطات البشرية الضارة بالبيئة، وقد تحتاج إلى ملايين السنين لتتمكن من تعويض الخسارة الكبيرة المتوقعة في التنوع الحيوي للثدييات خلال الخمسين سنة القادمة.
قبل الحديث عن النتائج التي خلصت إليها الدراسة الأخيرة، ربما يجدر بنا توضيح مفهوم «التنوع الحيوي – Biodiversity»، والمقاييس التي يستخدمها العلماء لتقييمه، خاصة الذي استخدم في الدراسة الأخيرة.
نحو مقياس أكثر عقلانية للتنوع الحيوي
ربما يسهل تعريف التنوع الحيوي بأنه مجمل الثراء الحيوي على مختلف المستويات، أي من تنوع الجينات إلى الأنواع إلى النظام البيئي ككل، إلا أن تطوير مقياس فعال للتنوع الحيوي لا يزال معضلة، فكيف يمكن قياس التنوع الحيوي؟ وما أهمية ذلك؟
يمكننا الإجابة عن السؤال الثاني بأن تنوع نظام بيئي معين يتناسب مع قدرته على تخطي الأزمات، فانقراض نوع معين من غابات الأمازون لن يؤدي على الأغلب إلى انهيار النظام البيئي للغابة المطرية الغنية بالأنواع، ينعكس ذلك بدوره على البشر، حيث تقدم الأنظمة البيئية خدمات متعددة تقدر قيمتها بـ 33 تريليون دولار أمريكي.
كما أن توفر مقياس مناسب للتنوع الحيوي يعني إمكانية تنظيم جهود حفظ الأنواع لتقتصر على الأهم منها، حيث تقدر دراسة تعود إلى عام 2012 أن التكلفة المطلوبة للحفاظ على كل الأنواع المهددة بالانقراض تتعدى 4 مليارات دولار أمريكي سنويًا، وتصل إلى 76 مليارًا إن شملت البيئة التي تعيش فيها.
اقرأ أيضًا:لماذا يجب علينا إنقاذ الأنوع المهددة بالانقراض؟
بالعودة إلى السؤال الأول عن مقاييس التنوع الحيوي، يعد مقياس «ثراء الأنواع – Species Richness» الأكثر استخدامًا بين المختصين وغير المختصين،إلا أنه يواجه عدة انتقادات مؤخرًا، كون ثراء الأنواع لا يعبر بالضرورة عن حالة نظام بيئي، لأنه لا يشمل دائمًا التنوع على المستوى الجيني أو مستوى النظام ككل.
كما يشير باحثو جامعة آرهوس القائمون على الدراسة الحديثة إلى أن مقياس ثراء الأنواع يخطئ من خلال مساواته بين كل الأنواع في نظام بيئي محدد، فبعضها له دور بيئي أهم من الآخر. لتعويض ذلك يقوم مقياس «التنوع الوظيفي – Functional Diversity» بتقييم مقدار تكيف ومساهمة الأنواع في نظام بيئي معين.
اعتمد الباحثون في الدراسة الأخيرة على مقياس أحدث نسبيًا يعرف بـ«التنوع الفيلوجوني-Phylogenetic Diversity»، يقوم على تقدير تنوع التاريخ التطوري لسلالة معينة، بحيث يصبح حيوان «خنزير الأرض» -أحد آكلات النمل- الذي يمثل النوع الوحيد في فصيلته، أولى بالاهتمام من حيوان «الكسلان» الذي يعد أحدث نسبيًا من ناحية تاريخه التطوري.
حيوان خنزير الأرض، أحد الثدييات النادرة
لمقياس التنوع الفيلوجوني عدة ميزات، حيث يمكن قياسه بدقة، كما تشير دراسة أخرى نشرت هذا العام في دورية نيتشر المرموقة إلى أن الحفاظ على التنوع الفيلوجوني، يدعم بدوره التنوع الوظيفي، حيث إنه إلى حد ما تتمتع الكائنات المختلفة في تاريخها التطوري بسمات مختلفة، وهو ما يزيد من احتمال أن تقوم بوظائف بيئية مختلفة.
كما أن الحفاظ على نوع ذي تاريخ تطوري يقدر بملايين السنين يتوافق بشكل جيد مع مصطلح «الإرث التاريخي»، الذي عادةً ما يستخدمه مختصو الحفاظ على الطبيعة.
ولنعد الآن إلى كارثة الثدييات: هل يمكنها تجنب حادثة انقراض عظمى؟
يعرف العلماء حوادث الانقراض العظمى بكونها انقراضات جماعية يتلاشى خلالها ما يزيد عن 75% من الكائنات الحية، وقد مرت الأرض بخمسة أحداث مشابهة خلال 500 مليون سنة ماضية، ويعتقد العلماء أننا نعيش حاليًا في فترة انقراض عظمى سادسة بفعل النشاطات البشرية، ووفقًا للدراسة الأخيرة، فإن الثدييات لن تمر منه بسلام في كل الأحوال.
اختار الباحثون بشكل عشوائي 30 فرعًا مختلفًا من شجرة تطور الثدييات، بعضها منقرض والآخر ما يزال مستمرًا، مع إضافة حالة الثدييات المتوقع انقراضها خلال السنوات القادمة، من بيانات «الاتحاد الدولي لصون الطبيعة – IUCN»، قِيس معدل الانخفاض في التنوع الفيلوجوني منذ 130 ألف سنة، الفترة التي شهدت ازدهار جنسنا، كما قِيست الخسارة المستقبلية المتوقعة.
لتتوصل إلى أنه حتى في أكثر السيناريوهات مثالية، التي تعتمد عودة معدلات الانقراض إلى معدلات طبيعة بلا تأثير بشري، فإن التطور سيحتاج إلى قرابة 5 ملايين سنة ليملأ الفراغات في شجرة عائلة الثدييات، التي ستخلفها الخمسين سنة القادمة فقط، وأكثر من ذلك للوصول إلى التنوع الذي ساد قبل تطور البشر.
لتتخيل حجم الأزمة التي تمر بها الثدييات فإن أكثر من خُمس الثدييات المعاصرة مهددة بخطر الانقراض، ويتوقع الاتحاد الدولي لصون الطبيعة أنه ما بين 67% إلى 99% منها سينتهي إليه.
لقد قضى الانقراض خلال 2.5 مليون سنة ماضية فقط على أكثر من 300 نوع ثديي مختلف، أغلبها من الثدييات الضخمة مثل الكسلان العملاق، والماموث، والسنور ذي الأسنان السيفية؛ لتخسر شجرة الثدييات إرثًا تطوريًّا يمتد لما يزيد عن 2.5 بليون سنة، إلا أنه وفقًا للباحثين، فمن خلال الاهتمام بالأنواع ذات التاريخ التطوري المميز خلال مائة سنة قادمة يمكننا أن ننقذ نفس الكم من الإرث التطوري الذي خسره أجدادنا خلال 100 ألف سنة ماضية.
وإن كانت سيادتنا للكوكب مؤثرة بما فيه الكفاية لتحدث انقراضًا أعظم سادسًا، فعلينا ألا ننسى أن الحيوانات التي تتربع على قمة نظام بيئي معين هي أكثرها تأثرًا بانهياره!