التلميذ والأستاذ المغرور: ما بين بيتهوفن وجوته
لم يجمع بيتهوفن وجوته سوى لقاءٍ واحدٍ، ورغم ذلك، تعج علاقتهما بكثير مما يُمكن أن يُحكى، فلقد كان الرجلان إلى جانب «كانط» و«هيجل» من الرموز الثقافة الألمانية أو ثقافة «بروسيا» بين القرنين السابع عشر والثامن عشر ، وكان ألقهما عابرًا لبروسيا وغامرًا لأوروبا التي كانت تتباهى بأنوارها آنذاك.
قبل لقائهما الوحيد في مدينة «تبلتيسه» الهادئة في إحدى الضواحي التي تبعد عن «براغ» عاصمة التشيك قليلًا، كان الرجلان يعرفان بعضهما البعض منذ فترة طويلة، ولكن بمعرفة غير ندية.
لقد كان بيتهوفن مولعًا بـ«جوته» الذي عده نبي عصره، ومنذ طفولته تغذى على أدب جوته، وكرس له وقتًا طويلاً، فلقد كان يقرأ له بشكل يومي، ويظهر هذا في حديثه مع «بيتينا فون أرنيم» والتي كانت معشوقة الرجلين، حيث أحب جوته أمها في الصغر، وبعد وفاتها انتقل هذا الحب الممزوج بأبوة إليها، وهي أحبت بيتهوفن والتقته في غير مرة، فلذلك تشهد مذكراتها على عديد من المواقف بين الرجلين.
حين التقيا في المرة الأولى عام 1810 وقال لها بيتهوفن: «يُبهرني شعر جوته، لا يمكنني وصف الانبهار الذي يمارسه عليّ هذا الشعر بمحتواه وإيقاعه، حين أقرؤه أشعر كأنني مندفع وممسوس».
«إجمونت» بين الكلمة واللحن
على الرغم من الافتتان، لم يكن بين جوته وبيتهوفن كثير من السمات الشخصية يتشابهان فيها، بل كان الرجلان أقرب إلى التناقض والاحتقار في بعض الأحيان، وقد ظهر هذا التناقض واضحًا في مأساة الكونت «إجمونت» الفارس النبيل حاكم الأراضي المُنخفضة «هولندا» في مملكة إسبانيا العظمى، الذي عصى الملك «فيليب الثاني» ولم يطعه في إقامة محاكم تفتيش للمتحولين من شعبه للبروتستانتية وأعدم في بروكسل عام 1568م.
قام «جوته» بتحويل تلك المأساة إلى مسرحية نُشرت في عام 1788 وفي مسرحيته ركز جوته على مأساة الكونت وشهادته وفاء لأفكاره ولعب في تاريخية الحدث بما يتوافق مع الدراما وهذا كان من مآخذ نقاد عصره عليه ولكن جوته كان يرد قائلًا: «لو أردت أن أكتب تاريخًا عمليًا لكتبت، أنا شاعر». وعند تمثيلها على خشبة المسرح لحنها «بيتهوفن» بناء على طلب من جوته، وقد خرجت المقطوعة مستقلة بذاتها عن روح «إجمونت» المسرحية فلقد ركز بيتهوفن مقطوعته للتفاعل مع فكرة الحرية والثورة في حد ذاتها أكثر من مأساة إجمونت.
في أبريل 1811، قبل أن ينتهي بيتهوفن من «إجمونت» أخبر «بيتينا» التي ذكرت في مذكراتها أنه أرسل إلى جوته بكل تواضع مؤثر متوسلًا إياه أن يصدر حكمه عليه بمجرد أن ينتهي من المقطوعة، أرسل إليه قائلًا: «حتى لومك سيكون مفيدًا لي ولفنِّي على حد سواء، وسوف أستقبله برحابة صدر التلميذ الخاضع في كنف أستاذه». لقد كان بيتهوفن عاشقًا لأستاذه رغم أن الأخير كثيرًا ما يتجاهله، فسبق وأن أرسله إليه مع «بيتينا» من قبل ثلاثة مرات، ولم يلق ردًا، ومع ذلك لم ينطق بيتهوفن بكلمة توبيخ واحدة، أو ينفد صبره.
ورغم كل الخضوع في رسالة بيتهوفن إلى جوته، فإن رد الشاعر الألماني كان رسميًا محافظًا على مسافة بينه وبين بيتهوفن بأدب، بل كان الرد من الأساس مجاملة لبيتينا، وأخبر بيتهوفن أنه سعيد بتلقي موسيقاه عما قريب، فلطالما سمع كثيرًا مما يُذكر عنه بأعلى درجات الثناء، ولكن لم يسبق له أن سمع مقطوعاته التي يعزفها الفنانون الهواة الماهرون، وأجّل ذلك إلى أن يلتقي بيتهوفن ذاته. وبعد مرور أكثر من عام كامل على عزف موسيقى «إجمونت» للمرة الأولى في ألمانيا، كان جوته ما زال مفتقرًا للفضول لسماعها، وربما بدا وكأنه ينظر إلى بيتهوفن باعتبار مجرد عازف بيانو موهوب لا أكثر.
«هذا أنت جوته؟»
كان بيتهوفن في عصره مُحررًا للموسيقيين من التبعية لأهل القصور من القياصرة والأباطرة، فلقد كان أمراء ونبلاء أوروبا يتبارون في ما بينهم في ما يمتلكون من شعراء وموسيقيين ومُهرجين تُبعًا لهم كما يتبارون في ثرواتهم وإقطاعياتهم، وهذا ما أباه بيتهوفن على نفسه وحطم تلك الأغلال والقيود واستقل بنفسه ورفض عروض أباطرة من عصره عرضوا عليه أن يضمنوا له راتبًا مقابل التحاقه بقصورهم.
لقد وقف بيتهوفن ضد رغبة نابليون الذي كان يتوسع بإمبراطوريته في فيينا آنذاك، وأخيه جيروم بونابارت ملك فيتسفاليا وغيرهم من أمراء بروسيا قائلًا قولته الشهيرة: إن الأمراء والملوك والأباطرة والقياصرة وجدوا بالأمس وموجودن اليوم وسيوجدون غدًا، أما بيتهوفن، فهناك واحدٌ فقط!». كانت تلك كلماته في في شدة عوزه وضيقه، بل كان يتضور جوعًا في بعض الأحيان كما كتب في يونيو 1823 قبل موته بأربع سنين وهو يؤلف سيمفونيته التاسعة: «من الأول إلى السادس من يونيو، يا لها من تعاسة، إني لم أذق طعامًا منذ ستة أيام!».
كان «جوته» على العكس من ذلك رجل قصر بامتياز، ورجل دولة أيضًا، ولكنه حافظ لنفسه على مكانته ولم يكن رخيصًا مأجورًا، بل كان قدره معلومًا في زمانه من الأمراء والعامة على حد سواء، فمنذ أن لبى جوته دعوة الدوق «كارل أوجست» الذي تقلد حكم إقطاعية «فايمار» أصبح جوته رجل دولة ومصلحًا سياسيًا وعضوًا في المجلس السري الاستشاري للدوق فتطبع بطباع النبالة وبرجوازية عصره.
في عام 1812، وبينما كان جوته يقيم في مدينة «كارلسباد» التشيكية تلقى جوته دعوة من دوقه الأكبر للحضور فورًا إلى «تبلتيسه» حيث تريد إمبراطورة النمسا رؤيته والتحدث معه. وفي تلك المدينة، كان يقيم بيتهوفن الذي حدثته كثيرًا «بيتينا» عن ولعه للقُياه، وهنا، تغلب فضوله على نفوره الفني، واستدعى بيتهوفن في تلك المدينة المليئة بالأباطرة وأتباعهم الذي كان قد كتب رسالة إلى أحد أصدقائه قبلها بيوم وقلبه يقفز من الفرح: «جوته هنا، جوته هنا!».
وحين اجتمع الرجلان، رأى جوته موهبة «بيتهوفن» تتجلى أمام ناظريه فكتب إلى زوجته «كريستين» يوم التقى بيتهوفن قائلًا: «لم أر قط فنانًا أكثر قوة وتركيزًا وحيوية وأكثر حماسة من هذا الرجل»، تلك الكلمات حين تخرج من جوته لا يمكن أن تكون ثناءً بسيطًا، فطيلة حياته، لم يعترف جوته أبدًا بتفوق أي شخص من معاصريه إلى هذه الدرجة.
وفي اليوم التالي، طلب جوته من بيتهوفن الخروج للتسكع سويًا في شوارع «تبلتيسه» وأثناء تمشيتهما وانزعاجهما من تحيات المارة المستمرة، صادفا مرور إمبراطورة النمسا وحاشيتها، هنا تسمّر جوته في مكانه خالعًا قبعته ومنحنيًا لها، بينما وضع بيتهوفن رأسه على قبعته مثبتًا إياها وأكمل سيره شامخًا، وقد ألقت الإمبراطورة التحية عليه ولم تلق التحية على جوته لأنها لم تعرفه من انحناءة رأسه، وبعد أن انتهى الموقف جذب بيتهوفن جوته من ذراعه قائلًا له: «هذا أنت جوته؟ أتنحني لهم وهم الذين يجب عليهم الانحناء لك ولي!» وكانت تلك قرصة أذن من تلميذ استكبرها جوته وأسرّها في نفسه.
كانت قرصة الأذن الثانية التي جعلت جوته جافيًا في علاقته مع بيتهوفن بعدها ببضعة أيام حين التقى الرجلان في منزل جوته وعزف بيتهوفن «إجمونت» كما تحكي «بيتينا» في مذكراتها، وحين انتهى من العزف وجد دمعة في عين جوته متأثرًا بعزفه ولكنه فاجأه برد غريب قائلًا:
كان جوته مصعوقًا من رد الفعل غير المتوقع من بيتهوفن، وقد كتب لصديقه الموسيقي «زيلتر» قائلًا: «لقد تعرفت على بيتهوفن، وموهبته تذهلني، لكن لسوء الحظ، أنه مجنون تمامًا، وأصبحت أرى أنه من الطبيعي أن يرى أمثاله تلك الحياة مكانًا كريهًا، ولكنه بتصرفه هذا لا يزيد سوى من متاعبها وثقلها، ورغم ذلك، فآراه شخص يستحق الشفقة والعذر، فأن يفقد «موسيقي» سمعه بالتدريج، لا شك أن ذلك كفيل بأن يجعل منه شخصًا أكئب ويجعله أقل قدرة على التحلي باللباقة الاجتماعية».
لم يستطع بيتهوفن أن يترك انطباعًا قويًا في نفس جوته، فلقد كان في ذلك الوقت عليل الجسد، والقلب، حيث كان يعاني عذاب إحباط حبه من «محبوبته الخالدة» ولم يلتقِ الرجلان أبدًا بعدها، فلقد كانت تلك أيام «بيتهوفن» الأخيرة في «تبلتيسه» حيث أمره طبيبه بالعوده إلى «كارلسباد» بمجرد أن ينتهي من علاجه الطبيعي في حمامات تلك الضاحية الدافئة.
الرسائل الأخيرة
حين اشتد الفقر والعوز على بيتهوفن في أيامه الأخيرة، أرسل إلى جوته عام 1823 يتوسل إليه أن يساعده بالوساطة لدى دوق فايمار ليساعده على نشر مقطوعته «ميسا سولمينس» ويساعده في تعليم ابن أخيه الذي يفتخر به كل الفخر، ولم يستجب جوته لتلك الرسالة.
لم تكن تلك عجرفة من الشاعر، فمنذ فبراير 1823 كان جوته قد أصيب بمرض خطير، وقد وصلت رسالة بيتهوفن في الخامس عشر من نفس الشهر، وكان جوته قبلها بيومين قد تعرض لنوبات أدت إلى مرضه بشكل عنيف وخطير في الثامن عشر من نفس الشهر، حيث لم يبارح كرسيه أبدًا، ويجلس طيلة يومه في حالة من الحمى والهذيان، وكان يصرح لأطبائه: «لن تنقذاني، الموت ينتظرني متربصًا في كل زاوية، أنا ضائع واحتضر». وقد كان يدخل معهم في معارك بسبب منعه من الشرب، فيقول: «إذا كان لا بد لي من أموت، فلأمت بطريقتي الخاصة». وفي غضون شهر من ذلك، تحسن جوته وعادت له صحته القديمة، ولكن في غضون ذلك كله، لم يعرف برسالة بيتهوفن، ولم يعرف بيتهوفن بمرضه.
ولكن تسجل الأدبيات أن لبيتهوفن حديثًا عن جوته خاضه بعد عشر سنوات من لقائهما، بعد أن فقد سمعه بالكامل، ففي عام 1822 صرخ طربًا ضاربًا على صدره بينما يُحدث الكاتب المسرحي «يوهان روشليتز» عن ذكريات لقائهما الوحيد قائلًا: «هل تعرف جوته العظيم، لقد التقيت به منذ زمن طويل، لم أكن أصمًا في ذلك الوقت كما أنا الآن، لكن مع ذلك كنت أواجه صعوبة في السمع، آه، كم كان الرجل عظيمًا معي وصبور، وكم أسعدني لذلك». وبنظرات شخص مُتيم أخبر روشليتز: «سأقتل نفسي عشرة مرات من أجله لو طلب ذلك!».