النضال في زمن اللامبالاة: 3 قصص والمقصد واحد
في عالم تحكمه اللامبالاة وتُضيع عليه كل مكتسباته البشرية التي أدركها بعد معاناة وحروب وتضحيات ونضال كثيرين، باتت قيم الإنسانية في مهب الريح، وتَنحت العدالة والمساواة والحرية لصالح وضع استهلاكي يُحولها إلى سلع ومنتجات يمكن بيعها وشراؤها في سوق للمعروضات، يُعرض في هذا السوق كل شيء بداية من السياسة داخل أروقتها الخاصة إلى القوانين التي تشتري الشركات حق إقرارها في البرلمانات، إلى الحروب التي تُسند إلى شركات السلاح والحراسات الخاصة وشركات إعادة الإعمار، لتصبح كل تجليات هذه القيم خاضعة لسيطرة السوق وتحت رحمة العرض والطلب وحسب قدرة الأقوياء الشرائية.
لكن حالة «السيولة» هذه كما يسميها زيجمونت باومان، أو وضعية «الفراغ» تلك كما يوصّفها جيل ليبوفيسكي، لم تتحكم في العالم لمؤامرةٍ تَخُطها أطراف خفية أو تُوجِدها منظمات شيطانية؛ لكن الأمر هو لامبالاة الأغلبية من البشر تجاه المعارك التي تدور بين المناضلين والأنانيين المُنتفعين، بل ربما هي لامبالاة شديدة العمق في أصولها تصل حتى إلى أهم ما يطلبه العقل البشري وهو «الحقيقة»؛ الحقيقة التي لم تَعُد تعني في عالمنا اليوم أي شيء، ويَلقَى الباحث عنها كل العنت والاستهزاء، بل والعنف الرمزي والمادي سواءً من السلطة أو من المجتمع.
في غمرة هذه الحالة، تُحاول السينما كعادتها أن تذكّرنا بأهمية تلك القيم وضرورة النضال في سبيل تحقيقها، وبطبيعة الوضع المأساوي للامبالاتنا. وفي خلال هذا المقال، سوف أستعرض ثلاثة أفلام مختلفة القصص متشابهة المقصد علها تستفزنا فنُغَير شيئًا ونخرج من لامبالاتنا.
«The Post»: الدفاع عن الحقيقة وفضح السلطة
يذكرنا فيلم The Post بالجدل الذي أثارته الصحافة الأمريكية (النيويورك تايمز أولاً، ثم ذا بوست) في السبعينات، فترة حكم الرئيس نيكسون، والفضيحة التي سببتها للبيت الأبيض حول طبيعة الحرب في فيتنام واستمرار الولايات المتحدة بإرسال شبابها إلي جحيم حربٍ خاسرة، فقط حتى لا يظهروا بمظهر العاجز المهزوم.
مجموعة من الوثائق السرية التي يملكها البنتاجون، وهي عبارة عن دراسة مستفيضة لأوضاع الحرب ومدى تقدمها أو تراجعها، يحصل إلسبيرج (أدى شخصيته الممثل ماثيو ريس) بحكم طبيعة عمله كمحلل عسكري يعمل في معهد راند، على نسخة منها من 7000 ورقة تكشف كذب الحكومة في شأن فيتنام، ويُسرب جزءًا منها إلى النيويورك تايمز التي ستقوم بنشرها وسيؤدي ذلك إلى تعليق أعمال الجريدة.
يدور الفيلم حول كاثرين جراهام (ميرل ستريب) التي وصلت إلى إدارة جريدة The Post بعد انتحار زوجها الذي ورث إدارة الجريدة من والدها، وحول بن برادلي (توم هانكس) مدير التحرير الذي تنازعه رغبته في تحقيق شهرة خاصة من ناحية، وفضح أكاذيب الحكومة من ناحية أخرى. تصل بقية النسخة المسربة إلى أيدي بن برادلي في الوقت الذي كانت الجريدة فيها تعاني من تراجع وانتكاسة دفعت كاثرين جراهام إلى تحويلها إلى شركة مساهة وطرح أسهمها في البورصة.
في الوقت الذي تصل فيه النسخة المسربة إلى بيت بن، يجمع كل محرريه في معسكر مغلق لترتيبها وتحريرها ليتم كتابة مقالة عنها ونشرها في الصفحة الأولى. لكن الأمور تتعقد، فمن ناحية تقع كاثرين مديرة الجريدة تحت ضغوط موظفيها ومحامييها والحكومة وتحت ضغوط علاقاتها الشخصية بالبيت الأبيض، هذا من ناحية، وضغوط خوفها من تهديد مستقبل الجريدة من ناحية أخرى، فقرارها أشبه بمراهنة غير محسوبة يمكنها أن تطيح بالجريدة إلى الأبد. تحت تلك الضغوط، تقرر كاثرين المخاطرة بكل شيء ونشر المقالة.
بمجرد نشر المقالة، أصدرت المحكمة العليا أمرها بتعليق نشاط الجريدة، وعليه قامت الجريدة برفع قضية والوقوف أمام المحكمة وانضمت إليها جريدة نيويورك تايمز وعدد من الجرائد الأمريكية الشهيرة التي قامت بنشر أجزاء أيضًا من الوثائق المسربة، ليأتي التصويت لصالح الصحافة ويتم رفع حظر نشر المادة.
في نهاية الفيلم، تتم الإشارة إلى القضية التالية التي سوف تطيح بنيكسون تمامًا؛ ووتر جيت. وفي عام 2011، تم رفع النسخة الكاملة من الأوراق المسربة بخصوص فيتنام على الإنترنت.
بخصوص جدوى هذا الفيلم في هذا التوقيت، يتحدث المخرج سبيلبيرج بأن توقيت الفيلم كان مناسبًا للغاية بعد سنة من إدارة الرئيس دونالد ترامب، فهو يصرح للجارديان: «إن الحاجة المُلحة لصناعة هذا الفيلم كانت بسبب المناخ الذي تفرضه إدارة الرئيس ترامب، وقصف الصحافة وتزييف الحقيقة متى ناسبهم الأمر». ويتابع: «أنا في الحقيقة حزين من انتشار هاشتاج (الحقائق البديلة) لأنني مؤمن بحقيقة واحدة، وهي الحقيقة الموضوعية». وكأنه في هذا الفيلم يريد أن يوجه حديثه إلى الصحافة ويذكّرها بماضيها النضالي، وأن تقوم بواجبها في فضح السلطة والدفاع عن الحقيقة ولا تستسلم للضغوط أو اللامبالاة، وأن توجه أسلحتها إلى ترامب وتفضحه كما فضحت غيره.
«Three Billboards Outside Ebbing, Missouri»: الدفاع عن العدالة والصدام مع السلطة
يدور الفيلم حول قصة امرأة شجاعة هي ميلدريد هايس (فرانسيس ماكدورماند) تقوم بوضع إعلان على ثلاث لوحات إعلانية كبيرة في طريق خلفي مؤدٍ إلى بيتها مكتوب عليها بالأسود على خلفية حمراء: «اغتُصبت وهي تحتضر، ولم يقبض على أحد، كيف هذا يا كابتن ويلبي؟»
تحاول ميلدريد أن تدفع الشرطة إلى ممارسة عملها وتستأنف التحقيق حول اغتصاب ابنتها وقتلها، وأن تتخلى الشرطة عن تقاعسها واهتمامها بأشياء أخرى كاستهداف السود. بسبب فعلتها تلك، تنقلب المدينة رأسًا على عقب، فكابتن بيل ويلبي (وودي هارلسون) هو رئيس وحدة الشرطة في مدينة إييبنج، وهو رجل محبوب من الجميع، وباتهامها المباشر له فهي لا تستعدي فقط الشرطة، ولكن أيضًا مجتمع المدينة بأسره من أول طبيب الأسنان إلى القسيس وحتى أصدقاء ابنها وشركة تأجير اللوحات نفسها.
تحت الضغوط التي تتعرض لها ميلدريد ولامبالاة الشرطة والمجتمع بقضية ابنتها وضرورة محاسبة المجرمين، تقرر ميلدريد تحويل قضيتها إلى الإعلام وزيادة الضغط على الشرطة، ورغم كل تطمينات كابتن ويلبي وتهديدات الشرطي ديكسون (سام روكويل) وهو الشرطي الأحمق والعنصري المتهم بالاعتداء على شاب أسود في الحجز، تستمر ميلدريد في النضال لأجل قضيتها بكل الطرق مهما كانت عنيفة وقاسية.
نتيجة للضغوط المتزايدة من المجتمع إلى درجة حرق اللوحات، تقرر ميلدريد الانتقام وإحراق مقر الشرطة بزجاجات المولوتوف الحارقة، في الوقت الذي سوف تتحول فيه شخصية ديكسون وتبتعد عن حماقاتها المعتادة نحو فعل شيء صحيح ولو لمرة واحدة، ليلتقي مصادفة بشاب تحدث عن اغتصابه لفتاةٍ وإحراقه لها، فيقرر ديكسون الحصول على حمضه الوراثي لإثبات أنه هو مرتكب الجريمة.
حتى هنا تبدو القصة جيدة نسبيًا، لكنها تأخد منعطفًا يطرح علينا سؤالا أخلاقيًا نحن كمشاهدين؛ فبعد تحليل الحمض الوراثي لا يتطابق مع مرتكب جريمة اغتصاب ابنة ميلدريد، ويظهر أن هذا الشاب لم يكن موجودًا أصلا فترة حدوث الجريمة، إنما كان مقيدًا بالخدمة العسكرية في مكانٍ ما؛ وعليه تقرر ميلدريد وديكسون الذهاب إليه وقتله لأنه ارتكب هذه الجريمة في حق فتاة ما في مكان ما، وأنه يستحق العقاب عليها حتى ولو لم يكن له صلة بالجريمة الأصلية.
الفيلم مليء بالتفاصيل والشخصيات والحبكة المقنعة، وإن نجح في جعلنا نتعاطف مع قضية ميلدريد ونعجب بنضالها وسعيها إلى تحقيق العدالة على الرغم من وسائلها القاسية. فهل يمكننا موافقتها على موقفها في آخر الفيلم؟ وإن كانت الإجابة هي «نعم»، فكيف يجب أن يكون موقفنا تجاه لامبالاة العالم؟ وما هي طريقتنا الخاصة لتحقيق العدالة؟
«Roman J Israel, Esq»: الدفاع عن الحرية ضد ابتزاز السلطة
يدور الفيلم حول المحامي رومان إيزرائيل (دينزيل واشنطون) وهو محامٍ عبقري، لكنه مغمور نتيجه لطبيعة عمله ولاعتقاداته المثالية. يعمل رومان في شركة محاماة صغيرة في لوس أنجلوس بالشراكة مع أستاذه ويليام جاكسون، وهو مناضل حقوقي وسياسي سابق، ويقع مجال عمله في الجزء الورقي وإعداد الخطابات والمسودات، بينما يقع جزء المرافعة في المحكمة على عاتق أستاذه.
يصاب الأستاذ بأزمة قلبية، ويجد رومان نفسه بلا عمل، فالشركة أفلست وقد كانت قائمة بالأصل على عدد قليل من القضايا وعلى صيت الأستاذ، فيحاول البحث عن وظيفة، ويمر بظروف صعبة، فهو قد ارتضى أن يعيش في وحدة بلا عائلة، وفي زهد يرتدي الملابس نفسها ويمسك الحقيبة الجلدية نفسها. في هذه الأثناء يقابل رومان، جورج بيرس (كولين فارريل)، وهو أيضًا تلميذ ويليام جاكسون لكنه اختار طريقًا أخرى، هي العمل في شركة كبيرة للمحاماة التي ترهق عملاءها بمبالغ ضخمة للدفاع عن قضاياهم.
لدى رومان خطط أخرى، فبما أنه محامٍ وناشط حقوقي سابق يطمح لأن يكون مثل أستاذه، فهو لديه قضيته التي يدافع عنها ويرى أنها سوف تغير النظام القضائي بأكمله، ففي حقيبته الجلدية العتيقة يوجد ورق لمئات الحالات الذين ظلمهم النظام القضائي وأوقع عليهم أقصى العقوبات بدون التماس، لكن العمل عليها يحتاج مجهود كثيرين وأموالاً طائلة. ونتيجة العمل لدى بيرس، يصاب رومان بالإحباط وتصطدم نظرة رومان المثالية إلى العالم بنظام مادي استهلاكي هدفه الوحيد هو الربح وإن كان على حساب المظلومين، فيقرر استغلال قضية ما ويعترف على القاتل ليأخذ من ورائه جائزة مادية.
لكن الأمور لا تسير على ما يرام، ويشعر رومان بالضغط وخصوصًا بعد مواجهته بأنه قد فعل شيئًا يخالف القانون، فيقرر أن يرفع قضية إلى المحكمة ضد نفسه، ويطالب بسحب رخصة مزاولة المحاماة منه لمخالفته القانون، ويقرر إعادة الجائزة المالية إلى صاحبها بعد أن كتب له أنه أنفق بضعة آلاف منها وأنه يتعهد بأنه سوف يرجعها كاملة، ويقرر الاستقالة من شركة بيرس، ثم، وهو في طريقه إلى المنزل، يتم إطلاق النار عليه ويسقط صريعًا.
لكن القصة لا تنتهي؛ فنضال رومان ومطالبته بتحقيق العدالة والمناداة بالحرية لكل من ظلمتهم لامبالاة النظام القضائي تلهم بيرس وتدفعه إلى العمل على قضية رومان بنفسه وإنهائها.
لكن هل فعلاً يمكن أن تلهمنا قصص الأفلام الثلاثة لكي نفعل شيئًا، أم أنها مجرد منتج استهلاكي أقصى غايته هو أن يقلل من شعورنا بالاغتراب في عالمنا وأن هنالك شخصيات متخيلة قد خاضت معركتنا بدلاً منا؟ هل هي أفلام ثورية وملهمة حقًا، أم أنها أفلام تُعيد تكريس لامبالاتنا ووضعنا المأساوي الحالي؟