هيكل.. الغياب الأخير لصانع الفراعنة
مستنيمًا إلى انتصاره الذي تحقق في الثالث من يوليو 2013 رحل محمد حسنين هيكل، الصحفي العربي الأبرز في القرن العشرين وصانع أسطورة جمال عبد الناصر، بهدوء على فراشه أمس الأربعاء 17 فبراير 2016 عن عمر يُناهِز الثالثة والتسعين. تتناقل الروايات امتناعه عن تناول الطعام والدواء في أيامه الأخيرة التي استفحل فيها المرض كأنما يسمح للموت أخيرًا أن يغزو جسده التسعيني. بالنسبة لهيكل وأمثاله من صنّاع الفراعين والتاريخ، على الحقيقة لا المجاز، ربما يكون الرحيل بهذه الطريقة الهادئة انتصارًا أخيرًا ساخرًا يحققونه في وجه التاريخ بدلاً من أن يجبرهم في إحدى تقلَّباته الدراماتيكية على أن يقولوا الحقيقة، أو شيئًا منها. ولعل هيكل أدرك أن انتصاره في الثالث من يوليو حصل في غفلة من التاريخ، وأن الزمن لم يعد متواطئًا معه كما كان في الماضي، بل أصبح أمامه في موقع الخصم، فآثر الرحيل على أن يشهد هزيمته بنفسه.
لم يكن هذا الغياب النهائي هو الغياب الأول لـ «الأستاذ» كما يُطلق عليه محبُّوه والمفتونون، فقد أرَّخ هو نفسه لعدة مرات سابقة فكر فيها أن «يغيب ولا يختفي» على حد قوله؛ أولاها كانت عقب وفاة جمال عبد الناصر في سبتمبر 1970، والثانية كانت عقب خلافه مع أنور السادات في منتصف السبعينات، والثالثة كانت في 2003 بمناسبة عبوره للعقد التاسع من عمره وهي اللحظة التي كتب فيها ما أسماه: «استئذان في الانصراف: رجاء ودعاء.. وتقرير ختامي»، وهو مقال طويل نشره في الأهرام منتصف سبتمبر 2003 ثم وسَّعه إلى كتاب قصير نشرته الشروق في نهاية نفس العام.
لكن في كل مرة يتضح أن حضوره وغيابه كان يُخطَّطُ بحساب خبرة العمر الطويل مع السلطة والإعلام، والموقع الغامض الذي اختاره بينهما ليس كمثقف سلطة تقليدي، بل كصانع لها لكن ليس مشاركًا فيها بشكل يسمح بتحميله المسئولية وربما مسائلته، وقد حوَّلت هذه الخبرة مرات الاحتجاب تلك إلى ما يشبه المناورة فحتى مع احتجابه قبل الأخير الذي أعلنه في 2003 كان هو نفسه من عاد إلى بؤرة الضوء بتفجيره للحديث العلني عن تجهيز جمال مبارك لوراثة الحكم عن والده في عام 2005، ثم أصدر- عقب سقوط مبارك- كتابًا من جزئين تناول فيه فترة حكمه الطويلة، وقبل ذلك كان أول ظهور له أثناء الثورة –ربما بعد تأكده من أن سقوط مبارك أصبح مسألة وقت- عقب موقعة الجمل وصرَّح وقتها قائلاً: «إن أسوء ما في مصر يريد أن يهدم أنبل وأطهر ما في مصر»، وقد صار، الآن، دوره في التمهيد والتجهيز لانقلاب الثالث من يوليو ثم دعمه له فيما بعد معروفًا.
بواكير الرحلة
يقسِّم هيكل نفسه حياته إلى مرحلتين أساسيتين تعقب كل منهما مرحلة استراحة انتقالية: الأولى بدأت في عام 1942 وكان يبلغ من العمر وقتها 21 عامًا مع جريدة «الإيجيبشيان جازيت» طوى فيها أكثر من 30 عامًا وانتهت في 1973 عقب خلافه الشهير مع السادات حول تقييمهما لسير المفاوضات المصرية الإسرائيلية بوساطة وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر. ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى قسمين متمايزين بينهما علامة واضحة هي الثالث والعشرون من يوليو 1952، فقبلها كان هيكل صحفي تحقيقات متميز غطَّى معارك العلمين لحساب «الإيجيبشيان جازيت»، ثم انتقال إلى جريدة «آخر ساعة» مع الأستاذ الكبير محمد التابعي، وفيها بدأت شهرة هيكل عقب نشره لتحقيق صحفي حول البغاء في مصر وبعد ذلك انتقل لأخبار اليوم كسكرتير لتحريرها، ثم عمل كمراسل متجول للأخبار مسئولاً عن تغطية الشرق الأوسط وتقلباته، بما فيها حرب فلسطين التي تعرَّف أثناء تغطيته لها على جمال عبد الناصر، والحروب الأهلية في البلقان وأحداث إيران المشتعلة في أوائل خمسينيات القرن العشرين واغتيال الملك عبد الله في القدس وحروب الهند الصينية والحرب الكورية، وفاز في تلك الفترة بجائزة الملك فاروق ثم عاد إلى أخر ساعة كرئيس للتحرير عام 1952 مع تكليفه بإدارة تحرير أخبار اليوم. وتبدو الفترة من 1953 إلى 1957 حيث بدأ عمله في رئاسة تحرير الأهرام غامضة أو معتَّمٌ عليها في مذكراته شديدة القصر المُشار إليها آنفًا.
هيكل وناصر
ينقل الكاتب الصحفي جلال كشك، وهو أحد ألدِّ خصوم هيكل وقد خصَّص أكثر من كتاب للرد على ما يقول أنه «تلاعب هيكل بالتاريخ»، عن كتاب رجل المخابرات الأمريكي الشهير مايلز كوبلاند «لعبة الأمم»، أن هيكل كان همزة الوصل بين جمال عبد الناصر ورجال المخابرات الأمريكية الذين كانوا على علم بحركة الجيش في الثالث والعشرين من يوليو 1952 وكانوا متعاطفين معها ومشجعين لها في سبيل استبدال الهيمنة الإنجليزية القديمة على مصر بهيمنة أمريكية أكثر خفاءً تعمل عن طريق صعود الناصرية نفسها واحتواءها للمطالب الجماهيرية التي أعجزت النظام الملكي عن الاستمرار والبقاء في الحكم، وتحقيق بعضها إن أمكن في سبيل تفريغ أكثرها من مضمونه. لكن هيكل يمتلك رواية أخرى عن لقاءه الأول بعبد الناصر حيث يروي أنه التقى به لأول مرة أثناء تغطيته لحرب فلسطين 1948 عقب نجاح عبد الناصر الذي كان برتبة صاغ في أركان الفرقة السادسة في صد هجوم يهودي على مواقع تحتلها فرقته، ثم تطورت العلاقة بينهما عقب العودة إلى مصر وقد التقوا عدة مرات في 1952 إلى ما قبل حدوث الانقلاب، ثم أصبح صديقه الأثير عقب 1952لتبدأ علاقة استمرت 18 عامًا حتى وفاة عبد الناصر.
تحولت الأهرام في عهد هيكل إلى مؤسسة كبرى تصدر عددًا كبيرًا من المطبوعات وتحتوي على عدة مراكز بحثية لكن ثمن ذلك، كما هو متوقع، كان أن تصبح الأهرام بوق الدعاية الأول للناصرية، وشكَّلت الجناح الورقي إلى جانب الجناح الإذاعي الذي مثَّله أحمد سعيد وإذاعة صوت العرب.
لذلك رفض هيكل –بذكاء شديد- أكثر من عرض قدمه إليه عبد الناصر لتولِّي مناصب وزارية.
لا يمكن فهم الشكل الذي اختاره هيكل لعلاقته بعبد الناصر إلا من خلال وعيه العميق بهيكل السلطة داخل الدولة الناصرية الجديدة، وهو هيكل لا يوفر للوظيفة العامة نفس سلطة العلاقة الشخصية، بل ربما تؤثر مغارم الوظيفة العامة على دفء العلاقة الشخصية فتصبح عبئًا عليها وتصبح في النهاية سببًا لانفصام العلاقة الشخصية وخسارة الوظيفة العامة معًا. لذلك رفض هيكل –بذكاء شديد- أكثر من عرض قدمه إليه عبد الناصر لتولِّي مناصب وزارية، إلا المرة الأخيرة التي عيَّنه فيها عبد الناصر وزيرًا للإرشاد القومي قرب النهاية في عام 1970 دون استشارته، ويصفها هيكل بأنها كانت مهمة محددة مؤقتة، لذلك –حسبما يروي- قدم استقالته منها إلى أنور السادات عقب وفاة عبد الناصر مباشرة، إلا أن السادات –والكلام مازال لهيكل- آثر أن يؤجل قبولها إلى ما بعد الاستفتاء على رئاسته مراعاة للظرف العام.
كان جمال عبد الناصر قادمًا من خلفية حراك طاغ بدأ في مصر في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين وتحول إلى حقيقة كبرى في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. وقد نشأ هذا الحراك على خلفية فشل نخبة ال1919 (حزب الوفد وكبار الملاَّك) في تحقيق الاستقلال لمصر، وعلى خلفية توسع حركة التعليم ونشوء الطبقة الوسطى في مصر وظهرت نتاجًا لذلك حركات مناهضة للديمقراطية البرلمانية ومعجبة بالاتجاهات النازية والفاشية في أوروبا وبدأت نظرة جديدة للسياسة في الظهور كانت ترى السياسة كعملية تبشيرية بحتة تبشِّر بطوبيا قادمة لا تحتاج سوى إلى مخلِّصٍ يقود مصر إليها، وساهم أدب تلك المرحلة وكتاباتها في ترسيخ ذلك الشعور عند الشباب المصريين المحبطين وكان من ضمنهم جمال عبد الناصر الذي رأى فيه نفسه ذلك المخلِّص. وككل قائد كبير كان لابد له من كاهن/صديق/مبشِّر يرافقه في طريقه بغير صفة رسمية، فعلاقته بالقائد أكبر من كل الصفات الرسمية وكان هيكل هو هذا الكاهن. ويذهب أنيس منصور إلى أن هيكل هو من صنع عبد الناصر وفكر عبد الناصر وأسطورة الناصرية.
الحقيقة أن تلك كانت اللعبة الأساسية التي مارسها هيكل وعبد الناصر، فبينما تنزه مقالة هيك، عبد الناصر، عن أسباب فشل الاتحاد الاشتراكي المتوقعة، فإنها تحفظ لهيكل موقعه ووظيفته الغامضة في البنية الخلفية للسلطة كوسيط بين رئيس الجمهورية وجهاز الدولة. ليس هذا فقط، فإنها تسمح لها بإعادة صياغة أفكار وتصورات رئيس الجمهورية عن جهاز الدولة بحكم بنية السلطة الشخصية، وهكذا يلعب هيكل الدور الأكبر في صياغة علاقة الطرفين ببعضهما البعض. وقد سمحت له هذه العلاقة بتكوين شبكة علاقات واسعة مع كبار رؤساء وسياسيي واستراتيجي العالم ساهمت في إرساء صورته كصحفي متنفذ ومصدر للحقيقة خصوصًا في ظل القضاء على أي مصدر أخر للمعلومات خارج نطاق السلطة.
كان هيكل هو كاتب خطابات عبد الناصر وهو الذي كتب له خطاب التنحي، ثم بيان 30 مارس الذي احتوى به الحراك الطلابي المتصاعد المطالب بالديمقراطية، واستمرت علاقتهما وثيقة إلى حد أن هيكل –حسبما يروي- كان أحد السبعة الذين حضروا لحظة إعلان طبيب عبد الناصر وفاته داخل غرفة نومه.
حضور خفي وغياب مؤطر
وبين هذه المرحلة وبداية المرحلة الثانية في أوائل الثمانينات 10 سنوات مرت في شد وجذب بينه وبين النظام الساداتي وبيان ذلك أن هيكل اختار جانب السادات في انقلاب القصر الذي قام به أوائل صيف 1971 لتوطيد أركان سلطته في مواجهة بقايا رجال عبد الناصر (مراكز القوى)، وكلَّفه السادات بكتابة التوجيه الاستراتيجي الذي صدر على أساسه الأمر للقوات المسلحة بالعبور في حرب أكتوبر 1973 ثم كتب هيكل للسادات خطاب إعلان النصر الشهير الذي ألقاه السادات في مجلس الشعب في 16 أكتوبر 1973. ثم تدهورت العلاقات بينهما إلى أن وصلت إلى حد عزل هيكل من رئاسة الأهرام وتحويله إلى وظيفة مستشار برئاسة الجمهورية، ثم منعه من السفر والتحقيق معه بخصوص كتاباته خارج مصر عام 1978، ثم اعتقاله ضمن من اعتقلوا بموجب قرارات الاعتقال التي أصدرها السادات في سبتمبر1981 ثم انتقام هيكل من هذه الفترة بكتابه خريف الغضب الذي صدر عام 1983 عقب رحيل السادات.
وبيان ذلك أن هيكل اختار جانب السادات في انقلاب القصر الذي قام به أوائل صيف 1971 لتوطيد أركان سلطته في مواجهة بقايا رجال عبد الناصر (مراكز القوى).
أما المرحلة الثانية فطوت ثلاثين عامًا أخرى إلى بواكير الألفية الثالثة وفيها كتب هيكل أهم كتبه التي شكلت السردية الأكثر ذيوعًا لتاريخ مصر والعالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، ومن الملاحظ أن أكثر هذه الكتب قد كُتب بالإنجليزية أولاً ثم نُقِل إلى العربية عبر مؤسسة الأهرام. وفي عهد مبارك ظل هيكل في الظل متواجدًا بكتاباته التاريخية والسياسية ومحاضراته التي يلقيها بانتظام في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ومؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، وقدَّم منذ بداية الألفية الجديدة ما يربو على مائة حلقة عبر شاشة الجزيرة القطرية أرَّخ فيها عبر وثائقه لتاريخ مصر والعالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين مثبتًا السردية الناصرية للتاريخ على أعمدة جديدة. ورغم بقاء هيكل خارج السلطة من الناحية الظاهرة إلا أنه دلف إلى هيكل السلطة الجديدة عبر أبناءه الذين شاركوا أبناء مبارك في البيزنس وأصبحوا من كبار رجال الأعمال ومازال أحدهم مطلوبًا على ذمة قضايا حتى لحظة كتابة هذه السطور.
ظهر هيكل للوجود مرة أخرى أثناء أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير بتصريحه الشهير عقب موقعة الجمل، ثم بدعوته الشهيرة للمجلس العسكري أن يحسم الموقف، ثم التقى بالرئيس المنتخب محمد مرسي عقب انتخابه مباشرة، وشارك بعد ذلك في الانقلاب عليه عبر حملة إعلامية لتشبيه السيسي بوزير الدفاع وإشرافه على كتابة البرنامج الانتخابي للسيسي كما اتضح من التسريبات التي خرجت من مكتب السيسي.
النهاية
في ماذا فكَّر هيكل وهو على فراش الموت؟
هل فكَّر في أنه حافظ على إرثه الشخصي وإرث صديقه الآثير جمال عبد الناصر حين أعاد دولة يوليو إلى الواجهة؟ أم فكَّر في أن الزمن لم يعد يسمح لدولة يوليو بالبقاء طويلاً وأن عليه الرحيل الأن منتصرًا على أن يشهد تلك النهاية بنفسه؟ ربما لن نعلم شيئًا عن هذا أبدًا لكن ما نعلمه أن هيكل رحل منتصرًا على كل خصومه وأصدقائه وبعد كل خصومه وأصدقائه، وبدا في لحظة من اللحظات ككائن خرافي ذا حضور استثنائي يتجاوز الزمن نفسه فرغم ابتعاده عن مواقع السلطة منذ منتصف السبعينات إلا إنه حافظ على هذا الحضور الاستثنائي كصحفي ومؤرخ ومنظِّر للناصرية طوال هذه المدة إلى وفاته. إلى حد أنه حاول أن يرسم خريطة لمستقبل مصر عقب الثالث من يوليو في مجموعة لقاءات سجَّلها مع الإعلامية لميس الحديدي المعروفة بعدائها لثورة يناير وولائها الشديد لنظام الثالث من يوليو.
أخيرًا هل يسمح غياب هيكل النهائي بخفوت سطوته، الناتجة عن موقعه في السلطة وطبيعة تلك السلطة نفسها، على كتابة تاريخ مصر المعاصر ويسمح ببروز سرديات أخرى خصوصًا بعد ثبوت تزييفه لعدد من الأحداث والوقائع تبييضًا لوجه السلطة الناصرية كما أثبت محمد جلال كشك في عدد من كتبه؟ هذا ما سنعرفه في المستقبل، وهو مستقبل –لحسن الحظ- لن يخطط له أو يكتبه هيكل.
[1] محمد حسنين هيكل «استئذان في الانصراف: رجاء ودعاء.. وتقرير ختامي». ص8، دار الشروق، القاهرة 2003.