قوي فاجر أم صالح ضعيف؟!
نعرف أن اختيار الحاكم أو الوزير أو المسؤول الذي سيتولى مهمة ما من مهام الأمة، يجب أن يتم بناء على معيارين أساسيين هما: القوة والأمانة، أو الحفظ والعلم، أو العلم والجسم. كما جاء في قول الله سبحانه وتعالى على لسان ابنة الرجل الصالح وهي تتحدث عن سيدنا موسى عليه السلام:
وكذلك ما جاء في قوله تعالى على لسان سيدنا يوسف وهو يخاطب عزيز مصر:
وكذلك ما جاء في قوله سبحانه على لسان نبي بني إسرائيل وهو يخاطب قومه مبينًا سبب اختيار طالوت ليكون ملكًا وقائدًا لهم:
فهاتين الصفتين -القوة والأمانة أو الحفظ والعلم أو العلم والجسم-، اجتماعهما في الناس قليل فالغالب أننا نجد قويا ناقص الأمانة، بل وقد نجد فيه فجورًا مع قوته! أو أمينًا ناقص القوة، بل وقد نجد فيه عجزًا ووهنًا مع أمانته. فماذا نفعل إذا كان الحال كذلك؟
هذه هي الأزمة التي عبر عنها الخليفة الراشد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال:
«اللهم إني أشكو إليك جَلَدَ الفاجر وعجز الثقة».
وأذكر أني سألت شيخنًا الأستاذ الدكتور «حسن الشافعي» منذ سنوات عن أمرٍ ما، فأرشدني إلى كتاب مهم حول هذا الموضوع مكتوب بالإنجليزية وغير مترجم للعربية. ثم سألني إن كنت أحسن القراءة بالإنجليزية، فأجبته بالنفي، فحزن لهذا، ووجهني لإتقان الإنجليزية لأن كثيرًا من الكتب النافعة والمهمة لا يمكن قراءتها الآن إلا بالإنجليزية.
ثم قال كلمة مهمة هي الشاهد المقصود هنا، قال: «تعلموا قبل أن تسودوا فقد طلبوا الكفاءات فلم يجدوها». هذا هو التحدي الذي يواجه أهل الاختيار. أنهم يجدون للمناصب المختلفة أشخاصًا أكفاء من أهل الخبرة، لكنهم لا يؤتمنون على ولايات المسلمين ومصالحهم. على الناحية الأخرى، نجد أشخاصًا أمناء من أهل الثقة، لكنهم لا يقدرون على تحمل المسؤولية والقيام بالمطلوب منهم فيها على الوجه الأمثل.
وبالنظر إلى معياري الاختيار (القوة والأمانة) نجد أن القسمة العقلية باصطلاح المناطقة تنتج لنا أربعة اختيارات هي:
1. قوي أمين.2. قوي غير أمين.3. أمين غير قوي.4. غير أمين غير قوي.
فالأول إذا توفر وجب اختياره، لكن التحدي يقع عند عدم توفره، والأخير يجب استبعاده لكن التحدي الأصعب عند عدم توفر غيره، وهنا يكون الفساد المبير والشر المستطير. لكن بالنظر إلى ما عليه الغالب من أحوال الناس، نجد الترشيحات المتنوعة للولايات والوظائف المختلفة تدور بين الثاني والثالث، فاجر قوي أو أمين ضعيف.
فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها كما يقول ابن تيمية رحمه الله حيث قال:
وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف مع أيهما يُغزي؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين فيغزى مع القوي الفاجر، وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» وفي رواية: «بأقوام لا خلاق لهم».
ولأجل هذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعمل خالد بن الوليد ويجعله قائدا لجند المسلمين في القتال منذ أسلم وقال صلى الله عليه وسلم: «إن خالدا سيف سله الله على المشركين». ومن هنا جاء تلقيبه رضي الله عنه بأنه سيف الله المسلول، مع أنه أحيانا كان يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، إلى درجة أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء يوما وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد» لما أرسله إلى جذيمة فقتلهم، وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة حتى وداهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمن أموالهم، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل.
وكان أبو ذر رضي الله عنه أصلح منه في الأمانة والصدق ومع هذا فقال له النبي صلى الله عليه و سلم:
«يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن علي اثنين ولا تولين مال يتيم» فنهى أبا ذر عن الإمارة والولاية لأنه رآه ضعيفا مع أنه قال صلى الله عليه وسلم: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر».
وولى النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص على من هو أفضل منه في غزوة ذات السلاسل استعطافا لأقاربه الذين بعثه إليهم، وولى صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وهو شاب صغير لأجل ثأر أبيه.
ومن هنا نفهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يولي بعض الناس بعض المناصب رعاية للمصلحة، مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان.
وكذلك فعل سيدنا أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم رضي الله عنه، حيث ظل يستعمل خالد بن الوليد في حروب الردة، وفي فتح العراق والشام على الرغم من أن خالدًا قد وقع في بعض الأخطاء التي عاتبه عليها سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، لكنه لم يعزله لما في الإبقاء عليه من المصلحة التي تزيد عن المفسدة.
وإن كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد، قدّمنا الأمين على القوي. فالموظف المسؤول عن الخزانة وبيت المال مثلًا لا يجوز اختياره لهذا المنصب إذا لم يكن تام الأمانة والورع والتقوى لأن المصلحة لا تقوم إلا بذلك.
وأما مهمة جمع الأموال من مصادر التمويل المختلفة فلابد فيها من القوة والأمانة معا فيتولى مهمة الجمع رجل قوي يستخرجها من مصادرها بقوته وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته، وكذلك في إمارة الحرب إذا قام الأمير بمشاورة أولي العلم والدين فإنه يجمع بذلك بين المصحلتين.
كما أن تولية غير المستجمع للشروط جائزة على سبيل الضرورة إذا لم نجد غيره لنوليه هذه المهمة، ولكن يجب مع ذلك السعي لإيجاد البديل بكل الوسائل الممكنة. فتولية المفضول مع وجود الفاضل جائزة إذا تحققت بالمفضول الكفاية. أما إذا لم تتحقق به الكفاية، كانت توليته عند عدم وجود غيره على سبيل الاضطرار الذي يزول بزوال سببه كالتيمم الذي يبطل إذا حضر الماء.
وخلاصة ما سبق أن القوي وإن كان ناقص الأمانة أولى بالتقديم في الأمور التي تحتاج إلى القوة أكثر من حاجتها إلى الأمانة، والأمين ناقص القوة أولى بالتقديم في الأمور التي تحتاج إلى الأمانة أكثر من حاجتها إلى القوة. وإذا كان الأمر كذلك فلماذا قام سيدنا عمر ابن الخطاب بعزل خالد ابن الوليد من قيادة الجيش، وتولية أبي عبيدة بن الجراح مكانه رغم أن خالد أقوى من أبي عبيدة مع قوة أبي عبيدة وفضله، لكن الميزة الأكبر فيه هي الأمانة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي عبيدة أنه أمين هذه الأمة.
لماذا عزل عمر بن الخطاب خالد الملقب بسيف الله وولّى مكانه أبا عبيدة الملقب بأمين الأمة؟
هذا ما نحاول الإجابة عنه في أحد اللقاءات المقبلة إن شاء الله تعالى… وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.