تلك الأسئلة الشاردة
لا يستقيم حال الإنسان دون سؤال، فيبدو أنه مجبول على ذلك منذ القدم. بل إن أي مخلوق له إدراك لا ينفك عن السؤال، فالملائكة سألت ربها يومًا ما: «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء»، وكذلك الجن تساءلوا: «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا».
أما الإنسان فله عقل لا يهدأ، وخيال لا يهمد، وتساؤلات تتنازعه وتقض مضجعه. فتساءل منذ أزمنة عن الأجرام والأفلاك والقوى و الحركة والجاذبية والزراعة والنار. ولولا هذه الأسئلة المجيدة لظل عقله راكدًا وفكره كاسدًا، ولربما كان حتى اليوم يسكن الكهوف ويعالج الجروح بالكى وينصب الفخاخ للحيوانات كي يجد ما يطعم به عياله.
أما وقد سيطر على النار وعرف سر المغناطيسية وتسيّد على الطبيعة، فلم ترض طبيعته الثائرة أن تجنح للراحة، حتى بعدما جاءه نبأ من السماء يشفي أيضًا تساؤلات روحه المستشرفة لما وراء الطبيعة وما بعد الحواس وما خلف الوجود. وكان خيرًا له أن يَقنع في هذه الأمور بما جاءه من خبر صادق من السماء، وأن يتفرغ بعقله وبتساؤلاته للكون المنظور ولما يمكن له أن يضيفه من ضروريات وحاجيات وتحسينات وأن يعترف بقصور العقل عن إدراك الغيبيات. لكنه بسذاجة معهودة منذ عهد بروميثيوس وسيزيف، اندفع للبحث عما لا يعنيه، وللتساؤل عما لن يدركه أبدًا.
فظهرت تساؤلات عقيمة حول كيفية رؤية البشر لله، وظن المعتزلة أنهم ينزهون الله حين نفوا إمكانية رؤية المؤمنين لله في الآخرة، فقالوا إن البصر لا يدرك إلا الألوان و الأشكال، وأن الرؤية لا تحصل إلا بانطباع الصور على العين وبانحصار الجسم المرئي في جهة معينة… لذلك رفضوا إمكانية رؤية الله لأنها تستلزم التحيّز والجهة وهو من لوازم للتجسيم!
لذلك ذهب الزمخشري في تفسيره للآية: «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة» إلى أن المعنى هو التوقع والرجاء لا الرؤية على حقيقتها. بل وتعسّف بعض المعتزلة في تفسيرها إلى أن المعنى: تنتظر نعم ربها، فكأن إلى بمعنى آلاء!
وكان الأجدر بهم أن يقنعوا بعجز العقل عن الغوص في الغيبيات إلى أن يأذن الله لعلم كان محجوبًا عن القدماء أن يظهر، فلمّا ظهرت العلوم الفلكية الحديثة آن لمثبتي الرؤية أن يمدوا سوقهم.
فالنظرية الأرجح لبداية الكون هي الانفجار العظيم، والتي تنص على حدوث انفجار ظهر بعده لا فقط الكون، بل بدأ بعده الزمان و المكان! أي أن قبل الانفجار العظيم لم يكن ثمة زمان و لا مكان، وخارج إطار الكون (الذى نعرف يقينا أنه محدود وتم تحديد اتساعه وعمره) لا تعمل قوانيننا الفيزيائية العادية، بل إن بعضها لا يعمل على مستويات أدق من الذرة كما يؤكد كهنة فيزياء الكم، ويضطرب كثير منها حين تزداد السرعة أو الكتلة إلى درجة عظيمة كما أثبت آينشتاين.
إذن الرؤية في ذلك العالم الآخر الخارج عن حدود الكون المنظور لن تعتمد أبدًا على أشعة ضوء أو شبكية تنتظر الانعكاس أو جسم متحيّز تنعكس عليه الأشعة.
و بالمثل في سؤال آخر هو «أين الله؟» نتجت عنه خلافات جمة وتراشق بالابتداع والضلال والتجسيم والتشبيه والنفي…. ونتج النزاع في المقام الأول بسبب اعتقاد تماثل العالمين، عالم الغيب وعالم الشهادة، فقاس البعض على القوانين المألوفة لديهم، واعتقدوا أن تسليمهم بأن الله في السماء يقتضي التحيّز والمماسة، بينما الله منزّه عن الجهة والمكان.
إن هؤلاء وهؤلاء حاججوا فيما ليس لهم به علم، وكان الأولى بهم أن يُعملوا عقولهم فيما خُلقت من أجله وفيما تقدر عليه، لا أن يندفعوا للبحث في غيبيات لن تدركها عقولنا إلا بعد أن نتحرر من أسر المادة ونعود إلى عالم الحق.
لم يكونوا يعلمون بعد أن خارج الكون الحادث لا يوجد زمان ولا مكان و لا جهة، ولو علموا لاستراحوا من هذه الأسئلة العقيمة. ولكفاهم أن يؤمنوا بالنص ويقرّوا بعجز العقل عن إدراك تفاصيل الغيب.
و لأبي حامد الغزالي لمحة إلهام في قوله «تعالى الله عن أن يحويه مكان، كما تقدس عن أن يحده زمان، بل كان قبل أن يخلق الزمان والمكان»، ومن قبله قال أبو إسحاق الشيرازي «الرب عز وجل قديم أزلي، كان ولا مكان، ثم خلق المكان». ونُقل عن علي بن أبي طالب أنه قال «إن الله كان ولا مكان»، نقلها الخطيب البغدادي في كتابه «الفَرق بين الفِرَق» دون إسناد وعارض البعض هذه العبارة وظنّوها منحولة وأنها تنفي علو الله. ولا تتعارض هذا الأقوال مع حقيقة كون الله في السماء وعلوه بل هي فقط تنفي وقوع عالم الغيب تحت قوانين الزمان والمكان الحادثة.
أنت الآن في عالم آخر له قوانينه المتفردة لا على كوكب الأرض الفاني، و لا حتى في الكون الحادث ذي البداية والنهاية… أنت الآن خارج إطار الزمان والمكان خارج سيطرة المادة.
هكذا ببساطة، العلم يؤكد لك ما كنت تعرفه سلفًا، أن قوانين الكون لا تعمل خارج الكون، أي أن عقلك عاجز عن التعاطي مع الغيبيات، وعليك أن تحيل الأمر إلى مصدر معرفي آخر، و لا يتبقى لك إلا ذلك النبأ العظيم الهابط من السماء خصيصًا من أجلك.
وأستعير هنا قول العالم جوزيف تيلور الحاصل على نوبل في الفيزياء: «الاكتشاف العلمي هو أيضًا اكتشاف ديني لا يوجد تعارض بين العلم والدين، معرفتنا عن الله تصبح أكبر مع كل اكتشاف عن العالم»، ما تلك الأسئلة إلا كما دار يومًا ما في المجامع المسكونية حيث البحث في الطبيعة الإلهية من حيث الجوهر والأقانيم والعلاقة بين اللاهوت والناسوت أو كالجدل البيزنطي العقيم…. هذه الأسئلة التي تفرق ولا تجمع.. هذه الأسئلة الشاردة…
«وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ»
«إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ»