مؤشرات على تأزم استراتيجي أكثر منها على ندية عظمى
مستخدمة مبررات واهية، أطلقت الطائرات الروسية حملة جديدة من القصف الوحشي على مدينة حلب وأهلها. لم يبرز ثمة دليل واحد على أن القصف الروسي طال وحدات من جبهة فتح الشام (النصرة، سابقاً)، بصورة خاصة، التي تعتبرها روسيا جماعة إرهابية. في أغلبه، اتسم القصف الروسي بالعشوائية، مدمراً أحياء بأكملها وناشراً الموت والرعب بين من تبقى من سكان المدينة المنكوبة. في بداية الحملة، استهدفت الغارات الروسية قافلة معونات دولية؛ وخلال الأسبوعين الأولين من الحملة، أخرج القصف مستشفيات بأكملها من العمل، وأوقع شللاً بمحطة ضخ المياه الوحيدة في المدينة. هذه طريقة الحرب الروسية في أبلغ صورها، الطريقة التي طبقت من قبل أثناء الحرب العالمية الثانية، وخبرها العالم في الاجتياح الروسي لغروزني في 1996: تركيع المدينة والمدافعين عنها بالتدمير الشامل وإحراق أهلها.
ليس ثمة غموض في الحرب الروسية على حلب، لا في طريقة الحرب، لا في وسائلها، ولا أهدافها. وإن كان هناك من لم يستطع رؤية حقيقة ما يحدث، فقد وفرت الأِشرطة المصورة لكبار محطات التلفزة وعدد من المراسلين الشجعان تأريخاً مؤلماً لما تشهده أقدم مدينة حاضرة في العالم، سردية قاهرة للروح، تظهر عجز المجتمع الإنساني عن حماية أبسط الحقوق الإنسانية: حق الحياة. ولكن المدهش أن البعض أراد صناعة سردية أخرى من ركام المدينة وجثث أهلها وصرخات أطفالها: أن نكبة حلب ترمز، في الوقت ذاته، إلى بروز روسيا، من جديد، قوة عظمى، قوة تناهض الولايات المتحدة وتتدافع معها على مناطق النفوذ. ألم تسيطر روسيا على سوريا، أليست القوة الروسية هي من يحافظ على نظام الأسد ويحرس مقعده الرئاسي، أليست روسيا من يحرس الأجواء السورية، ألم تؤسس روسيا لقواعد عسكرية دائمة في بلاد الشام، وتحصل على حصانة كاملة لجنودها المحتلين، أليست روسيا وحدها صاحبة القرار في سوريا؟
روسيا الآن هي قوة محتلة، كاملة الأركان، وليس باستطاعة الأمريكيين، أو غير الأمريكيين فعل شيء ملموس في مواجهة هذا الاحتلال. وأكثر من ذلك، أن روسيا تفكر الآن بإحياء سياسة إقامة قواعد عسكرية في بلدان أخرى حول العالم.
حقيقة الأمر، أن روسيا اليوم قوة كبيرة متأزمة؛ وليس هناك من مؤشر جاد واحد على عودتها إلى الموقع والدور الذي تعهده الاتحاد السوفياتي أثناء عقود الحرب الباردة الأربعة. لم تخسر روسيا محيطها السوفياتي، وحسب، عند انتهاء الحرب الباردة، ولكنها خسرت أيضاً حلف وارسو، وواجهت توسعاً أطلسياً حثيثاً في العقدين الماضيين، بات يهدد الأسس المستقرة للأمن الروسي منذ الحروب النابليونية.
ما فهمته موسكو، وجادلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، منذ إدارة بوش الأب، بعدم صحته، أن تفكيك حلف الناتو وانهيار الاتحاد السوفياتي لن يتبعه توسع لحلف الأطلسي في الدول الشيوعية السابقة. ولكن هذا ليس ما حدث. توسع الأطلسي إلى دول البلطيق، بولندا، معظم دول يوغسلافيا السابقة، رومانيا، وبلغاريا. وفي أغلب الحالات، سار الاتحاد الأوروبي على خطى حلف الأطلسي. هذا في الجوار الروسي الأوربي الغربي وفي البلقان. أما في بوابة روسيا الجنوبية، فقد أطاحت ثورة شعبية بالنظام المرتبط بموسكو في جورجيا، ووضعت في مكانه نظاماً موالياً للغرب. وفي أعقاب ثورة شعبية مفاجئة، أخرى، خسرت موسكو النظام التابع لها في أوكرانيا، البوابة الغربية لروسيا والأرض التي اعتبرت، دائماً، ثقافياً ودينياً، قدس أقداس الأمة الروسية. وتكشف نظرة سريعة إلى تموضع القوى في جوار البحر الأسود، منفذ روسيا الوحيد إلى المتوسط، أن وضع روسيا الاستراتيجي، اليوم، أسوأ بكثير عما كان عليه في نهايات القرن التاسع عشر. هذا، إضافة إلى نشر الدرع الصاروخي الأمريكي في أوروبا، التي يؤكد المسؤولون الروس أنه سيصنع خللاً كبيراً في توازن قوى القارة.
حاولت روسيا، كما هو معروف، احتواء خسارة جورجيا بتوفير دعم وحماية لكيانات إثنية جورجية انقسامية. كما حاولت احتواء الخسارة الاستراتيجية الثانية، والأفدح، في أوكرانيا، بالسيطرة على شبه جزيرة القرم، التي كانت في الأصل جزءاً من روسيا وتستضيف القاعدة الروسية البحرية الرئيسية على البحر الأسود، وتشجيع المطالب الانشقاقية في مقاطعات الأغلبية الروسية في الشرق الأوكراني. ولكن، وبينما طالبت موسكو، ولم تزل، بتعهدات غربية لبقاء كل من جورجيا وأكرانيا محايدتين؛ والاعتراف بشرعية الضم الروسي لشبه الجزيرة القرم، ترفض الدول الغربية الرئيسة تقديم مثل هذا التعهد.
إضافة إلى ذلك، ومنذ اندلعت الأزمة الأوكرانية، فرضت الولايات المتحدة ودول الوحدة الأوروبية عقوبات ثقيلة الوطأة على روسيا، المتهمة بالتدخل العسكري لصالح الانشقاقيين في شرق أوكرانيا. كانت كلفة هذه العقوبات، ولم تزل، باهظة، سواء في أثرها على الاقتصاد الروسي، بصورة عامة، أو على النظام الروسي البنكي. كان الارتفاع الكبير في أسعار موارد الطاقة قد ساعد على إطلاق ازدهار روسي اقتصادي في الفترة منذ نهاية التسعينات إلى 2014، وتحقيق وفرة مالية ملموسة. ولكن العقوبات الغربية، من ناحية، والتراجع الفادح في أسعار موارد الطاقة، تسببت في ركود اقتصادي روسي، وفي معدلات نمو سلبية لعامين على التوالي. تعيش روسيا، اليوم، ضائفة مالية عامة، وضائقة اقتصادية، لا تقل سوءاً عن تلك التي عاشتها في أعقاب الانهيار السوفياتي، عملت خلال العامين الماضيين على استنزاف غير متوقع للاحتياطات المالية.
ثمة دول عرفت، تقليدياً، بعدم وجود صلة وثيقة بين وضعها الاقتصادي ورفاهية شعبها، من جهة، وتكاليف سياستها الخارجية، بما في ذلك تكاليف الحرب، من جهة أخرى. وروسيا هي المثال الأبرز على هذا الصنف من الدول. خاض الحكام الروس أغلب حروب بلادهم، سواء في عهدها القيصري، أو الحقبة الشيوعية، في ظل بؤس اقتصادي واسع الانتشار. ومن الخطأ، اليوم، تصور نكوص القيادة الروسية عن السياسة العدوانية في سوريا لأن أوضاع البلاد الاقتصادية تشهد تراجعاً.
ولكن مشكلة روسيا ليست هنا، أو ليست هنا على وجه الخصوص. تتبع موسكو سياسة هجومية في سوريا، بلا شك، بل وسياسة عنف وإبادة هوجاء، ما كان للقيادة الروسية ارتكابها لولا أنها تعرف أن جريمتها السورية لا تختلف عن الجرائم الأمريكية في العراق وأفغانستان. مهما كان الأمر، على أية حال، فقد كانت الولايات المتحدة أعلنت، منذ أخذت الأدلة على توحش النظام الأسدي في التعامل مع الحراك الشعبي في التزايد، أن سورية ليست منطقة نفوذ أمريكي وأن ما يحدث في سورية لا يمثل تهديداً للأمن القومي الأمريكي، بحيث يسوغ تدخلاً أمريكياً ملموساً في الأزمة السورية.
لم تواجه روسيا الولايات المتحدة في سوريا؛ وبالرغم من مبالغات التصريحات الروسية ضد واشنطن وسياساتها، ومن ادعاءات موسكو الوهمية بوجود مستشارين عسكريين أمريكيين في حلب، فليس ثمة معركة روسية ـ أمريكية في سوريا. ما تشهده سوريا ليس سوى جريمة روسية بشعة، جريمة حرب مستمرة منذ شهور، وضغوط شرق أوسطية وعالمية، في المقابل، على الولايات المتحدة، بصفتها الدولة العظمى الأهم، للتدخل ووضع حد للجريمة الروسية.
وما يبدو واضحاً، حتى الآن، على الأقل، أن إدارة أوباما لن تتخذ قراراً بتدخل ملموس في سوريا. وإن كانت هذه القراءة صحيحة، فلماذا، إذن، ترتكب روسيا مثل هذه الجريمة في سوريا. والإجابة، على الأرجح، أن روسيا تريد استخدام سورية ورقة لإجبار الولايات المتحدة على التفاوض على الملفات الأكثر أهمية وحيوية لموسكو، ملفات مثل مصير أوكرانيا وجورجيا وشبه جزيرة القرم. المأساة في كل هذا أنه ما دامت إدارة أوباما تنظر إلى سوريا باعتبارها مسألة ثانوية على جدول أولويات الأمن القومي الأمريكي، فإن واشنطن لن تفتح باب المساومة على أوكرانيا وجورجيا. وستظل روسيا، بالتالي، تدك المدن السورية بحمم أزمتها الاستراتيجية الممتدة.