قصة «زعبلاوي» ورحلة البحث عن الرب
تُجَسِد مُعظم أعمال نجيب محفوظ الطُرق التي يَسلُكها الإنسان، إمَّا بحثًا عن معنى للحياة، أو رغبةً في العثور على الله، أو الاثنين معًا. فمن النادر أن تقرأ عملًا لنجيب محفوظ لا يحتوي على أفكار فلسفية بشأن الله والحياة، وبالطبع يَنُم هذا عمّا ينشغل به عقل هذا الروائي والفيلسوف.
وأفكار كهذه تَخطُر بشكل أو بآخر على عقل الجميع؛ منْ منَّا لم يتساءل يومًا عن ماهية الله والطرق الأقرب لنيل رضاه؟ منْ منَّا لم تُحيّره ولو ليوم واحد الحياة بكل ما يجري فيها؟ ومنْ لم تُسيطر عليه رغبة جامحة في معرفة الحكمة القابعة وراء كثير من الأمور؟ إنها أفكار وخواطر مشروعة.
وتأتي من بين هذه النوعية من الأعمال، قصة قصيرة بعُنوان «زعبلاوي» قد تم نشرها ضمن مجموعته القصصية الشهيرة «دُنيا الله»، وهي تتناول رحلة البحث هذه بشكل أكثر تكثيفًا ورمزية.
من الممكن أن تنتهي قراءتك الأولى لها بحالة من الملل الذي يُصاحبه التساؤل، ولكن بعد القراءة الثانية والتفكير ستكتشف أنها من أعظم القصص القصيرة التي قدمها نجيب محفوظ، خاصةً بالنسبة لهؤلاء العاشقين لعالم محفوظ السحري والخيالي، الذي في نفس الوقت ينبض بالواقعية الإنسانية الشديدة.
وفي هذا المقال، سنتطرق لبعض تفاصيل ورموز القصة، لعلنا نُضيف جديدًا لمن قرأها ونُشجِّع آخرين على قراءتها.
من هو زعبلاوي؟
«من هو الله يا أبي؟» هذا هو معنى السؤال البسيط البريء الذي ألقاه الطفل على والده كعادة الأطفال في السؤال عن كل شيء. وقد جاءه الجواب الذي ظل محفورًا في ذاكرته حتى بعد أن أصبح شابًا أو رجلًا متوسط العُمر أو حتى رجلًا كهلًا لا نعلم تحديدًا. لكن الأقرب -بطبيعة الحال- أن يكون شابًا؛ فالشباب هم الأقدر على البحث والتساؤل.
والحق أن أي طفل يكتسب معرفته البدائية بالله من والديه؛ ولكن من الممُكن أن تكون معرفتنا هذه ليست إلا معرفة سطحية. وبالتالي؛ فنحن لن نستطيع التعرف على الله عن حق إلا إذا خضنا الحياة بكامل وعينا وقوانا. ما كان قد دفع الطفل لهذا السؤال الذي ألقاه على والده -كما يروي- هو الأغنية التي سمع فيها لأول مرة اسم زعبلاوي:
لا أعلم هل هذه الكلمات جزء من أُغنية موجودة بالفعل أم أنه اخترعها نجيب نفسه. على أية حال، فإنها تُعبر عن حال البشر المُتعجبين من الدُنيا وما جرى لها؛ ويتساءلون لماذا يتفشَّى الشر والفساد في الأرض هكذا؟ ولماذا لا يرحمنا الله ويُخفي الشر حتى تُصبِح الحياة جنة على الأرض؟
ولكن هل خلق الله الدُنيا لتُصبِح جنة؟
كَرَّم الله الإنسان وجعله خليفته في الأرض، ومنذ تلك اللحظة والإنسان هو المسئول عن كل ما يجري على أرضه. ما الحياة إلا نتاج سلوكيات بشرية؛ فنحن من نختار كيف نحيا. ما الفساد والظلم وأي شكل من أشكال الشر الدُنيوي إلا من صُنع الإنسان نفسه. ومع ذلك فالرحمة كامنة بداخل كل هذا، حتى وإن ظهر ما هو عكس ذلك.
الإنسان لا يلجأ إلا في أوقات الشدة
هكذا افتتح محفوظ قصته؛ فقد كان هذا ما قرره بطل وراوي قصتنا الذي اختار الكاتب أن يكون بلا اسم دلالة على كونه رمزًا لجميع البشر. وذلك بعد أن تمكنَّت منه هموم الحياة وأصابه «الداء الذي لا دواء له». لا نعلم نحن كقُرّاء ما هو هذا الداء تحديدًا؛ هل هو مرض عضوي أو نفسي مثلًا؟! ولكنه في النهاية داء خطير علاجه ليس عند أحد من البشر، علاج يستعصي على البشر إيجاده.
السؤال هُنا: لماذا لم يلجأ إلى البحث عن زعبلاوي من قبل؟ لِمَ لم يلجأ عندما كانت الهموم لا تزال قليلة يُمكِن التعامل معها ومواجهتها؟
الإجابة ببساطة: إنها طبيعة البشر الذي كان محفوظ يعرفها حق المعرفة، فنحن لا نبحث إلا عندما نكون في احتياج إلى المساعدة. وظهرت هذه الفكرة تحديدًا في رواية أخرى لنجيب بعنوان «الطريق»؛ فلم يلجأ البطل إلى البحث عن الأب إلا بعد اكتشافه أنه في حاجة إلى أمواله، ويُمكننا القول إنه لو كانت أخبرته أمه بأن له أبًا حيًا يُرزق وهو ليس في حاجة له ولأمواله، ما كان بَحَثَ عنه من الأساس! فهُناك بحث البطل عن الأب لميراثه وهُنا يبحث البطل عن «زعبلاوي» ليشفيه من الداء.
وكذلك نحن في علاقتنا الواقعية مع آبائنا؛ كثير مِنَّا يُنكِر أهمية وجود الأب في الحياة؛ فنَحنُ بإمكاننا تجاوز أمور حياتنا وحدنا ودون مساعدة أحد، وقد تمضي الأيام هكذا لبعض الوقت حتى تأتي اللحظة التي نُدرِك فيها أننا أصبحنا في أشد الاحتياج إلى من يُرشِدنا، أو حتى إلى من نَقُص عليه ما بِنا لتهدأ قلوبنا وتستريح. وفي هذه الحالة، لن نَجِد من يؤدي هذا الدور بجدارة سوى الأب.
المحنة اختبار والرحلة علاج
الله يُقَدّر علينا الشقاء حتى نتطلع له ونبحث عنه، خاصةً وأنه أحيانًا كثيرة ما تلهينا الدُنيا وما بها من مشاغل. نحن لا نتعذب فقط كي نَنضُج، بل أيضًا لنلجأ لله. في كل مرة نلجأ فيها حتى وإن ابتعدنا قبلها لفترات طويلة، نُدرك أننا في حاجة له أكثر. وبالتالي يزداد إيماننا بأنه لولا وجود الله ورحمته لانقلبت حياتنا رأسًا على عقب.
فرحلة البحث مهما كان بها من متاعب، فإنها تُطَهِر القلب وتملأ العقل والروح بالإيمان حتى وإن تظاهرنا في البداية أن عذابها لن يعود علينا بشيء مُفيد. وقد نَصَحَ بعض الذين ذهب لهم البطل لسؤالهم عن مكان زعبلاوي أن يذهب لطبيب، لنراه يُخبِرنا: «نصحوني أن أعرِض نفسي على دكتور كأني لم أفعل». فقد باءت جميع المحاولات بالفشل ولم يتبق أمامه سوى البحث عن الحل الحقيقي دائم المفعول والمضمون. ومنْ أراد الدواء عليه بتَحمُل مشقة وآلام البحث. فالرحلة أبدًا لن تكون سهلة.
أشخاص قد تُقابِلها في رحلتك
هؤلاء الذين فَضَّلوا الحياة الدُنيا وما فيها من متاع على الآخرة كثيرون ونقابلهم كثيرًا أثناء رحلتنا. فمثلًا، في بداية الرحلة، يذهب الراوي لبيت شيخ أخبره والده أنه صديق لزعبلاوي يُدعى «قمر» بخان جعفر. ولكنه يجده قد ترك الحي وانتقل لجاردن سيتي. وعند الوصول لمكتب هذا الشيخ، يأتينا وصف مُختَصَر في كلمات معدودة لمشهد البطل الفقير البسيط الذي يقف مدهوشًا أمام مظهر الشيخ الذي يرتدي بدلة عصرية و«يجلس جلسة المُعتد بنفسه وماله» وإلى عفش مكتبه الفاخر. وعندما يسأله عن مكان «زعبلاوي»، تأتيه إجابة قاطعة:
يُمَثِل هذا الشيخ بلا شك هؤلاء الذين تَخلَّوا عن الدين في سبيل الجاه والأموال، فهو من تُجار الدين الذين نسوا الله ولم يعودوا يذكرونه كما كانوا في الوقت الماضي. وهُنا يتجلَّى ذكاء محفوظ في استخدام الرمزية التي تُعبر عمّا هو أعمق بكثير من مُجرَّد سؤال عن وليّ له كرامات يُدعى «زعبلاوي»: فنُلاحظ استخدام كلمة «أذكُره»، وهي تُذَكِرُنا بكلمة «ذِكر»، أي ذِكر الله عز وجل.
ولكن على الصعيد الآخر، هُناك المؤمنون الذين لا ييأسون ولا يذهبون ضحية الحياة الساحرة. فهنُاك من يعيشون على أمل لقاء الله ويُعِدّون نفسهم له جيدًا. وهؤلاء هم منْ استمر زعبلاوي في الظهور لهم، ومن بينهم اثنان فنانان؛ أحدهما خطّاط والآخر مُلَحِن معروف.
هذا كان رد الخطّاط عندما سُئل عن زعبلاوي وهل هو حي أم لا. وإجابته تَنُم عن إيمانه الشديد بكون الله حيًا وموجودًا بيننا. وصفة «حي» كما نعلم هي أحد أسماء الله الحُسنى. يعترف الرجل أيضًا أنه بفضل زعبلاوي ووجوده، صنع أجمل لوحاته. فهو مصدر الإلهام الحقيقي ولولاه ما كان نجح في صُنع اللوحات.
لا تختلف إجابة المُلِحن كثيرًا عن سابقه؛ فهو كذلك مُؤمن بوجود الله. يعترف بفضله في صُنع أجمل لحن له. ما أروع الوصف الذي تناوله الكاتب هُنا تعبيرًا عن الطاقة الفنية التي يَمُد الله بها الفنان لتجعله قادًرا على الإبداع وتُطفِئ الكسل والفتور بداخله. فبسبب وجود زعبلاوي، الاثنان صنعا أجمل ما لديهما؛ الأول صنع أجمل لوحة والثاني أجمل لحن.
الرب حولنا دائمًا ولكننا لا نرى
في النهاية، يصل البطل إلى الجهة الأخيرة للبحث. لقد وصل عند الحاج «ونس الدمنهوري». الرجل الذي يسهر كل ليلة في حانة النجمة. لم يوافق الرجل أن يسمع أي كلمة إلا بعد أن يجلس الراوي ويشرب معه.
يحكي لنا أنه غاب عن الوعي تمامًا بعد الكأس الرابع. وفي أثناء النوم، يحل عليه حلم جميل لم يحلم بمثله من قبل. يرى حديقة واسعة بلا حدود، تملؤها الأشجار، ويستلقي هو على هضبة من الياسمين:
هذه هي لحظة اللقاء، ولكنه بالطبع لقاء قصير. لقاء سابق للقاء الطويل الذي ينتظره الإنسان المؤمن ويستعد له. نجد أنه بعدما أفاق ووجد قطرات ماء على رأسه، أخبره الرجل السكير أن رجلاً طيبًا يُدعى الشيخ زعبلاوي جاء وحاول إيقاظه بتبليل رأسه بالماء.
أحيانًا في لحظات بعينها، نشعر مثلما شعر هو في هذا الحلم الجميل، أن كل شيء رائع ومُتوافق. تأتي علينا أوقات نرى فيها الوجود أجمل وتصبِح لدينا القدرة على مراقبة النظام الدقيق الذي بُني على أساسه الكون. عندما تُحِب نفسك وتحل عليك مشاعر الرضا وتختفي مشاعر الغضب والحقد واليأس من قلبك، حينها فقط تشعر بوجود الله وكأنه أتى لزيارتك. يزورنا الله ويعطف علينا ويعطينا دلائل معنوية على وجوده. لا نراه رأي العين ولكن نشعر به حولنا. فمن الممكن أن يتجَّلى لنا في لحظة صفاء أو حلم أو رؤى. وهذه المقابلة السريعة تجعلنا مشتاقين لمقابلة أطول وأعمق. وحتى هذا الرجل السكير زاره زعبلاوي؛ إشارة إلى أن الرب يزور الجميع، ودائمًا يكون على باله الجميع طالما أنهم لم يقرروا نسيانه.
هل ستنتهي الرحلة؟
تنتهي القصة دون أن يجد الراوي «زعبلاوي». فبعدما عَلِم أنه كان بجانبه في الحانة، أخذ يجوب الشوارع بحثًا عنه، مُناديًا باسمه ولكن بلا فائدة. ولهذا يُصاب باليأس ويحاول إقناع نفسه أنه ليس في حاجة ماسة له؛ فهُناك العديد من الناس الذين لا يؤمنون به، ومع ذلك يواجهون مشاكلهم ويتجاوزونها. ولكن في السطر التالي مباشرة، تنتهي القصة حيثما بدأت. فما إن يواجه آلامًا شاقة من جديد حتى يعود لإيمانه ولوعيه بأهمية البحث عن زعبلاوي.
وأخيرًا هذا هو الإنسان، إنه يعيش فى حالة من الشك واليقين المتواصل؛ ومع ذلك فقد انتهت القصة بانتصار اليقين. من المؤكد أن البطل سيدور في الدائرة نفسها من جديد، ولكننا أصبحنا على يقين بأن المُنتَصِر دائمًا هو الإيمان والرغبة الشديدة في البحث المُستمر. فرحلة الإنسان مُستمرة طالما حيينا، ولن تنتهي إلا بانتهاء الحياة.