جودت بك: قصة ضابط تركي تجسس على «إسرائيل» لصالح مصر
في الخامس من أغسطس/آب 1957 بدأ «عبد الفتاح أبو الفضل» عمله في أنقرة، مُخبئًا عمله الاستخباراتي السري أسفل غِطاء «مُستشار صحفي في السفارة المصرية». [1]
تركيا مهمة، عضو في الناتو وحلف بغداد المُعادي، ولها علاقات رسمية ودبلوماسية مع إسرائيل، استغلها أبو الفضل في ألعاب التجسس، جنَّد مواطنين أتراكًا للعمل لصالح المخابرات العامَّة المصرية، أرسلهم إلى إسرائيل كسُيَّاح وصحفيين، وجمعوا معلومات قيِّمة للغاية.
في هذا المقال سننتقي من جعبة أبو الفضل أكثر الحكايات إثارة. قصَّة «جودت بك» (اسم حركي)، يستحق أنَّ نعرفه؛ ضابط تركي تجسس لصالح مصر حُبًّا لها.
وصفه أبو الفضل:
الأطلس المشؤوم
ذات مرة تم تجهيز جودت بك للسفر إلى إسرائيل تحت غِطاء سائح، وكان من ضمن المطلوب منه شِراء أطلس يُباع في إحدى المكتبات بتل أبيب، يحوي معلومات عن مناطق التعدين والمواد المعدنية الاستراتيجية في إسرائيل. وكان أبو الفضل يشعر أن هذا الأطلس غير منطقي.
بينما كان جودت بك في الطائرة عائدًا من إسرائيل إلى تركيا، دوَّت أبواق سيارات الشرطة المُخيفة، ضجت الطائرة بالتساؤلات، نظر من شباك الطائرة، وجد سيَّارات الشرطة تُحاصرها، ثم نزل رجلان بزيٍّ مدني ومعهما ضباط شرطة وصعدوا سلم الطائرة، توجه أحد المدنيين نحوه مُباشرةً وقال: «أرجوك تفضل معي إلى نقطة البوليس». [3]
بعد أسبوع تقريبًا علم أبو الفضل من الصحف التركية أنَّه تم القبض على جودت بك في إسرائيل، بتهمة التجسس.
كلَّف أبو الفضل المندوب «فاوست» بالسفر إلى إسرائيل سريعًا، وأخبره بأمر الأطلس، وطلب منه التوجه إلى المكتبة واستطلاع أمرها، بحجة شِراء خرائط لإسرائيل حيثُ إنه سائح أجنبي يود التجول في أنحاء إسرائيل على فيسبا يستأجرها، وحذره من طلب الأطلس المشؤوم أو مجرد ذكره.
حينما عاد «فاوست» من رحلته السياحية تبيَّن أن الأطلس ما كان إلا فخًّا نصبته الاستخبارات الإسرائيلية للإيقاع بالجواسيس. [4]
محكمة
ازدحمت قاعة المحكمة بالصحفيين، يلتقطون الصور ويغطون مُحاكمة الجاسوس. قال القاضي: «هل تقبل التهم الموجهة إليك؟»
رد جودت بك: «كلا… لأنني بريء».
فقال القاضي: «لدينا أدلة تثبت إدانتك».
رد جودت بك: «إذا كان لديكم أدلة فقدموها».
قام المدعي العام وأخرج بعض الصور وكتاب الأطلس، أنكر جودت بك معرفته بالصور عدا ستًّا أو سبعًا، ثم سأل القاضي: «إذا كان الأطلس ممنوعًا من التداول، فلماذا تسمحون ببيعه في المكتبات؟».
فرد القاضي: «ولكنك كنت تنوي تسليمه لأعدائنا».
افتتح محامي الدفاع بـ: «يؤسفني جدًّا أن أقف موقف الدفاع عن أجنبي تجسس ضد وطني». صُعِق جودت بك، وأكمل المحامي دفاعه قائلًا:
ثم يُعلن القاضي الحكم؛ السجن خمس سنوات. [5]
الانتقام
بعد التحقيق؛ تبيَّن أن المخابرات الحربية هي مَنْ طلبت الأطلس الملعون، وذلك بعدما أوحى مندوب فلسطيني به إلى الملحق العسكري المصري في باريس، أمَّا المندوب الفلسطيني فكان إسرائيليًّا بهوية مُزورة، وكان يُعطي معلومات مسمومة؛ أي معلومات مغلوطة وسط أخرى صحيحة قليلة الأهمية. وقد طلبت المخابرات الحربية من المُخابرات العامة الإتيان بالأطلس.
صمَّم أبو الفضل على الانتقام ورسم خطَّة.
تم تكليف عصمت (اسم حركي) بالسفر إلى باريس، والتردد على الملهى الليلي الذي يسهر فيه المندوب الإسرائيلي، وبعد عدَّة سهرات فرض المندوب الإسرائيلي نفسه على الشاب عصمت، بعدما تأكد أنَّ زير النِّساء صيد سهل. بعدما توطدت العلاقة أخبره عصمت أنَّه طالب يقضي الإجازة في باريس، وله أخ يعمل في رئاسة هيئة العمليات بالجيش المصري ويدخل البيت بمستندات، وأعطاه اسمه، وهو اسم ضابط حقيقي له أخ يُدعى عصمت، ولكنَّه غير عصمت المُزيَّف، بعدما تأكدت المعلومات طلب المندوب الإسرائيلي من عصمت العمل لصالح حلف الناتو. واتفقا على وسيلة الاتصال؛ تغطية أسطر بالحبر السري وسط أسطر خطاب عادي.
عاد عصمت إلى القاهرة، وأرسل معلومات صحيحة تم التضحية بها. واعتُبر في إسرائيل جاسوسًا على درجة عالية من الأهمية، اقترح المندوب الإسرائيلي على عصمت تصوير أوراق أخيه العسكرية بدلًا من تلخيصها، وأرسل رسولًا لتوصيل مُعدات التصوير إلى عصمت، استقبله الأخير في مطار القاهرة، تلقى عصمت التدريب على مُعدات التصوير وأفصح له الرسول عن «صندوق البريد الميت للموساد في القاهرة»، بعدها تم القبض على الرسول، وكُشف أثناء التحقيق معه أنَّه صيد ثمين؛ «رئيس شبكة الجاسوسية الإسرائيلية في فرنسا»، كما تم القبض على «صندوق البريد الميت أو الغافل»، وكان سيدة أجنبية تُقيم في القاهرة. [6]
بعد ثلاث سنوات ونصف
هكذا أجاب جودت بك إدارة سجن الرملة بعدما سألوه عن الوجهة التي سيقصدها بعد إطلاق سراحه، أرسلت إدارة السجن إلى القنصلية التركية لإنهاء مُعاملات عودة السجين، لكن القنصلية لم تنجز شيئًا، كتب جودت بك إلى القنصلية يُخبرهم أن جواز سفره القديم قد انتهت صلاحيته، وترجاهم منحه جواز سفر جديدًا، مرةً أخرى استقبلوه بالتجاهل. فما كان من الشرطة الإسرائيلية إلَّا أن سلمته إلى باخرة تركية كانت راسية في ميناء حيفاء.
هذا ما قاله مندوب القنصلية التركية. وفي اللَّيل صعد الطابق العلوي من الباخرة، ألقى نظرة أخيرة على حيفا.
يقول في مذكراته:
خرج جودت بك من سجون إسرائيل مريضًا ومشوهًا من التعذيب، يقول: «عندما عدت إلى وطني بعد أربع سنوات أردت أن أكتب ذكرياتي، لكن لم تجرؤ أي صحيفة واسعة الانتشار على النشر؛ لأنهم كانوا خائفين من الضغط المالي لليهود».
عوَّضته المخابرات المصرية بعض الشيء، وأمر الرئيس عبد الناصر بعلاجه على نفقة مصر في مستشفيات ألمانيا، بعدها عاد إلى تركيا وأصبح عضوًا في البرلمان التركي. [8]
من هو جودت بك؟
في كتابه «كنت نائبًا لرئيس المخابرات» لم يذكر أبو الفضل اسم جودت بك الحقيقي، يذكر فقط أنَّه خدم في اللواء التركي في الحرب الصينية-الكورية، وألَّف كتابًا عن سجنه في إسرائيل، حيث التقى إيخمان (قائد نازي مشهور خطفه الموساد من الأرجنتين)، وأرسل مُذكراته بعد نشرها إلى المخابرات العامَّة المصرية.
القصَّة المُثيرة جعلتني أبحث: من هو جودت بك؟
اسمه الحقيقي «محمد شهاب طان»، حيث نشرت «وكالة الأنباء اليهودية» في 27 أكتوبر/تشرين الأول 1958 خبر اعتقاله:
نشر شهاب طان كتابه «ضابط تركي في زنزانات إسرائيلية: قضية إيخمان» باللغة التركية في عام 1967. وفي السنة التالية؛ ترجمته وزارة الثقافة والإعلام العراقية بعنوان «في زنزانات إسرائيل: مذكرات النقيب التركي شهاب طان». ونشر كُتبًا أخرى في كُره إسرائيل.
في مُذكراته لا يذكر أنه كان جاسوسًا لمصر؛ وبالتأكيد تشاور مع المخابرات المصرية قبل النشر.
- عبد الفتاح أبو الفضل، “كنت نائبًا لرئيس المخابرات”، دار الشروق، الطبعة الأولى، 2001، القاهرة، ص182.
- المرجع السابق، ص201.
- شهاب طان؛ “في زنزانات إسرائيل: مذكرات النقيب التركي شهاب طان”، ترجمة” إبراهيم الداقوقي، دار الجمهورية، وزارة الثقافة والاعلام، بغداد، 1968، ص9.
- كنت نائبا لرئيس المخابرات، مرجع سبق ذكره، ص202-203.
- في زنزانات إسرائيل: مذكرات النقيب التركي شهاب طان، مرجع سبق ذكره، ص57-58.
- كنت نائبا لرئيس المخابرات، مرجع سبق ذكره، ص204-206.
- في زنزانات إسرائيل: مذكرات النقيب التركي شهاب طان، مرجع سبق ذكره، ص77-78.
- كنت نائبا لرئيس المخابرات، مرجع سبق ذكره، ص207.