تعرف على حكاية الطائرة التي رفعت زامبيا إلى عرش إفريقيا
في مساء الثاني عشر من فبراير/شباط 2012، وبينما كان لاعبو زامبيا يحتفلون بالبطولة القارية الأولى في تاريخ منتخبهم، ظهرت فجأة بين أيديهم لوحة كبيرة. بدأ اللاعبون يطوفون جنبات الملعب وهم يحملونها، ثم صعدوا لمنصة التتويج وتسلموا الكأس وبدأوا في التقاط الصور، وهي لا تزال حاضرة معهم في كل تلك المشاهد. هذا أمر يتكرر عادة. إذ يريد اللاعبون تذكر زميلهم الذي أصيب قبل البطولة، أو مدربهم السابق الذي توفي فجأة، أو ضحايا إحدى الحوادث التي حلت في بلدهم، فيكتبون لهم إهداءً خاصًا ثم يظهرونه في لحظات التتويج. لا جديد في ذلك أبدًا، لكن المختلف تلك المرة كان في طبيعة الإهداء نفسه.فقد كتبوا على لوحتهم «في ذاكرتنا دائمًا؛ 1993»، أي أن الواقعة المشار إليها كان قد مر عليها 19 عامًا، وقد وقعت حينما كانت الأغلبية الساحقة من هؤلاء اللاعبين صغارًا لا يبلغون السادسة من عمرهم، بل إن منهم من ولِد بعدها أصلًا. فكيف تحمل في نفوسهم كل ذلك التأثير؟ الإجابة هي لأن الواقعة لم تكن حدثًا عارضًا ككل الأمثلة التي ذكرناها، بل إنها لعبت دورًا مؤثرًا في مسيرة الكرة في زامبيا، وشكَّلت لهم ولجيل سبقهم الحافز المعنوي.هذه حكاية منتخب زامبيا الذي نهض من الموت، وتربع على عرش القارة الإفريقية دون أن يملك بين صفوفه «ديديه دروجبا»، أو «صامويل إيتو»، أو «محمد أبوتريكة».
فتش عن النحاس
كان مونديال 1994 غير عادي، وقد شكك البعض في نجاحه لأنه يقام في بلد لا تملك فيه كرة القدم الشعبية الجارفة كالولايات المتحدة. وخلافًا لتلك التوقعات، نجحت البطولة بشكل واسع، وامتلأت المدرجات عن آخرها، كما أقيمت الحفلات بشكل شبه يومي، وبرعت وسائل الإعلام في نقل أحداثه بصورة مختلفة عما كان في السابق.هذا وجه واحد فقط لكأس العالم، لكن ثمة وجهًا آخر أبعد ما يكون عن تلك الأجواء عاشته زامبيا. ذلك البلد الذي امتلك منتخبًا رائعًا توقع له الجميع تمثيل القارة السمراء في نهائيات المونديال، بل مزاحمة المنتخبات الأوروبية واللاتينية، لكنه لم يصل أبدًا. القصة بدأت في أولمبياد 1988، عندما أوقعت القرعة المنتخب الزامبي في مجموعة تضم إيطاليا والعراق وجواتيمالا. المفاجأة أن زامبيا تأهلت، بل تصدرت المجموعة بعدما ألحقت بإيطاليا هزيمة كاسحة بنتيجة 4/0، وقدمت أداءً هجوميًا ملفتًا بقيادة المهاجم الفذ «كالوشا بواليا».
انضم رفاق بواليا للمنتخب الأول، وبدا أنهم عازمون على تحقيق إنجاز آخر، خصوصًا مع الظهور المتميز للأندية المحلية في دوري أبطال إفريقيا. الأزمة أن ذلك الانتعاش قد واكبه حالة من الكساد والفقر ضربت البلد بعد خصخصة استخراج وصناعة النحاس، وقد كان لذلك أثره الكبير على كرة القدم في زامبيا. كيف؟ ببساطة لم يعد يحصل اتحاد كرة القدم على الدعم المالي الكافي، فلم يقم المعسكرات التدريبية أو يمنح لاعبيه الرواتب الكافية. أكثر من ذلك هو فشل الاتحاد في توفير طائرة خاصة يستقلها المنتخب في رحلاته خارج الأرض، وعدم قدرته المالية حتى على حجز تذاكر طيران لكامل أعضاء الفريق وطاقمه التدريبي، وهو ما دفعه أخيرًا للجوء للقوات المسلحة لأجل الحصول على طائرة عسكرية.
نفد الوقود
هكذا كان يسخر لاعبو زامبيا حين يستقلون طائرة من طراز «بافلو»، وهي الطائرة العسكرية التي استعارها اتحاد الكرة من قوات الدفاع الجوي لتنقل المنتخب. المشكلة أن الطائرة معدة أساسًا لقطع مسافات قصيرة، ولا تقوم برحلات بطول القارة الإفريقية. لهذا كان يضطر الطيار لتقسيم رحلته على عدة مراحل، إذ يهبط في أكثر من مطار عسكري لأجل التزود بالوقود ومن ثم ينطلق إلى نقطة أخرى، حتى أنه كان يطلب من اللاعبين ارتداء سترة النجاة عند تحليقه فوق المسطحات المائية خوفًا من نفاد الوقود فجأة. بقي هذا هو النمط الحاكم لرحلات بعثة زامبيا؛ يسافر اللاعبون المحليون على متن الطائرة العسكرية، فيما يلحق بهما الثنائي المحترف في أوروبا: بواليا، و «تشارلي ماسوندا» إلى البلد الآخر مباشرة. هذه الظروف الصعبة لم تمنع كتيبة زامبيا من التطلع لتحقيق شيء كبير، بل إنها على الأرجح زادت من حماسهم. كانوا يأملون في إسعاد الجماهير التي تعاني من الفقر، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.في صباح السابع والعشرين من إبريل/نيسان 1993، كانت البعثة تستعد لرحلة جديدة. هذه المرة نحو العاصمة السنغالية داكار لمواجهة أسود التيرانجا ضمن التصفيات المؤهلة لمونديال أمريكا. كانت المسافة تزيد عن 5 آلاف كم، لذا شرع قائد الطائرة في رسم مسار الانطلاق والهبوط. تبدأ الرحلة من مطار لوساكا عاصمة زامبيا، ثم إلى برازافيل عاصمة الكونغو، ومنها نحو الجابون حيث مطار ليبرفيل، ويهبط في أبيدجان كي يتزود بالوقود للمرة الأخيرة قبل الوصول لداكار. كان الجميع يعلم أنها رحلة مرهقة، ما لم يتوقعه أحد أنها مميتة. فبعدما أعد العاملون بمطار الجابون الطائرة الزامبية للإقلاع، وقبل أن تمضي دقيقتين، وصل إليها إشارة تفيد بانفجار الطائرة فجأة وبدون سابق إنذار في الهواء. هرعوا جميعًا لنجدة أفراد البعثة، لكن الموت كان أسرع. وقد راح ضحية هذا الحادث 30 فردًا؛ ثمانية عشر لاعبًا، وسبعة من أعضاء الجهاز الفني، وخمسة من طاقم الطائرة. تعددت التفسيرات حول سقوط الطائرة؛ يرى البعض أن الطائرة لم يجرِ إعدادها بالشكل السليم فنفد الوقود فجأة، ويؤكد آخرون أنها تعرضت لضربة عسكرية خاطئة من الجيش الجابوني، فيما تقول سلطات الجابون إن إحدى محركات الطائرة قد اشتعلت. الأكيد أن حلم زامبيا تحول لمأساة، ولم يبقَ للجماهير سوى الذكرى الأليمة، وصورة بواليا الذي وقف أمام قبور رفاقه في حزن وانكسار وغربة.
كالوشا بواليا يقف أمام قبور رفاقه من لاعبي المنتخب.