أحداث لم يذكرها القرآن: قصة يوسف وزليخة في الفن الفارسي
رأته في المنام مرتين فعشقته بجنون، وحاولت منع نفسها عنه لكنها لم تستطع. جرت بينهما حوارات وتبادلا الحب ثم تزوجا.
هذه بعض ملامح قصة النبي يوسف مع زليخة «زُلَيْخا» زوجة عزيز مصر، والتي لم ترد في القرآن ولكنها متداولة في الآثار الأدبية والفنية الإسلامية.
هل كانت علاقة يوسف بزليخة مجرد مشهد جنسي أرادته زليخة ولم يكتمل، كما يصور القرآن؟ أم أن آية يوسف «…ولقد همّت به وهَمّ بها…» قد فتحت الباب لدخول تفاصيل في القصة لم يذكرها القرآن؟
الأدب الفارسي في العصور الإسلامية الوسطى كان أكثر الآداب اهتمامًا بهذه القصة، وخلاله نُسِجت من القصة عشرات الملاحم، حسبما وثق رمضان متولي في كتابه «قصة يوسف وزليخة في الأدب الفارسي».
ومن خلال هذا الأدب، إضافة إلى النصوص الدينية، رسم الفنانون الإيرانيون في العصور الوسطى لوحات تشكيلية تصور هذه القصة المثيرة.
في مقالنا نحكي القصة من خلال تحليلنا لمجموعة رسوم وثقتها الباحثة الأركيولوجية وفاء عبد الحق عزيز في دراستها «النصوص والصورة في تصاوير قصص العشق والغرام بمدارس التصوير الإيراني»، ثم نوضح مدى اتساقها مع الروايات الدينية للقصة.
بداية القصة: زليخة وقيود الذهب
في اللوحة المرسومة في القرن التاسع الهجري، أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، والمحفوظة في دار الكتب المصرية، تخيل الرسام مجلس زليخا داخل قصرها، وهي في مشهد عجيب.
تظهر زليخة بملابس زرقاء، وحولها الجواري والعبيد وهي مضجعة على إحدى جواريها وترتدي ثيابًا زرقاء، وأمامها شخص يحمل سيفًا، وفوق رأسه عمامة بها ريشة تعبر عن مكانته، ويقيد قدمي زليخة بسلسلة ذهبية مرصعة بفصوص من الجواهر الثمينة.
وتوضح الكتابات المرافقة للرسم أن زليخة حلمت بيوسف للمرة الثانية، وزاد جنونها به.
ويضعنا النص مع الرسم أمام أكثر من احتمال: منها أن العزيز (يسمى في التوراة: فوطيفار) أمر بتقييد زوجته بعد أن علم بحبها ليوسف، ومنها أنها صنعت هذا القيد وأمرت الخادم أن يقيدها به لأنها تريد أن تمنع نفسها من الخوض في هذا الحب، وهذان الاحتمالان لم نطالعهما في أي سردية نصية، ونرجح أن المشهد من خيال الفنان المستوحى من أدبيات شعبية.
فالقيد المطعم بالجواهر الثمينة يصلح كتعبير عن يوسف وجماله، وتقييد زليخة به يعبر عن أنها أصبحت رهينة له مقيدة به، لا تستطيع أن تنفك من حبه.
زليخة تغري يوسف: هيت لك!
في اللوحة المحفوظة بمكتبة بلديون بجامعة أكسفورد، حاول الفنان الإيراني التعبير عن مجمل قصة يوسف وزليخة من خلال مجموعة مناظر، داخل نفس اللوحة.
في أكثر من منظر تحاول زليخة معانقة يوسف وإغواءه، وفي بعضها يتحدثان، وفي أحدها تتوسل إليه زليخة، وفي آخر يغادرها وهي تشده من ملابسه من الخلف.
ولعل كل هذه المشاهد بتعدد الملابس واحتشامها، توضح أن الرسام لديه قناعة بتعدد اللقاءات بين يوسف وزليخة، ما يدل على استجابة يوسف لها بقلبه، وإن كان لم يستجب بجسده لغوايتها وجمالها.
وكتب الفنان على اللوحة أشعارًا بالفارسية، ترجمتها:
محاولة انتحار منعها يوسف
في لوحة فارسية من القرن السادس عشر، موجودة بمتحف والترز، تحاول زليخة الانتحار بطعن نفسها بخنجر، وهي جالسة على الأرض، بعد يأسها من استجابة يوسف لحبها، ويقف يوسف بجوارها ويمسك بمعصمها ليمنعها من طعن نفسها. ومكتوب بالفارسية على اللوحة، شرحًا للمعنى الذي ذكرناه.
زليخة العجوز تدخل على يوسف في قصره
تصور اللوحة التي رسمت عام 1580م في مدينة قزوين الإيرانية، مشهدًا دراميًا يوضح التقاء يوسف وزليخة بعد سنوات من افتضاح قصة إغرائها له، وسجنه، وتبدل الأمور.
اللوحة المحفوظة ضمن مجموعة كاثرين ورافل في لوس أنجلوس، تبين دخول زليخة على يوسف في قصره، بعد أن صار ذا شأن كبير في الدولة، جميل الشكل كما هو، بينما تظهر العاشقة الجميلة سابقًا، كعجوز متكئة على عصا، بعد عذابها نتيجة حرمانها من يوسف.
الجديد أيضًا أن زليخة تظهر وبيدها اليمنى مِسبَحة، ما يدل على أنها دخلت في مرحلة زهد وعبادة.
بأعلى وأسفل اللوحة كتابات بالفارسية تعبر عن موضوعها، حيث تصور ما جرى في اللقاء، الذي يبدو أنه كان حارًا عاطفيًا، رغم ما حل بزليخة من هرم:
العاشقان في غرفة زواجهما: النهاية السعيدة
اللوحة التي تعود للقرن الـ16، والمحفوظة في متحف والترز، ترسم يوسف وزليخة متزوجيْن وفي غرفة نومهما، حيث يظهر يوسف جالسًا على سرير وزليخة راقدة على قدمه مطمئنة، داخل سياج ذهبي مربع الشكل، يتقدمه درجتا سلم ويتوسطه سرير مغطى بملاءة زرقاء وبرتقالية اللون.
يظهر يوسف وزليخة بثيابهما الفخمة كاملة، وتبدو زليخة جميلة حسناء، وحولهما الخدم في القصر، وفي شرفة مطلة على الغرفة، تقف 3 سيدات يتابعن ما يحدث، وكأن الرسام يرصد غيرة النساء من زليخة بعد أن حققت مرادها وانتهى أمرها بالزواج من يوسف.
وبأعلى وأسفل اللوحة مكتوب:
ويبدو أن اللوحة مستوحاة من السردية الإسرائيلية التي نقلها القرطبي في تفسيره، والتي تقول إن العزيز زوج زليخة مات أثناء وجود يوسف في السجن، وحين خرج وتبوأ مكانة عظيمة في الدولة، بعد تفسيره لرؤية فرعون والإصلاحات الاقتصادية التي قام بها، ذهبت إليه زليخة، ودعا لها يوسف فعاد لها شبابها وجمالها، بل وعادت بِكرًا، وتزوجا، وأنجبت له ولدين، هما إفراثيم ومنشأ ( أفرايم ومنسي).
خيال إسلامي خصب
القصة التي جاءت عبر الرسوم والنصوص المرافقة لها، تخالف في أجزاء كثيرة منها، ما جاء في القرآن بل والتوراة، ونوضح ذلك في مجموعة نقاط:
- القرآن يذكر قصة الحب كمشهد جنسي عابر لم يكتمل بسبب عفة يوسف، بينما تصور الرسوم تعدد اللقاءات والحوارات بينهما.
- آية سورة يوسف: «… همَّت به وهمَّ بها…»، ربما كانت المحرك الإسلامي، بجانب الروايات الإسرائيلية، لخيال المفسرين، ومن ثم الأدباء، ليصوروا تبادل الحب واللقاءات بينهما، فالطبري مثلًا أورد حشدًا من الروايات توضح أن هم يوسف بزليخة أوصله إلى خلع ملابسه، بعد ملاطفات وأحاديث بينهما، وأنها استلقت على ظهرها، وجلس يوسف بين فخذيها ونصفه السفلي عاريًا، وكاد أن يجامعها فعلاً.
- في كل الرسوم حتى في لوحتي الإغواء، والزواج، يظهر يوسف وزليخة بكامل ملابسهما، ما يوضح تأثير البيئة الإسلامية المحافظة على الرسامين الذين تناولوا القصة على عكس ما يقتضي المنطق، حسبما لاحظنا.
- الملابس وألوانها وتصميماتها التي جاءت في اللوحات كانت نتاج الثقافة الإيرانية الصفوية أو التيمورية فيما بعد، والتي عاش خلالها الرسامون، ولا تعبر عن الأزياء الحقيقية التي كانت في الزمن الذي تنسب القصة إليه في مصر، حسبما توضح وفاء عبد الحق.
- مشهدا تقييد قدمي زليخة بسلسلة بعد حلمها بيوسف، ومحاولة انتحارها، لم يردا في القرآن، ولكنهما نتاج الخيال الفني الذي حاك القصة، وأراد إكسابها دراما عاطفية إضافية.
- لم يذكر القرآن أن يوسف وزليخة تزوجا، حتى التوراة لم تذكر ذلك، بل جاء في العهد القديم أن يوسف حين خرج من السجن كافأه فرعون، وزوجه من «أَسْنَاتَ بِنْتَ فُوطِي»، حيث تقول آية سفر التكوين: «… وَأَعْطَاهُ أَسْنَاتَ بِنْتَ فُوطِي فَارَعَ كَاهِنِ أُونَ زَوْجَةً…». ويتضح من العهد القديم أيضًا أن ابني يوسف «أفرايم ومنسي»، قد أنجبهما من أسنات، وليس من زليخة.
- اسم زليخة أو زليخا نفسه لم يرد في القرآن أو التوراة، بل ذكرت في القرآن باسم «امرأة العزيز»، وفي سفر التكوين باسم «امرأة فوطيفار»، ومع الوقت شاع في السرديات غير الرسمية هذا الاسم.
- القصة كما أوردناها نموذج حي لبيان كيفية صناعة الأسطورة؛ فالأسطورة ليست كذبًا محضًا، وإنما هي حقائق تبنى عليها أكاذيب تتطور عبر الزمن، ولولا ثبات النصوص الدينية (القرآن، العهد القديم) لما استطعنا معرفة القصة الأصلية، خاصة وأن الآثار المادية التي تتعلق بالقصة غير موجودة، وكل ما ورد عنها هو موروث ديني.