بائعة الكبريت وعهد الأصدقاء: قصة سبيستون مع الروايات العالمية
في عالم صناعة الأنمي هناك الكثير من الألغاز والأحاجي، ونادرًا ما نستطيع الوصول لحلها، وأحيانًا ما تأخذ تلك الألغاز –خاصة في عالم سبيستون– سؤالًا وجوديًا يُرافقنا ونحن نشبُّ: لماذا يموت الأخيار دومًا؟
حاولت العودة إلى أصل بعض الأعمال التي تركت أثرًا غائرًا في نفسي إلى الآن، والسؤال يُرافقني، لأكتشف –وأحسبني الأخير في ذلك الاكتشاف– أن بعض الأعمال التي حُولت إلى أنمي كانت في الأساس روايات عالمية، إمّا من أصل دنماركي أو فرنسي أو إنجليزي، ولم تكن كلها تنتمي إلى عالم «مانجا» الياباني.
يستعرض هذا المقال أشهر الروايات التي اُقتبست منها أعمال الأنمي في سبيستون.
1. بائعة الكبريت «The Little Match Girl»
هي رواية دنماركية، صدرت عام 1845، من تأليف الروائي «هانس كريستيان أندرسن».
كُتبت تلك القصة كإسقاط واضح على المجتمع الطبقي الذي عاشته الدنمارك، تحكي القصة عن فتاة صغيرة تجوب الشوارع في ليلة عيد الميلاد، تحاول بيع أعواد الثقاب، تسير عارية الرأس، حافية القدمين، مهترئة الملبس، خاوية المعدة، متوسلة الناس أن يشتروا منها كبريتًا. تخشى العودة إلى بيتها، فيضربها والداها؛ لأنها لم تبع شيئًا؛ وأنها فقدت حذاء والدتها الكبير الذي استعارته منها، فصارت رهينة الشارع حتى تجد منْ يعطف عليها ويرق قلبه فيشتري منها.
تمدّدت جالسة بين منزلين، فرأت عائلة تحت شجرة عيد الميلاد أمام المدفأة مُجتمعة لتناول الديك الرومي، أشعلت عود ثقاب لتُدفِئ به نفسها؛ فالبرد كان ينخر عظامها، تراءى لها في ضوء العود الخافت مدفأة تتأجج منها النار، فمدت رجليها لتنال بعض الدفء ولكن العود انقضى رمادًا.
أشعلت آخر، ليقفز إلى خيالها صورة ديك رومي لذيذ، ولكن حينما تمد يدها إليه، ينطفئ العود كسابقه. تُشعِل ثالثًا لترى شجرة ميلاد أجمل من الماثلة في بيت الجيران، ليكون مصير العود كأخويه السابقين.
وفي المرة الرابعة تنظر للسماء وترى نجمة تسقط، فتعلم أن جدتها الحنونة قد ماتت؛ لأنها قالت ذات مرة: «إذا سقطت نجمة فإن روحًا تصعد للسماء»، فمثلت أمامها جدتها وعلى وجهها ابتسامتها الحانية، فأخذ خيالها يخفت رويدًا رويدًا، لولا أن الفتاة أشعلت متلهفةً أعوادًا كثيرة حتى لا تتركها جدتها لقسوة والديها والأيام. اقتربت الجدة منها وخطفت يدها في حنو وطارا معًا إلى السماء.
في اليوم التالي، استيقظ الناس، واجتمعوا حول جثة طفلة مُحمِّرة الخدين مُمدَّدة على الأرض، وأخذوا يتهامسون:
في الأخير، نهاية القصة ليست بالحزينة –من وجهة نظري ونظر الكاتب– بل هي نهاية سعيدة، فالكاتب أراد أن يُبرهِن أن الفتاة نجت بنفسها من تلك الحياة، وطارت للسماء مُخلِّفةً وراءها الدنيا بما فيها من كبريت وبرد وجوع وفقر وناس غلظت قلوبهم.
حُوِّلت تلك القصة إلى أفلام ومسلسلات؛ أشهرها الأنمي الذي يحمل نفس الاسم «بائعة الكبريت»، والذي نتذكره من خلال شاشة سبيستون، والتي أضافت للقصة طابعًا مأساويًا بأغنيتها:
2. الإخوة السود «The Black Brothers»
هي رواية ألمانية، نُشرت عام 1940، للكاتبة «ليزا تيتزنر».
تحكي رواية Die schwarzen Brüder –المُدرجة ضمن أدب الطفل– عن ولد اسمه جوليان، في سويسرا، كُسرت ساق والدته، فاضطر أبوه الفلاح الفقير لبيعه، فينتقل إلى ميلانو في إيطاليا للعمل في تنظيف المداخن، وتلك الوظيفة ستُعرِّضه للخطر أكثر من مرة.
يعيش جوليان مع عائلة قاسية؛ زوج مُخيف؛ زوجة متحجرة القلب؛ ولد مُدلَّل؛ وطفلة مريضة، والأخيرة هي الوحيدة التي تحنو عليه وتشاطره طعامها وشرابها.
ينضم جوليان إلى مُنظمة صغيرة من عمال مداخن، تُسمى «الإخوة السود»، كنايةً عن التراب والأدخنة العالقة بهم، قائدهم هو ألفريدو، تسعى تلك المُنظمة لصد وردع اعتداء عصابة «الثعالب» الذين يتنمرون ويؤذون صغار العُمال.
تمضي الأحداث بنا إلى موت ألفريدو، ثم انتخاب جوليان زعيمًا للمُنظمة، ثم اعتقال الشرطة له؛ لأن الزوجة القاسية اتهمته بالسرقة دون دليل، وحين يخرج من السجن يعتني به الدكتور كازيلا، والذي سيبدأ بتعليمه القراءة والكتابة.
يصبح جوليان مُعلمًا حين يكبر، ويعود إلى سويسرا مع زوجته –أخت ألفريدو الصُغرى– ليعيشا مع عائلته حياة هادئة في مرتفعات سويسرا الخضراء.
حُوِّلت تلك الرواية لمسلسل أنمي بعنوان «عهد الأصدقاء»، وأذكر أني بكيت بحرقة لما مات ألفريدو، حتى أني رأيته في الحُلم. وتُعد شارة البداية أثرًا لا يبرح خيالنا أبدًا:
3. الأميرة الصغيرة «A Little Princess»
هي رواية إنجليزية، نُشرت عام 1905، للمؤلفة «فرانسيس هودسون برنيت».
كُتبت تلك الرواية في فترة الأدب الفيكتوري، وتُعد من أفضل مائة كتاب للأطفال ضمن إحصاءات 2012 لمجلة School Library.
تحكي القصة عن فتاة اسمها سارة تعيش في مدرسة تابعة لإنجلترا في الهند، حيث أرسلها والدها الغني للدراسة هناك، عهدت الفتاة ابنة السبع سنوات الاحترام والتقدير من معلمتها –التي أكّنت الاحترام لها فقط من أجل المال- وزميلاتها، لكنَّ حدثًا سيقلب واقعها رأسًا على عقب، فتتغير الحياة، وتضطر الفتاة للعمل في بيت معلمتها وبيت زميلاتها.
حُوِّلت الرواية إلى مسلسل أنمي بعنوان «سالي».
4. بلا عائلة «Nobody’s Boy»
هي رواية فرنسية، نُشرت عام 1878، للمؤلف «هيكتور مالو».
تحكي الرواية عن ولد اسمه «ريمي»، نشأ في فرنسا لعائلة ليست عائلته الحقيقية على عكس ما يظن، فيبيعه رب الأسرة لرجل اسمه «فيتاليس»، والذي بدوره يجعل من ريمي تلميذًا له، يُعلِّمه تقديم العروض الغنائية والاستعراضية في الشوارع. وأثناء أحد العروض، يقع شجار بين فيتاليس ورجل شرطة، فيُسجَن الأول لمدة شهرين، قضاهما ريمي في يخت مِلك لامرأة اسمها السيدة «ميغليان»، طلبت من ريمي المكوث معها طيلة الشهرين وتقديم العروض لابنها المُقعَد، فوافق.
حين يخرج «فيتاليس» يقوم باسترجاع ريمي رغم أن الأخير ودّ البقاء والعيش مع السيدة ميغليان، ولكن فيتاليس لم يرغب في ذلك، فقد دفع فيه أربعين فرنكًا.
تمر الأحداث ويموت كلبان من أصل ثلاثة في فرقة فيتاليس، ويمرض القرد ويموت، فيضطر فيتاليس لإيداع ريمي عند رجل قاسٍ، وهناك يتعرّف الطفل ريمي على ولد اسمه «ماتيا» بارع في الغناء. بعد فترة يعود فيتاليس ويكتشف قسوة ذلك الرجل السادي الذي يهوى تعذيب الأطفال، فيأخذ ريمي ويرحلان، وأثناء تجوالهما في البرد، كان فيتاليس قد ضعف بصره ولم يعد قادرًا على المشي فيقع على الأرض، ويحاول ريمي تدفئته، لكن فيتاليس يموت بجوار ريمي.
يستيقظ الطفل فيجد نفسه عند عائلة أُخرى، أب رحيم يعرض عليه أن يكون ابنًا له، فيوافق ريمي ومعه الكلب الباقي من الفرقة، وتمر الأيام ويرحل ريمي عن تلك العائلة التي خسرت كل ما تملك، ويبدأ الصغير في تقديم عروض بنفسه بصحبة ماتيا والكلب، فيجني أرباحًا من عمله، ويشتري هدية لوالدته الأولى (التي كان يظن أنها أمه في الماضي)، ويعلم منها أن عائلة تدّعي أنه ابنها تبحث عنه، وهم في بريطانيا، فيُسافر إلى هناك، ليُقابل عائلته، ويخبرونه بأن اسمه الحقيقي فرانسيس وليس ريمي. لكنه يكتشف في الأخير أنها ليست عائلته، لتتوالى الأحداث.
كُتبت تلك الرواية في القرن الـ 19 الميلادي، لتُناقش مسألة الحقوق في أوروبا وفرنسا، وأول تلك الحقوق: «العائلة»، فمن حق الإنسان أن يعرف من هو والده، حتى لو حتى كان لقيطًا كحال ريمي المسكين.
حُوِّلت تلك الرواية لمسلسل أنمي، وللمفارقة، هناك العديد من الاختلافات بين الرواية والمسلسل، يكفي أن نقول إن بطل الرواية ولد، أمّا في المسلسل فهي فتاة، وللمسلسل مجموعة من الأغاني المنحوتة في ذاكرتنا وقلوبنا:
5. الحديقة السرية «The Secret Garden»
هي رواية إنجليزية، نُشرت عام 1911، للمؤلفة «فرانسيس هودسون برنيت».
تحكي الرواية عن طفلة بريطانية اسمها «ماري، وُلدت في الهند –في حقبة الاستعمار– من عائلة غنية، فوالدها ذو منصب رفيع، مشغول دائمًا، فلا وقت له لتأدية دوره كأب، والأم امرأة أرستقراطية، جميلة، مُهندَمة الملبس، مُتعجرفة، ذات أنف يزدري الجميع، تترك ابنتها لجيش من الخدم الهنود.
بعد فترة يموت الأب مُصابًا بالكوليرا، والأم بعده، فتنتقل ماري إلى إنجلترا ليراعيها عمّها صاحب المزرعة مع ابنه المُقعد.
ماري طفلة صغيرة، مُتعجرفة، سليطة اللسان، مُنعزلة، تُعاني من وسواس قهري، وأمراض نفسية قد تنتهي بها إلى انفصام إذا لم يتدخل أحد لمساعدتها، لكن كعادة روايات «فرانسيس هودسن»، لابد وأن تنتهي بنهاية تُرضي جميع الأطراف، وهذا ما يحدث فعلًا. فماري ستصبح في جمال والدتها حينما تكبر، ولكن ستتخلص من العجرفة، والفضل كل الفضل للخَدَم والبستاني الذي يعمل في الحديقة، والذين سينجحون في تشكيل وجدان وذاكرة ماري.
حُوِّلت تلك الرواية لمسلسل أنمي من 39 حلقة يحمل نفس الاسم، والفرق يبدو كبيرًا بين القصة والمسلسل، لذلك يُنصح بقراءة النسخة العربية المُترجمة من الرواية، لأنها تُعطي للمكان الأولوية، فكأن المكان بطل من أبطال الحكاية.
خِتامًا
هناك اختلاف واضح كعين الشمس بين الروايات والأنمي، لكن، لنتخيّل لو لم نحظَ بفرصة مُشاهدة تلك الأعمال، ما الذي كان سيحدث؟
فمنْ منّا لم يتأثر بأي قصة من تلك القصص حين عُرضت أول مرة على شاشة سبيستون، فذلك دليل على أنها قناة تنتقي أعمالها العالمية بحرفية عالية، تاركةً فينا أثرًا ليس بالقليل ولا اليسير الهيّن، بل هو أثر بالغ يُوخزنا من حين لآخر، فذلك الحنين إلى عهد ولّى، نحاول استرجاعه دون جدوى!
لقد كُنا محظوظين لإدراكنا تلك القناة، وأوفر حظًا بصوتين ملائكيين صحبا طفولتنا: «طارق العربي طُرقان» و«رشا رزق».