كانت بداية التفكير في إنشاء سكة حديد الحجاز في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، وكان هدفه الأساسي من تلك السكة مساعدة المسلمين على أداء فريضة الحج بسرعة وراحة وطمأنينة على النفس والمال، وبتكلفة أقل مما يتكبده الحجيج إذا سلكوا طرقاً أخرى. ولهذا الغرض تألفت في إسطنبول لجنة لتأسيس السكة الحجازية، ولم تلبث هذه اللجنة أن أرسلت دُعاتها إلى بلاد الإسلام المختلفة للتوعية بأهمية المشروع، ولحث المحسنين على التبرع له ودعمه مالياً.

وجاءت الاستجابة قوية من مختلف البلدان، وكانت أسماء المتبرعين تُعلَن في الجرائد التركية والعربية والفارسية والهندية، وفي غيرها من الجرائد الأجنبية المنتشرة في أنحاء العالم آنذاك. وتشجيعاً للتبرع ضربت الدولة العثمانية أوسمةً خاصة ذهبية وفضية أطلقت عليها «أوسمة إعانة السكة الحديدية الحجازية»، ووزعتها على المتبرعين في كل الجهات، كما أصدرت طوابع بريد خصوصية باسم «طوابع السكة الحجازية»، وأعلنت ضرورة إلصاقها على أكثر الأوراق والسندات والعقود والاستدعاءات، واتخذتها طوابع رسمية مؤقتة نظير الطوابع المختصة بالديون العمومية. وكان كل العثمانيين ملزمين باستعمالها. ومن مجموع هذه الإيرادات مُدت سكة حديد الحجاز، ووصلت إلى المدينة المنورة. وأصدرت الحكومة العثمانية عدة فرمانات منحت بموجبها إدارة السكة عدة امتيازات، منها امتياز إنشاء ميناء حيفا ورصيفه واستثمارهما، ومنحتها أيضاً امتياز استغلال شلالات مياه تل شهاب، وامتياز استثمار المياه المعدنية الواقعة في طريق السكة الحجازية.

ولما كانت الدولة العثمانية في حالة حرب شبه مستمرة مع القوى الاستعمارية الطامعة فيها حتى الحرب العالمية الأولى، ونظراً لكثرة الأخطار التي كانت تمثلها تلك القوى، فقد رأت الحكومة العثمانية أن خير وسيلة لحماية سكة حديد الحجاز هي أن يجري تسجيلها وفقاً لنظام الوقف الإسلامي، فأصدرت في 18 أغسطس/آب عام 1913 القانون رقم 1921 الذي نصَّ على أن تكون سكة حديد الحجاز «وقفاً إسلامياً محضاً».

وفي عام 1914 طلبت الحكومة الفرنسية أن تتنازل لها الحكومة العثمانية عن إدارة هذه السكة كضمانة للدين الفرنسي لدى الحكومة العثمانية، ولكن الحكومة العثمانية رفضت هذا الطلب بحجة أن هذه السكة وقف إسلامي عام لا يجوز لها التصرف فيه مطلقاً. وكان الريع الناتج عن تشغيل السكة يُصرف على أعمال الصيانة اللازمة لها، كما يُصرف منه أيضاً على وجوه المبرات الخيرية التي تساعد الحجاج على استكمال رحلتهم.

وتفيد الوثائق الدولية التي ترجع إلى الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى إلى أن معاهدة لوزان قد اعترفت بصفة الوقفية التي تتمتع بها سكة حديد الحجاز، كما اعترف بها الاتفاق البريطاني الفرنسي المؤرخ في 27 يناير/كانون الثاني 1923. وتضمنت معاهدة لوزان مادة خاصة نصت على احترام كل الامتيازات التي منحتها تركيا للسكة قبل الحرب العالمية الأولى. وعندما فرضت الدول الاستعمارية سيطرتها على الدول العربية بعد الحرب في صورة «الانتداب»، خصصت عصبة الأمم فقرة للأوقاف في صك الانتداب البريطاني والفرنسي جاء فيها «أن الأوقاف تُدار وفقاً للشرعية الإسلامية، وطبقاً لإرادة الواقفين»، ولم يُخول هذا الصك للسلطة المنتدبة أكثر من حق النقليات العسكرية عند الضرورة على خطوط السكة الحجازية الواقعة في الأراضي السورية، بشرط أن تدفع لإدارتها الأجور العادية، طبقاً لما جرت العادة بذلك في عهد الحكومة العثمانية.

غير أن سلطات الانتداب لم تسر في أعمالها وفقاً لنصوص الاتفاق. ففي فلسطين وزعت إنجلترا خطوط السكة الحجازية أقساماً: قسم وضعته بيد إدارة سكة حديد فلسطين، وقسم هدمته وباعت أنقاضه للسكان بسعر 192 قرشاً مصرياً للطن، وقسم قدمته لإدارة سكة حديد الشام، وقسم تركته مهملاً معرضاً للخراب. أما في سوريا، فقد اتفق المفوض الفرنسي مع الشركة الفرنسية «شركة حديد الشام-حماة وتمديداتها» على أن تتسلم هذه الشركة جميع خطوط سكة الحجاز المارة بسوريا، وذلك بموجب اتفاق جرى توقيعه في 22 فبراير/شباط 1924، وبموجبه أيضاً وضعت الشركة يدها على ورشة الخط العمومي، التي كانت مُخصصة لأعمال الإصلاح والصيانة، وكانت أعظم معمل ميكانيكي في الدولة العثمانية، وابتداءً من مارس/آذار 1924 استقلت الشركة الفرنسية بإدارته.

وتحت تأثير هذا العدوان السافر؛ أضرب الدمشقيون ثلاثة أيام متوالية احتجاجاً على السلطة الفرنسية التي انتهكت حرمة وقف سكة الحجاز، وأبرقوا إلى عصبة الأمم، ولكن لم يستجب لهم أحد، بل إن مؤتمر الديون العثمانية الذي انعقد في إسطنبول وباريس بعد الحرب قرر وجوب تقسيم سكة حديد الحجاز، واعتبار كل قسم منها ملكاً للبلاد التي يمر بها، وذلك إمعاناً في تفتيت عُرى الوحدة بين بلدان الأمة الإسلامية.

جاء رد الفعل الإسلامي على تلك الانتهاكات التي تعرضت لها سكة حديد الحجاز في صورة دعوة إلى تأليف «لجنة الدفاع عن الخط الحديدي الحجازي» عام 1349هـ ـ 1930م برئاسة الأمير «سعيد» حفيد الأمير «عبد القادر الجزائري،» وقامت اللجنة بدراسة حالة الخط، وقدمت تقريراً أذاعته على العالم الإسلامي في الأول من ذي الحجة عام 1349هـ الموافق 18 أبريل/نيسان 1931، وطالبت اللجنة في تقريرها بتأليف لجان مماثلة لها في مختلف البلاد الإسلامية للدفاع عن وقف سكة الحجاز، كما دعت إلى وضع إدارة السكة بيد لجنة إسلامية متخصصة ومنتخبة من مسلمي البلاد التي يمر بها الخط الحجازي، وكانت قد وصلت إلى اسطنبول شمالاً، ولا يزال مبنى المحطة قائما هناك إلى اليوم كأثر من الآثار التاريخية.

وفي عام 1350هـ 1931م، انعقد المؤتمر الإسلامي العام بالقدس الشريف، وأثيرت في جلساته مشكلة سكة الحجاز، واتخذ المؤتمر فيها بالإجماع عدة قرارات، وكلف لجنته التنفيذية بإبلاغها لعصبة الأمم، وإلى مفوض فرنسا في سوريا، ومندوب بريطانيا في فلسطين، وقامت اللجنة بمهمتها خير قيام، ورفعت قرارات المؤتمر الإسلامي العام إلى الجهات الثلاثة في وثيقة مهمة فيما يلي نصها:

«إن المؤتمر الإسلامي العام الذي عُقد بمدينة القدس الشريف في 27 رجب 1350هـ – 7 ديسمبر/كانون الأول 1931، قد بحث قضية وقف سكة حديد الحجاز، واتخذ مقررات بالإجماع تتعلق بهذه القضية التي يزداد اهتمام العالم الإسلامي بها لخطورتها الدينية وارتباطها بالغاية التي أنشئ هذا الوقف من أجلها، وهي تسهيل الوصول إلى البقاع المباركة لتأدية فريضة الحج المقدس. وإن اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي العام عملاً بقرار منه تنهي إلى فخامتكم في كتابها هذا المقررات التي اتخذها المؤتمر لتبلغ إلى الحكومتين الفرنسية والبريطانية وإلى جمعية الأمم في وقف سكة حديد الحجاز وهي:

1- إن المؤتمر الإسلامي العام يؤيد المقررات المتخذة في المؤتمرات الإسلامية السابقة المعقودة في مختلف الأقطار الإسلامية، ويؤيد المساعي التي تبذلها الهيئات الإسلامية الحاضرة من جمعيات ولجان وغيرها لاسترداد هذا الخط الحديدي (وهو وقف إسلامي صحيح) مع ما له من امتيازات وحقوق وأملاك وأموال منقولة وغير منقولة، وهو الوقف الذي أنشئ بأموال المسلمين وإعاناتهم المالية والعينية تسهيلاً لأداء فريضة الحج.

2- إن المؤتمر يحتج على استمرار وضع اليد على هذا الوقف والتصرف به، خلافاً لإرادة العالم الإسلامي، في المناطق الواقعة تحت السلطتين الفرنسية والبريطانية في سوريا وفلسطين.

3- يطالب المؤتمر حكومتي فرنسا وبريطانيا بتنفيذ ما اعترفت به معاهدة لوزان من كون هذا الخط وقفاً إسلامياً، ويطلب منهما التقيد بما ورد في صك الانتداب من أن السلطة المنتدبة لا تتعرض للأوقاف الإسلامية، وتسليم الخط الحجازي إلى هيئة إسلامية تتولى إدارته، وفقاً للغاية التي أنشئ من أجلها.

4- يطالب المؤتمر كلاً من الحكومتين بالامتيازات التي منحت لوقف سكة حديد الحجاز، وبالأملاك التي ملكته إياها الحكومة العثمانية السابقة بموجب فرمانات سلطانية وأسناد خاقانية، وهي الامتيازات والأملاك الوقفية في الأراضي التي تحت السلطتين.

5- يحتج المؤتمر على ما قرره مؤتمر الديون العثمانية المعقود في الأستانة وباريس من تقسيم الخط الحجازي وتجزئته، واعتبار كل قسم منه ملكاً للبلاد التي يجتازها، ويعلن المؤتمر عدم اعترافه بهذا القرار الذي وضعه مؤتمر الديون العثمانية.

6- يحتج المؤتمر على عدم العمل بموجب القوانين العثمانية الصادرة قبل الحرب المتعلقة بوقف سكة حديد الحجاز وامتيازاته وأملاكه، مع أن المقررات التي صدرت عند احتلال الحلفاء لسوريا وفلسطين 1917-1918 تقضي بإنفاذ القوانين العثمانية الصادرة قبل الحرب.

7- قرر هذا المؤتمر اتخاذ التدابير المقتضية لاسترداد هذا الوقف بجميع حقوقه وامتيازاته وأملاكه، وبذل الجهود اللازمة لذلك. وإن اللجنة التنفيذية ترجو من جمعية الأمم الموقرة أن تتدخل في الأمر، ابتغاء اتخاذ التدابير لتنفيذها تحقيقاً لرغبة العالم الإسلامي، وترى اللجنة التنفيذية أنه جدير بجمعية الأمم وحكومتي فرنسا وبريطانيا أن تعير رغبات المسلمين عناية أكيدة، وخاصة في مسألة كهذه لها خطرها وشأنها من الوجهة الدينية المحضة، وتأمل اللجنة أن تتلقى الجواب الذي تجيب به جمعية الأمم، وكل من الحكومتين…».

ولم ترد إلى أي جهة على اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي فيما طلبته (!)، لا عصبة الأمم، ولا الحكومتين الفرنسية والبريطانية. وآل خط سكة حديد الحجاز إلى الاندثار، ولم تعد منه إلا بقايا تشهد على ما لحق بهذا الوقف الدولي من اعتداءات سافرة وانتهاكات متكررة من قبل الدول الاستعمارية لكل القيم والمبادئ القانونية والأخلاقية والدينية. واتضح للكافة أن خطة السلطات الاستعمارية كانت تقضي بأن تبقى بلاد العرب مقطعة الأوصال، مفككة العرى، مشتتة الشمل.

لقد كان وقف سكة حديد الحجاز هو آخر مظهر من مظاهر عناية شعوب الأمة الإسلامية بالحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، أما قبله، فلا يكاد يخلو بلد واحد من وقف أو أكثر للمساهمة في الإنفاق على مصالح الحرمين الشريفين وتيسير أداء فريضة الحج وتقديم مختلف الخدمات للحجاج والمعتمرين والزوار.

وتحتاج أوقاف الحرمين في كل بلد إسلامي إلى بحوث ودراسات مستفيضة. ولكننا اقتصرنا هنا على وقف «سكة حديد الحجاز» باعتباره نموذجاً بارزاً من الأوقاف التي ارتبطت بالحرمين الشريفين وكانت لها دلالات دولية؛ بل عالمية وإنسانية من حيث المغزى الديني الذي دعا للتفكير في إنشاء هذه السكة، ومن حيث الفوائد والمنافع العامة التي كانت تسهم في توفيرها لقطاعات واسعة من الناس، ومن حيث إسهام هذه السكة أيضاً في خلق إطار تعاوني دولي مرتبط بواحد من أكبر الرموز الإسلامية العالمية، وكيف حوّلت الأطماع الاستعمارية هذا المشروع الحضاري ذا النزعة التعاونية إلى ميدان للصراع والتنازع. وعلى أولي الأمر ورجال الأعمال القيام بما يلزم لرد كل شيء لأصله، وإعادة التفكير في إحياء وقف سكة حديد الحجاز بكل ما ينطوي عليه من أبعاد دينية وإنسانية وحضارية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.