قصة «الديمقراطية»: بدايات مضطربة ونهايات كابوسية
لم يخل تطبيق الديمقراطية من انتكاسات وطفرات منذ بداياته الفعلية في العصر الحديث في بريطانيا خلال القرن السادس عشر، حين استعاد الشعب البريطاني الملكية مرة أخرى حتى استقرت المؤسسات الديمقراطية، مرورا بالانتكاسة الشهيرة للثورة الفرنسية التي نصبت إمبراطورا على عرشها بعد أعوام قليلة، وصولا لألمانيا النازية التي أنشأت نظام حكم شمولي قمعي عنصري معادي للأقليات ولحرية التعبير في قلب الواحة الديمقراطية الأوروبية، وانتهاءً بالولايات المتحدة التي انتخبت أخيرا صوت العنصرية والشمولية والشعبوية والمعاداة للأجانب «دونالد ترامب».
الأمر ذاته ينطبق على الأصل النظري لمفهوم «الديمقراطية» الذي كان ولا زال يتعرض لسهام النقد وطفرات التطور، وعانى من انتكاسات كارثية وطفرات مهمة، شكلت منه تركيبا مبهرًا ومشوّهًا في الوقت ذاته، وجعلته أبعد ما يكون عن الاكتمال أو المثالية؛ جعلته أقرب ما يكون من وحش «فرانكنشتاين».
وبالرغم من استناد التقسيم الأوروبي لأنظمة الحكم بشكل عام، إلى التقسيم الأرسطي (سلطة الفرد – وسلطة الأرستقراط – وسلطة الأغلبية)؛ إلا أن الطبقة البرجوازية في «أوروبا النهضة» في سعيها للتحرر من سيطرة النظم القديمة لم تجد أمامها في هذا التقسيم سوى النظام الديمقراطي الذي ما فتئت تعيد تشكيله وصناعته ونقده حتى وصل إلى شكله الحديث، معتمدًا على عدة مبادئ شهيرة وهي فصل السلطات وحرية التعبير وحق الاقتراع العام، وضمان حقوق الأقليات، وغيرها، بغض النظر عن أشكاله الإجرائية.
طفولة مضطربة للديمقراطية
تقوم الديمقراطية الليبرالية الحديثة في جانبها النظري على أكتاف سلسلة متصلة من المفكرين الاجتماعيين والفلاسفة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، أبرزهم هوبز وجون لوك وستيوارت مل وجان جاك روسو، وهيوم وإسبينوزا، الذين لم تنفصل تنظيرات أغلبهم عن واقعهم الاجتماعي.
فـ«هوبز» الذي نشأ في ظل الحرب الأهلية البريطانية، كان معارضا بشدة للديمقراطية واعتبرها تنطوي على تناقض داخلي يجعلها نظاما غير مستقر للحكم. يقدم وجهة نظر مفادها أن الحالة المدنية أو المجتمع إنما كان للسيطرة على حالة «حرب الجميع ضد الجميع»، و النظام الديمقراطي في داخله يشجع التنافس والسعي للمجد مما يهدد بالانتكاس واستعادة الحالة ما قبل المدنية حيث حرب الكل ضد الكل في شكل مقنع.
على العكس من هوبز، انتقد «جون لوك» بشدة الحق الإلهي في الحكم، وانتقد حكومة الفرد ودعا إلى مؤسسات ديمقراطية قادرة على إنفاذ الفردية الإنسانية والحقوق والحريات الأساسية. إن أي شكل آخر للحكم يعني القضاء تماما على هذه الفردية وهذه الحقوق. ولم ير جون لوك دورا للحكومة أو الدولة إلا صيانة الملكية الفردية والحيلولة دون إفساد العملية الديمقراطية ومؤسساتها.
«من الأفضل للمرء أن يكون سقراطا مستاءً من أن يكون خنزيرا سعيدا». تعتبر هذه العبارة هي نقطة البدء في فكر «جون ستيوارت ميل» الذي غذى الليبرالية ونظام الحكم الديمقراطي بالجانب الأخلاقي والتربوي. كان «ميل» يرى أن الديمقراطية تتطلب حدا معينا من التعليم والسمو الأخلاقي لدى المواطنين حتى تحافظ على نفسها، ولذلك وجب عليها أن تخلق تلك المؤسسات التي تربي الشعب وتسمو بمكانته الفكرية والأخلاقية.
ومع ذلك، رأى «ميل» استحالة تنفيذ آليات الديمقراطية المباشرة نظرا لتعقد المجتمع وحاجاته، لذا دافع عن الديمقراطية التمثيلية وحاجج ضد منتقديها، واعتبر أن «ديمقراطية تمثيلية مع مؤسسات تعليمية وتربوية مناسبة، ستكون أكثر قدرة على الحكم وإدارة المجتمع من الديمقراطية المباشرة».
ثم جاءت أفكار «جان جاك روسو» بثورتها العارمة ضد منطق القوة كأساس لنظام الحكم، كأساس للدولة الحديثة في البر الأوروبي. لم يفرق روسو بين السعادة والحرية ويعتبر أي سعادة بلا حرية سعادة منقوصة. كيف يوفق إذا بين هذه الحرية وبين لوازم الضبط الاجتماعي؟ العقد الاجتماعي هو المسلك الوحيد. هكذا قرّر روسو. وعلى الفرد أن يختار التنازل عن جزء من حريته وحقوقه طائعا، في مقابل الحفاظ على حقوقه الأخرى ضمن حدود الجماعة، التي سيذوب فيها ويتبنى مبادئها.
بالتالي، فالديمقراطية عند روسو يجب أن تكون مباشرة، وعلى الجميع أن يشارك في صناعة القوانين وفقا لأسس المساواة والحرية، ولكن ليست كل المجتمعات صالحة لتطبيق الديمقراطية، ولا مجال لدخول المرأة في دائرة صنع القرار.
تمزيق فرو الديمقراطية
رأى أفلاطون أن الدور الأساسي للدولة هو تحقيق العدالة، لا يمكن أن تكون الحكومة أوليغارشية ولا أرستقراطية ولا حتى ديمقراطية، لأن العدالة لا يمكنها أن تراعي مصالح فئة على حساب أخرى أو تسعى وراء رغبات الأغلبية. لقد رفض أفلاطون الديمقراطية، واعتبرها حكم الرعاع والخطوة الأخيرة قبل تحلل السلطة وتحولها إلى الأناركية.
في نظره لا يصلح لحكم الدولة إلا فئة مميزة من الفلاسفة الحكماء، ودلل على اختياره هذا بمجموعة من الأمثلة، حيث شبه المجتمع بالإنسان فالعدالة للمجتمع مثل الخير للإنسان وكلاهما لا يكشفان عن طبيعتهما إلا للفيلسوف الحكيم والمفكر.
في المقابل، وجه أرسطو نقده للديمقراطية على شكل أسئلة تكشف عن مدى ابتعادها عن العدالة وعن النموذج الصحيح لإدارة المجتمع, انطلاقا من تصوره للحكم الذي يبدأ من المجتمع لا من الفرد، حيث يسبق الكلي الجزئي دائما.
ماذا لو قررت الأغلبية السطو على ممتلكات الأقلية أو قررت التعدي على حقوقها الأساسية؟ يجادل أرسطو أيضا ضد فكرة المساواة ويعتقد بوجود فروقات جوهرية بين أفراد المجتمع، حيث يقول «إن المجتمع ليس تجمع عدد من الأفراد بل تجمع عدد من الأنواع المختلفة من الأفراد»،لذا فإن تسلط نوع على آخر بحكم الأغلبية يعتبر منافيا للعدالة.
بالنسبة لهيجل، لا يمكننا فصل رؤيته للديمقراطية عن تصوره للدولة. انتقد هيجل بشدة التصور الذري للمجتمع باعتباره حاصل مجموع عدد من الأفراد المستقلين، بل رأى أن النظرية الليبرالية التي تصف الدولة بالهيئة التعاقدية التي يجب عليها حفظ حق الإنسان وحريته، رآها نظرية اختزالية تختزل الإنسان في بعد واحد وهو البعد الاقتصادي.
يرى هيجل أن مفاهيم الحرية والفردية والحقوق لم توجد قبل وجود المجتمع لذا ليست هي التي تحدد أهدافه وغاياته، كما يجادل أيضا أن هوية الإنسان وفرديته وتميزه إنما هي نتاج التفاعل الاجتماعي، وأن الدولة التي تمثل هذا التفاعل وهذه الهوية بشكلها الأعم خارج الإطار التعاقدي للمجتمع المدني هي الغاية النهائية للمجتمع والتاريخ والفرد.
لهذا انتقد هيجل الديمقراطية المباشرة التي دعا إليها روسو ومن بعده ماركس، ولكنه دعا إلى مجتمعات أو هيئات وسيطة بين المواطن والدولة – مثل النقابة والطبقة-، تضمن ترقي الفرد وفاعليته ليذوب في الدولة والمجتمع ويفهم روحها وطبيعتها العقلانية التي قد يعتبرها البعض تسلطا.
الماركسية والديمقراطية المستحيلة
اعتبر «كارل ماركس» قيام حكومة ديمقراطية في مجتمع رأسمالي أمرا مستحيلا من حيث المبدأ، إذ لم تنفصل رؤيته للديمقراطية الليبرالية عن رؤيته للدولة الحديثة التي تتعامل مع أفرادها بمساواة وبحياد، لأن هذه المساواة بالتحديد تولد نتائج منحازة لطبقة الملاك بالتحديد.
وعلى الرغم من ترحيبه بالحملات التي تدعو للمساواة في حق التصويت، إلا أنه لم ير لهذه الحقوق أو المطالبات إلا طاقات تحريرية ضئيلة للغاية، إذ أن التفاوتات التي تفرضها الطبقية على الخيارات السياسية والاقتصادية كثيرة للغاية, في المحصلة لم ير في الدولة والبيروقراطية إلا أدوات لإدارة بلد مقسم وفق مصالح الطبقة الحاكمة.
يرى ماركس أن الاشتراكية هي الأرضية الأمثل لتطبيق الديمقراطية، بل إنها لا تنفصم عنها من حيث المبدأ، وعوضا عن الديمقراطية التمثيلية أو النيابية المتبعة في دولة الطبقة البرجوازية حيث تكون لحظة الممارسة الديمقراطية هي لحظة الانتخاب فقط, يطرح ماركس أفكارا ربما سبقه إليها روسو عن الديمقراطية التشاركية حيث يكون للمواطنين قادة مفوضون خاضعون لمبدأ العزل في أي وقت، وهذا ما يفرض رقابة صارمة وضرورية للحفاظ على استمرارية اللحظة الديمقراطية والتشاركية السياسية.
في حين لم ير «لينين» في الديمقراطية إلا أداة طبقية أي وسيلة من الطبقة المهيمنة لفرض هيمنتها على الطبقات الأخرى ويقول نصا في معرض رده على من طالبوا باستخدام الديمقراطية البرجوازية للوصول للديمقراطية البروليتارية: «الحديث عن الدولة الشعبية الحرة هو لغو تام. فما دامت البروليتاريا بحاجة إلى الدولة، فهي لا تحتاجها من أجل الحرية، بل من أجل قمع خصومها».
أما «نيتشه» فيتخذ موقفا معاديا للديمقراطية بالكلية؛ فهو يدين بشدة مبدأ حكم الأغلبية والطبيعة الرقمية والاقتصادية في الديمقراطية التي تقضي على الإمكانيات الكامنة في الجنس البشري لصالح الدهماء والعامة والانحطاط، ويرى أن نزعتها إلى المساواة جزءا من أخلاق العبيد وأديانهم التي تنكر الاختلافات الطبيعية بين البشر.
خطر الديمقراطية الأبرز – عند نيتشه- يكمن في إجبارها لمواطنيها أن يكونوا متساوين، وأن يقبلوا بالتخلي عن رغباتهم ومصائرهم من أجل الخير الأكبر أو الخير الأكثر عددا.
كوابيس الديمقراطية المؤرقة
شكلت قضايا البيروقراطية وسيطرة التكنوقراط قلقا رئيسا لعالم الاجتماع الألماني الأبرز «ماكس فيبر» في نظرته للديمقراطية. بحث فيبر في عمله عن نقطة توازن بين ضمان الحقوق الفردية والحريات، وبين عمل الخبراء وكيف يمكن أن يحد كل منهما من تغول الآخر.
لم ير في حالة المجتمعات الحديثة ومدى تعقيدها أي بديل لتغول الدولة وبسط نفوذها، ولكنه رأى أن البرلمان القوي هو الضامن الوحيد لعدم تغول هذه البيروقراطية وتحولها لقوى حكم أوليغارشية.
بالطبع، في ظل هذا الوضع الحديث، من المستحيل عمليا تطبيق الديمقراطية التشاركية أو إلغاء الديمقراطية بحجة أنها منتج برجوازي، فالبديل سيكون بالتأكيد سيطرة طبقة البيروقراطية وانخفاض كفاءة الدولة وتقليل هوامش الاستيعاب للأفكار والرؤى المختلفة داخل الدولة، وحتى تقليل هامش الحريات والمشاركة السياسية.
في ظل الأزمة الخانقة في المجتمع الألماني بعد الحرب العالمية الأولى وصعود الحزب النازي، برز «كارل شميت» عالم الاجتماع والقانون، كأبرز منتقدي النظرية الليبرالية في الديمقراطية. انتقد شميت بشدة الديمقراطية التمثيلية أو الحكومة البرلمانية بحجة أنها تختطف المناقشة العامة من الساحات إلى الغرف المغلقة.
ولا يمكننا أن نغفل طرح «جوزيف شومبيتر» عالم الاجتماع والاقتصاد الأكاديمي والسياسي التشيكي، الذي تبنى فكرة الديمقراطية النخبوية التي يمارس فيها نخبة من الطبقة المتعلمة والمثقفة الحكم الذي تفوضه لها الجماهير في مناسبات محددة، أي أن دور الشعب يقتصر على الذهاب لصناديق الانتخابات دوريا لضمان التداول السلمي للحكم وليس لممارسة السيادة فعليا.
هذا الطرح يفتح أمامنا الطريق لطرح آخر قدمه الفيلسوف النمساوي الإنجليزي «كارل بوبر»، حين طالب بإزاحة السؤال الذي تنبع منه أزمات نظام الحكم وهو «من يحكم ولماذا؟» لسؤال أكثر عملية وهو «كيف نعزل الحاكم السيء من الحكم دون إراقة الدماء؟»، وفي سياق الإجابة عن هذا السؤال الجديد تصبح الديمقراطية بشكلها الإجرائي مبررة تماما، بل وتستحق أن يتم الدفاع عنها؛ حتى باستعمال القوة.
أخيرًا، لا زالت النظرية الديمقراطية مجالا مفتوحا لإسهامات الفلاسفة في العصر الحديث، مثل فوكو وهابرماس ودولوز وجيجك وغيرهم، ولا زلنا ننتظر ما يستجد من النقد للديمقراطية وآلياتها، بعد إنتاجها الكابوسي الأخير متمثلاً في فوز المرشّح الجمهوري «دونالد ترامب» لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
- Democracy – Stanford Encyclopedia of Philosophy
- الديمقراطية عند ماكس فيبر
- الديمقراطية عند جون ستيوارت ميل
- الديمقراطية عند جوزيف شومبتير
- الديمقراطية عند كارل شميت
- عن الديموقراطية – كارل بوبر
- الديمقراطية فى عيون المفكرين والفلاسفة
- قراءة جديدة لفلسفة هيجل في الدولة
- Nietzche's Criticism Of Democracy
- Rousseau and Representative Democracy Reconsidered: Rehabilitating the General Will