قصة النوبة: بين الهجرات العربية والتهجير القسري
شهد العالم عدة موجات للهجرة الجماعية، والتي كانت المحرك الأساسي للتاريخ الإنساني. وتعد الهجرات العربية بعد الإسلام من أكبر موجات الهجرة التي شكّلت تاريخ الشرق الأوسط ومناطق من آسيا وأفريقيا والأندلس، حيث تمازجوا مع السكان الأصليين وانصهروا، وتغير الوضع الثقافي والسياسي والاجتماعي في تلك المناطق. وقد تعرضت النوبة للهجرات الكثيفة من القبائل العربية قديمًا، وتعرّض سكانها للتهجير حديثًا، الأمران اللذان أحدثا العديد من التغيرات الثقافية والسياسية والاجتماعية لهم.
الهجرات العربية إلى مصر بعد الإسلام
بمجرد أن أثبتت الفتوحات العربية نجاحها وفائدتها الاقتصادية، شجع ذلك النجاح الكثير من عرب شبه الجزيرة العربية -من غير الجنود- على الهجرة للأقاليم المفتوحة، واتخاذها موطنًا دائمًا لهم مدفوعين بأسباب عدة.(1) كانت من أكبر الهجرات العربية هي الهجرة إلى مصر، حيث يُقدّر عدد الهجرات بـ 296 هجرة، فكانت الهجرات الأولى مع الفتح العربي، وتوالت القبائل العربية نزوحًا إلى مصر، وكانت بلاد الصعيد من أهم بلدان الجاذبة لهذه القبائل، خاصة مناطق الصعيد الأعلى وأسوان (2)، ومن أهم القبائل التي سكنت الصعيد وكان لها تأثير في تاريخ النوبة هما قبيلتا «ربيعة وجهينة».
تركزت قبيلة ربيعة في منطقة أسوان وما حولها، وأقامت إمارة امتدت حتى ميناء عيذاب في الشرق، واختيرت أسوان كمركز لهذه الإمارة مستغلين أهمية أسوان التجارية في ذلك الوقت، لتحكّمها في طرق التجارة بين مصر والسودان، واتسعت الإمارة وأصبحت تضم صعيد مصر الجنوبي من قوص إلى أسوان. وفي عهد الخلفاء الفاطميين، تم منحهم استقلالهم شبه التام وأنعموا بلقب «كنز الدولة» على كل أمير من أمرائهم. لكن تبدل الوضع في عهد صلاح الدين، حين اقتطع إمارتهم لابنه توران شاه، فنشبت حرب بين ربيعة وصلاح الدين انتهت بانتصار حاسم لصلاح الدين، مما أدى إلى استسلامهم ورحلوا إلى جيرانهم جنوبًا في مملكة النوبة الشمالية، حيث تم الاختلاط بأهالي النوبة والاندماج التام بالمصاهرة.(3)
أما قبيلة جهينة فتركزت وانتشرت في صعيد مصر، وصارت خلال عصر المماليك أكثر القبائل العربية من ناحية الكثرة والعدد، وكذلك من حيث القوة والشوكة في المدن والقرى بالصعيد. لكن لم تكن الدولة المملوكية في وفاق مع القبائل العربية، حيث كانت تشك في ولائهم وتحذر تمردهم وفتنتهم، فتكوَّن على إثر ذلك تحالف عربي في صعيد مصر في مواجهة سلاطين المماليك، الأمر الذي أدى إلى قيام السلطان الصالح بن الناصر لقيادة جيش بنفسه إلى الصعيد للقضاء على هذا التمرد، وهو ما ترتب عليه لجوء قبيلة جهينة إلى مملكة النوبة الجنوبية التي كانت تتمتع بوجود الأراضي الخصبة، وحيث كانت أكثر ثراءً من مملكة النوبة الشمالية، وكانت أرضها أوسع وأكثر نخلاً ومروجًا.(4)
قصة بلاد النوبة
كانت تقوم في بلاد النوبة وقت الفتح الإسلامي مملكتان مسيحيتان: تُعرف الشمالية منها باسم المقرة، والجنوبية باسم علوة. كانت مقرة تمتد من حدود مصر الجنوبية حتى بلدة الأبواب -كبوشية حاليًا وعاصمتها مدينة دنقلة (وتسمى دنقلة العجوز)، بينما كانت مملكة علوة تمتد من منطقة الأبواب إلى جنوب الخرطوم وحتى حدود الحبشة شرقًا ودارفور وكردفان غربًا وعاصمتها سوبا (تقع شرق مدينة الخرطوم حاليًا).(5)
ورثت المملكتان حضارة كبيرة تمتد من عصر مملكة كوش إلى مملكة مروى، التي انقسمت بدورها إلى المملكتين المذكورتين. كانت مملكة كوش مرتبطة حضاريًا بالمملكة المصرية القديمة، حتى أنها أسست الأسرة الخامسة والعشرين في مصر القديمة.(6)
1. مملكة المقرة
أرسل عمرو بن العاص فرقة لفتح مملكة المقرة، حيث رأى ضرورة غزو النوبة لتأمين الحدود الجنوبية لمصر، لكن خسائر هذه الحملة كانت كبيرة لشدة المقاومة التي أبداها النوبيون، فضلاً عن مهاراتهم في الرمي والسهام، حتى سمّاهم المسلمون «رماة الحدق»، لكن تمكن المسلمون من دخول النوبة في ولاية عبد الله بن أبي سرح، حيث قام التوغل حتى العاصمة دنقلة. ولما كان القائد العربي لا يرى جدوى من ضم الأراضي النوبية إلى الدولة الإسلامية، عقد بن أبي السرح صلحًا مع ملك المقرة باسم «البقط»، مؤداه أن يدفع ملك المقرة للمسلمين سنويًا 360 رأسًا من الرقيق.(7)
بعد زوال حكم قبيلة ربيعة أو بنو كنز -نسبة إلى لقب كنز الدولة لحاكم الدولة- وهجرتهم إلى مملكة المقرة عاشوا فيها مسالمين دون أي نوايا للثأر من الدولة الأيوبية على زوال ملكهم، حيث تصاهروا وتناسبوا مع النوبيين ومع الأسر المالكة في المقرة لما كان لهم من شأن قبل ذلك، والمفارقة هنا أنهم بعد اندماجهم بأهل النوبة تكلموا لغتهم وعاشوا معهم رغم اختلاف ديانتهم الإسلامية عن المملكة، فهم كانوا بمثابة عرب مستعجمة، حتى أنهم وصلوا إلى الحكم مستغلين طريقة وراثة الملك في المقرة بتوريث ابن الأخت، فنجحوا في بسط نفوذهم في شمال المملكة، مستغلين أيضًا الخلافات بين الأسر الحاكمة في المملكة.(8)
كانت العلاقة بين مملكة المقرة والدولة المملوكية مضطربة، وكانت ترسل الحملات تباعًا عند توقف المقرة عن إرسال «البقط» للدولة المملوكية، الأمر الذي وصل بالدولة المملوكية بعد تحقيق الانتصارات إلى التدخل في الحكم في المملكة بعزل وتنصيب الملوك. وتعتبر نقطة التحول الفارقة في تاريخ هذه البلاد هي اختيار أمير نوبي مسلم لحكم المملكة، وهو كان أميرًا وقع تحت الأسر في إحدى الحملات وأرسل إلى القاهرة حيث أسلم.(9)
كان اختيار الأمير المسلم «عبد الله برشمو» بدلاً من الملك المخلوع -بواسطة المماليك- «كرنبس» سببًا في ظهور بني الكنز بقوة على الساحة، حيث رأوا طالما كانت الرغبة في تعيين حاكم مسلم فهم أولى بالحكم. طالب كنز الدولة «شجاع الدين بن نصر» بالحكم، فهو كان ابن أخت الملك المخلوع كرنبس، لكن رفض السلطان طلبه وأرسل حملة لتعيين عبد الله برشمو، لكن لم يستمر حكمه طويلاً، حيث انتزعه بالقوة كنز الدولة، وساعده على ذلك ثورة الرعية في النوبة ضد برشمو، لأنه كان مزهوًا بنفسه متكبرًا عليهم، وذلك ما لم تجرِ عليه عادة الملو، فاستطاع كنز الدولة تولي الحكم بعد قتل برشمو.(10)
بعد فتح العثمانيين لمصر، توجهوا إلى النوبة التي كانت مأوى لكل ثائر هارب من البكوات المماليك، لذا أراد السلطان أن يدعم سلطة الحكومة في النوبة فقضوا على دولة بني كنز التي كانت مقسمة نتيجة الصراعات على الحكم داخلها، وأقام العثمانيون قلاعًا وحاميات من جند غالبيتهم من الألبان والبوشناق والمجر، وقد تُركت هذه الحاميات لفترة طويلة شبه منسية، مما أدى إلى اختلاطهم بالسكان الأصليين وأصبحوا حكامًا لبلاد النوبة الشمالية باسم السلطان العثماني وكان يُطلق عليهم لقب «الكشاف».(11)
استقر الكشاف مع النوبيين وتزاوجوا منهم حتى أصبحوا «متنوبين» يتحدثون النوبية كما حدث مع بني كنز، واستمروا في حكمهم مستقلين تحت راية الحكام العثمانيين ثم محمد علي إلى أن قلّ نفوذهم إبان الثورة المهدية، حيث أصبح جزء من مناطقهم التي وصلت إلى المحس جنوبًا -شمال دنقلة- تحت الحكم العسكري المصري الإنجليزي نظرًا للاضطرابات التي أحدثتها الثورة المهدية في الجنوب، والجزء الآخر -الجنوبي- تحت حكم المهديين.(12)
في عام 1899، تم ترسيم الحدود بين مصر والسودان لتصبح السودان تحت الحكم الثنائي المصري الإنجليزي، هذا التقسيم الذي قسم النوبة إلى شطرين جزء في مصر وآخر في السودان. وأصبحت مملكة المقرة التاريخية مقسمة بين دولتين حديثتين: مصر والسودان رسميًا عام 1956 بعد استقلال السودان.
2. مملكة علوة
رغم أن مملكة علوة لم تدر في فلك نفوذ الدولة الاسلامية كما حدث مع المقرة، فإن الهجرات العربية تدفقت بكثرة إليها حتى تأسست مشيخات عربية إسلامية على أطراف المملكة، وكانت التجارة إحدى وسائل الاتصال بينهم، لكن أعداد هذه الجماعات العربية لم تكن بذلك الأثر حتى سقوط المقرة في يد بني كنز، حيث زادت أعداد الهجرة بكثرة. وكانت قبيلة جهينة هي الأكثر عددًا بين سائر القبائل التي هاجرت إلى علوة، تاركين وراءهم مملكة المقرة تحت حكم بني كنز، واستقروا في البداية في شمال مملكة علوة حتى توغلوا جنوبًا وأسسوا مدينة تجارية لهم.(13)
أدى تمركز كل هذه الجماعات العربية إلى اختلال الأمن وإلى النزاع بين القبائل العربية، حول مواطن الرعي من ناحية وبين النوبيين في علوة من ناحية أخرى، مما أدى الى اختلالات في التجارة في المنطقة كما أنه أنهك مملكة علوة، الأمر الذي استدعى إقامة حكومة مركزية للضبط، وهو ما مكّن العبدلاب -وهو فرع من أحد بطون قبيلة جهينة- إلى إقامة حلف عربي وانقضوا على مدن المملكة وغزوها واحدة تلو الأخرى(14). كما أن العبدلاب تحالفوا مع جماعة الفونج -يُرجّح أن أصولهم من بني أمية- وهاجموا عاصمة المملكة سويًا حتى وقعت تحت أيديهم، مؤسسين أول سلطنة عربية إسلامية في النوبة باسم سلطنة سنار عام 1504.(15) كان الدمار شديدًا حتى صاروا يضربون المثل في خرابها فيقولون: «فلان خرب خراب سوبا»، واستمرت السلطنة حتى أسقطها محمد علي في حملته على السودان.(16)
استطاعت السلطنة بسط نفوذها في معظم مناطق السودان الحالية، حتى أنها وصلت إلى دنقلة -عاصمة المقرة- لكن أصبح الحكم في دنقلة أشبه بالحكم الذاتي تحت نفوذ السلطنة(17)، وهو الأمر الذي ساعد على الحفاظ على الثقافة النوبية بها. ويمكن اعتبار السودان الحالية هي وريثة تلك السلطنة التي شكّلت الإنسان السوداني العربي المسلم، فقد أصبح الإسلام دينها الرسمي واللغة العربية لغتها الرسمية في الإدارة والتجارة.
والجدير بالذكر أن ما ساعد على انتشار العربية والإسلام -بجانب كثرة أعداد التجمعات العربية من قبل والحكم الإسلامي بعدها- هو انقطاع صلة المملكة بكنيستي الإسكندرية والحبشة، مما أضعف المسيحية داخل المملكة.
يمكن القول إنه بسقوط سوبا عاصمة مملكة علوة -آخر ممالك النوبة المسيحية في القرن السادس عشر والتي قامت على أنقاضها سلطنة سنار- أضحت العربية لغة السلطة والمال والدين. وتشكّل إنسان جديد في المنطقة ذو ثقافة مغايرة اصطلح على تسميته بـ «إنسان سنّار»، المؤسس للأيديولوجية الإسلاموعروبية في العمق النوبي.
النوبة الحالية والتهجير
النوبيون الحاليون هم سكان مملكة المقرة الشمالية، مقسمين بين دولتي مصر والسودان، وقد حافظوا نسبيًا على لغتهم وثقافتهم حيث لم يتعرضوا لهجرات كبرى كما تعرضت مملكة علوة، لكنهم تعرّضوا للتهجير بعد ذلك وهو الأمر الذي أضعف النوبيين وأبعدهم عن تراثهم وأرضهم.
فمن أجل الاستفادة من مياه فيضان النيل وتخزين كميات منها، تم افتتاح خزان أسوان، ومن ثَمَّ تعليته مرة أولى عام 1912 وأخرى عام 1933، وفي مراحل التعلية المختلفة غرقت العديد من القرى النوبية في مصر وهُجِّر أهلها، غير أن التهجير لحق بكل القرى النوبية في مصر عند إنشاء السد العالي، وتم تهجير النوبيين إلى كوم إمبو في أسوان، تاركين وراءهم كل أراضيهم وذكرياتهم غارقة في بحيرة السد العالي، كما تعرض النوبيون في السودان في قرى وادي حلفا للتهجير إلى حلفا الجديدة.
شابت عملية التهجير في مصر والسودان العديد من الإهمال والنكص بالوعود والانفصال عن الهوية، فبرغم أن عملية التهجير تمت كتضحية من النوبيين، إلا أنهم فُوجئوا بتهجيرهم إلى مناطق صحراء قاحلة، وهم الذين عاشوا آلاف السنين على ضفاف النيل، وبُنيت لهم بيوت كرهوها، لم يتعودوا عليها، فكانت أشبه بالمقابر الجماعية بالنسبة إليهم.
وفي السودان، حتى أسامي القرى التي هُجِّروا إليها لم تكن بنفس الأسماء الأصلية، حيث استبدلوا الأرقام بأسماء القرى، كما أن البيوت لم تكن جاهزة عندما هجروا إليها.(18)
غير أن هذا التهجير وخصوصًا في مصر قد كسر عزلة النوبيين فيما وراء الشلال الأول جنوب أسوان، واندمجوا مع المصريين في صعيد مصر وتعايشوا معهم، كما ساهمت الدولة القومية الحديثة في مصر والسودان بأدواتها في تكوين هوية قومية جماعية، فتغلّب تدريجيًا الانتماء إلى المجتمع الأكبر ورُبطت الهوية ثقافيًا به، فانقسمت هوية النوبيين بين القومية المصرية والسودانية العربيتين، وساهم التعليم النظامي العربي بتعريب لغة النوبيين، حيث بدأت تتلاشى اللغة النوبية تدريجيًا جيلاً بعد جيل، وأخذت الثقافة النوبية والعادات الموروثة تتلاشى بنفس الدرجة، فلم يعد هناك مظاهر واضحة للثقافة النوبية إلا في الأغاني والموسيقى النوبية في الأعراس، وهو ما يمثل آخر حصن للنوبيين الآن للحفاظ على تراثهم، الذي بدأ يتهاوى بفعل الهجرات العربية قديمًا والتهجير حديثًا.
- محمد الشرقاوي، “التعريب في القرن الأول الهجري”، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2007.
- ممدوح عبد الرحمن الريطي، “دور القبائل العربية في صعيد مصر”، القاهرة، مكتبة مدبولي، بدون تاريخ.
- عطية القوصي، “تاريخ دولة الكنوز الإسلامية”، القاهرة، دار المعارف،1981.
- إسماعيل حامد إسماعيل علي، “قبيلة جهينة ودورها الحضاري في مصر وسودان وادي النيل”، برلين، المركز الديموقراطي العربي، 2018.
- عطية القوصي، “تاريخ دولة الكنوز الإسلامية”، مرجع سبق ذكره.
- مصطفى محمد سعد، “الإسلام والنوبة في العصور الوسطى”، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2011.
- المرجع السابق.
- عطية القوصي، “تاريخ دولة الكنوز الإسلامية”، مرجع سبق ذكره.
- المرجع السابق.
- المرجع السابق.
- محمد رياض وكوثر عبد الرسول، “رحلة في زمان النوبة”، القاهرة، مؤسسة هنداوي، 2012.
- نعوم شقير، “تاريخ السودان”، القاهرة، دار الجيل، 1981.
- إسماعيل حامد إسماعيل علي، “قبيلة جهينة ودورها الحضاري في مصر وسودان وادي النيل”، مرجع سبق ذكره.
- المرجع السابق.
- يوسف فضل حسن، “سلطنة الفونج الإسلامية: دورها في تاريخ سودان وادي النيل”، القاهرة، مجلة دراسات أفريقية، العدد 22، ديسمبر 1999.
- نعوم شقير، “تاريخ السودان”، مرجع سبق ذكره.
- جون لويس بوركهارت، “رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان”، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2007.