حتى لا تموت روح الثورة: قصة العسكر مع الثورة السودانية
بدأت الاحتجاجات السودانيّة الحاليّة في 19 ديسمبر 2018 بمظاهرات في عدد من مدن السودان اعتراضًا على تضاعف أسعار الخبز، ولم تمضِ ساعات حتى تحولت مطالب الاحتجاجات إلى الدعوة الصريحة لإسقاط النظام كنتيجة طبيعية للانهيار الاقتصادي وعدم قدرة النظام على تحقيق أبسط مطالب الشعب مع بقائه في الحكم لقرابة الثلاثين عامًا. وبحلول 10 أبريل 2019 تكون الاحتجاجات قد أكملت 113 يومًا منذ بدايتها، وهو الأمر الذي لم يتوقعه الكثيرون، خصوصًا أن كل الثورات في تاريخ السودان الحديث لم تستمر لأكثر من شهر، بل إن هذه المدة لم توجد في أي ثورة من ثورات «الربيع العربيّ».
في الأيام الأخيرة من شهر مارس والأيام الأولى من أبريل 2019 بدأ المتظاهرون والقوى السياسية المعارضة بالحشد لما أطلق عليه «مليونية 6 أبريل» وهي استلهام لما حدث في 6 أبريل 1985 عندما أسقط الشعب السودانيّ حكم المشير جعفر نميريّ. غير أن ما كان مُمُيزًا للمظاهرات في يوم 6 أبريل ليس فقط الأعداد الضخمة التي وُصفت بأنها الأكبر منذ بداية الحراك وبأن عدد المشاركين فيها فاق عشرات أو مئات الآلاف [1]، وليس فقط وصولها لأول مرة إلى مقر القيادة العامة للجيش السودانيّ، وإنما في تحول استراتيجية التظاهر بصورة راديكاليّة.
فقد تغيرت طريقة التظاهر من الدعوة لعدد من المواكب المُتفرقة خلال الأسبوع مع التركيز والتعبئة على يوم الخميس من كل أسبوع، إلى الاعتصام الكبير أمام قيادة الجيش السودانيّ والتمركز في المنطقة المحيطة به. ويضاف إلى ذلك الاعتصام الكبير الدعوة إلى الإضراب العام التي دعا لها تجمع المهنيين السودانيين في يوم 7 أبريل. ومع أن الاستجابة للإضراب العام يصعب قياسها الآن، إلا أن الاعتصام، باعتباره يقع في قلب الخرطوم، قد تسبب في إغلاق طرق رئيسيّة كبيرة وإغلاق بعض الكبارى، الأمر الذي أثر بصورة واضحة في حركة الحياة اليوميّة في العاصمة.
اقرأ أيضًا: ثورة النفس الطويل: قصة الاحتجاجات التي أطاحت بالبشير
في الأيام التالية، تحول موقع الاعتصام إلى تجمهر كبير يزوره قادة العمل السياسيّ والاجتماعيّ، وشيوخ الطرق الصوفيّة، وأئمة المساجد، ولاعبو كرة القدم، وكبار الفنانين وكل أطياف المجتمع السودانيّ لتقديم دعمهم الرمزيّ والفعليّ للحِراك. كما اجتهد المتظاهرون في تقديم الخدمات الصحيّة والغذائيّة والخيام، الأمر الذي يؤكد ما أعلنوا عنه سابقًا من نيتهم البقاء حتى تتحقق مطالبهم. في المقابل، حاولت قوات الأمن مرارًا وتكرارًا فض الاعتصام عن طريق القوة، وبالذات في الساعات المتأخرة من الليل أو قبل بزوغ الفجر، إلا أن قوات الجيش كانت دائمًا تمنع ذلك وتدافع عن المتظاهرين وتحميهم.
طبيعة علاقة نظام البشير بالجيش قبل سقوط النظام
من المهم هنا أن نشير إلى أن علاقة البشير بالمؤسسة العسكريّة والأجهزة الأمنيّة ليست علاقة ثقة كاملة. فمع أن البشير يتميز بعلاقة وثيقة مع كبار ضباط الجيش والأمن عن طريق بنائه سمعة راسخة مفادها أنه لا يضحِّي أبدًا بقادته ورفقائه. ومع ذلك وحتى يضمن البشير بقاءه لفترات طويلة في حالة قرر الجيش الانقلاب عليه، قام بالاعتماد على ما تُعرف بقوات الدعم السريع (تعرف سابقًا بالجنجويد)، وهي ميليشيات مسلحة يفوق تعدادها السبعين ألفًا [2]، قام النظام بتسليحها لإنهاء التمرد في دارفور وتصدر ميزانيتهم الماليّة من رئاسة الجمهوريّة مباشرة.
اقرأ أيضًا: الجيوش والثورات: قراءة في الحالة السودانية
كما أنه من الصعب الجزم بأن ضباط الرتب المتوسطة (وهذه الشريحة هي التي تقوم غالبًا بالانقلابات العسكريّة في تاريخ السودان) يدينون بالولاء الكامل للبشير، خصوصًا أن البشير قام بتهميشهم لصالح قوات الدعم السريع كما تململ كثير منهم بسبب تنامي الولاء القبليّ والعرقيّ[3] في الجيش. أيضًا، فحتى الآن لم يشارك الجيش في قمع الاحتجاجات، بل قام الجيش بحماية المتظاهرين من قوات الأمن في عدد من المدن مثل بورتسودان وعطبرة وغيرها، كما اعتذر اثنان من كبار الضباط الذين تم تعيينهم كولاة لولايات كسلا والشماليّة بعد إعلان الطوارئ [4]، الأمر الذي دفع البشير لإحالة عدد من ضباط الجيش للتقاعد كما هي عادة البشير مع الضباط المتملمين من قراراته.
لكن يظل أوضح دليل على عدم ولاء ضباط الرتب المتوسطة للبشير، وقوف الجيش إلى جانب المتظاهرين بعد اعتصام 6 أبريل وحمايته لهم من قوات الأمن، بل وصل الأمر لاشتباك الجيش بالأسلحة الثقيلة وإخراج الدبابات لإيقاف قوات الأمن.
ما بعد سقوط النظام: البيان الأول والثاني للمجلس العسكري
في صباح 11 أبريل عاش السودانيون لحظات ترقب شديدة عندما أعلن التلفزيون القومي عن خطاب مهم لقيادة الجيش. وبعد ست ساعات من الترقب والانتظار خرج وزير الدفاع، الفريق أول عوض بن عوف، وأذاع بيان المجلس العسكريّ الثاني، وأعلن للشعب إسقاط نظام البشير والتحفظ عليه. كما أعلن عن تكوين مجلس عسكريّ لقيادة البلاد لمدة عامين، وأعلن حالة الطوارئ لثلاثة أشهر وحظر التجوال لمدة شهر، كما دعا المواطنين لأن يتحملوا الإجراءات الأمنية المشددة في الفترة المقبلة.
رفض الشارع السودان ذلك الخطاب العسكريّ واعتبروه بداية التفاف العسكر على الثورة لأن الخطاب بتأكيده على حظر التجوال يعني ضمنيًا فض الاعتصام أمام القيادة، ولأن الخطاب لم يذكر أي تواصل بين القوى المدنية وقيادة الحراك (المتمثلة في قوى إعلان الحرية والتغيير) والمجلس العسكريّ، بالإضافة إلى كون عوض بن عوف أحد الوجوه الرئيسيّة السابقة والمقربة من الرئيس المخلوع عمر البشير، بالإضافة إلى مشاركته في حروب دارفور. كل ذلك، دفع القوى المدنية والثوار، لرفض الخطاب والمطالبة بعزل عوض بن عوف والخروج إلى أرض الاعتصام مجددًا.
اقرأ أيضًا: بعد استقالة الفريق عوض بن عوف: الخارج لاعبًا في المشهد السوداني
لم تمضِ 24 ساعة على البيان العسكريّ الأول حتى خرج المجلس العسكريّ ببيانه الثاني، لكن هذه المرة كان الفريق الركن عبدالفتاح البرهان هو من يلقى البيان بصفته الرئيس الجديد للمجلس العسكري الانتقالي وأصبح نائبه هو الفريق أول محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع (الذي رفض الانضمام للمجلس العسكريّ الذي كان بقيادة عوض بن عوف). وقدم فيه خطابًا متوازنًا دعا فيه الجميع للجلوس في طاولة الحوار والمفاوضات للخروج من الأزمة الحاليّة.
وبعد ذلك الخطاب بيوم، عقد المجلس العسكري مؤتمرًا صحفيًا بقيادة رئيس اللجنة السياسية للمجلس العسكري، الفريق عمر زين العابدين، بممثليّ القوى السياسية المختلفة للحوار حول ترتيبات الانتقال الديمقراطيّ وعودة الحياة إلى طبيعتها في الخرطوم.
الاستقطاب السياسي وقيادة المجلس العسكري للحوار
استغل المجلس العسكريّ عددًا من الأخطاء الاستراتيجيّة لقوى إعلان الحرية والتغيير (التي تمثل قيادة الحراك) والتي تمثلت في خطاب إقصائيّ لكل التيارات الإسلاميّة، ولكل القوى السياسيّة التي لم توقع على إعلان الحرية والتغيير، بالإضافة إلى كثير من الخلافات الداخليّة. فقام المجلس العسكريّ في 21 أبريل، مثلًا، بلقاء كبير يجمع كل الأئمة والدعاة في السودان، أكد فيه تفهمه مخاوف هذه التيارات الإسلامية والسلفية وأنه سيدافع عن الإسلام.
في المقابل، قبل ذلك اللقاء بأيام أصدرت قوى إعلان الحرية والتغيير تصورها لهياكل الحكم في الفترة الانتقاليّة، وفيما يتعلق بالمجلس التشريعيّ (البرلمان) ذكرت الوثيقة بأن القوى التي ستكونه قسمان: 1- قوى إعلان الحرية والتغيير (أي الأحزاب السياسية المشاركة الموقعة على إعلان الحرية والتغيير)، 2- القوى الاجتماعية الموقعة على الإعلان. وداخل تمثيلات القوى الاجتماعية، وفيما يخص القوى والتيارات الدينيّة قاموا باختيار «الطرق الصوفيّة» كممثل وحيد لكل التيارات الدينيّة، وهو ما يعني إقصاء كافة التيارات السلفية والإسلامية.
ومما زاد من هذا الاستقطاب (العلماني/الإسلاميّ) هو استمرار خطاب قوى إعلان الحرية والتغيير الذي يرى أن الثورة قامت في الأساس ضد الأحزاب الإسلامية ورفضه القاطع لأي تواصل أو حوار مع هذه القوى السياسية والمجتمعيّة. وكانت القشة التي فجرت الاستقطاب الأيديولوجيّ إصدار تجمع المهنيين (أحد المكونات الأساسيّة في قوى إعلان الحرية والتغيير) بتقديم وثيقة «مقترح هياكل الحكم وصناعة الدستور للفترة الانتقالية» بتاريخ 22 أبريل وطرح فيها مشروع دستور علمانيّ وإلغاء قوانين الشريعة الإسلامية المعروفة بقوانين سبتمبر.
وبعد ذلك بأيام قليلة اعتزم عدد من الأئمة والدعاة الخروج في تظاهرات حاشدة للمطالبة بالحفاظ على الشريعة الإسلامية ورفض العلمانيّة، وكاستجابة منه لهذه المطالب قام المجلس العسكريّ متمثلًا في نائبه، قائد قوات الدعم السريع، بالجلوس والتفاوض مع قادة تيار نصرة الشريعة ووعدهم بأنه المجلس العسكريّ لن يفرط في الدين والإسلام.
الجولة الأولى من المفاوضات: نتائج غامضة وشارع مترقب
أول مؤتمر صحفي يعقده المجلس العسكري الانتقالي في السودان بعد رحيل النظام السابق
بعد كثير من الشد والجذب، وفي 14 مايو لإنهاء الجولة الأولى من المفاوضات، توصل المجلس العسكريّ الانتقاليّ وقوى إعلان الحرية والتغيير إلى اتفاق حول طبيعة وصلاحيات هياكل الحكم في الفترة الانتقاليّة، وكان مضمون الاتفاق كالتالي:
1. تشكيل لجنة لتحقيق في حوادث الاعتداء على المواطنين.
2. أن تكون الفترة الانتقاليّة ثلاث سنوات وأن يتم تخصيص الستة شهور الأولى لحل قضايا السلام والحرب في البلد.
3. أن تحصل قوى إعلان الحرية والتغيير على 67% من مقاعد المجلس التشريعي والبقية للأحزاب للأخرى.
4. تكوين مجلس السيادة بالتوافق بين المجلس العسكريّ وقوى إعلان الحرية والتغيير على أن تحدد صلاحيات هذا المجلس في الجولة الثانية من المفاوضات.
5. أن تنفرد قوى إعلان الحرية والتغيير بتشكيل مجلس الوزراء التنفيذي.
وكتحليل لنتائج هذه الجولة الأولى يمكننا القول بأن الفكرة المركزيّة التي يمكن أن نقيس بها نتيجة التفاوضات هي «إلى أي مدى أصبحت السلطات الثلاث (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية) في يد القوى المدنية وبعيدة عن المجلس العسكريّ». والفكرة الثانيّة، أن نتذكر بأن المجلس العسكريّ لم يكن يريد أن يسلم السلطة وأنه كان يلعب على التناقضات السياسيّة لكسب المزيد من الوقت، وبالتالي فإن هذا الاتفاق هو تنازل سياسيّ بين الطرفين. بناءً على ذلك هناك أربع نقاط من المهم التفكير حولها:
1. فيما يتعلق بتخصيص 6 أشهر الأولى لحل قضايا السلام والأمن: من الأبجديات السياسيّة أن قضايا السلام والأمن لا يمكن أن تحل في 6 أشهر. ثانيًا، مما أعلن، ليس من الواضح حتى الآن من سيقوم بهذه المفاوضات (هل هو المجلس السيادي أم العسكري أم من؟) وليس من الواضح كذلك طبيعة الصلاحيات التي سيتمتع بها المسؤول عن تلك المفاوضات في هذه الفترة. فهل سيكون مجلس السيادة هو المسؤول (الذي جاء بحسب مخاطبات لقادة قوى إعلان الحرية والتغيير بأنه سيكون مجلس بقيادة وغالبية عسكريّة)، أما سيكون المجلس العسكريّ بصلاحيات قريبة من صلاحيات حالة الطوارئ. وفي كلتا الحالتين فإن العسكر هم من سيكونون مسيطرون في فترة الستة أشهر.
وهي فترة كافية لترتيب العسكر لأوراقه، وعقده عدة تحلفات داخلية وخارجية، وإحداث بلبلة في الشارع السياسيّ تمثل شرعية للانقلاب المضاد، خصوصًا إذا علمنا أن الاعتصام سيتم فضه سلميًا غالبًا بعد الوصول لاتفاق سياسيّ.
2. فيما يتعلق بكون المجلس التشريعيّ سيتكون من 67% لقوى إعلان الحرية والتغيير والباقي للتفاوض بينها وبين المجلس العسكريّ فإن هذا الكلام يعني، بدرجة من الدرجات، أن الـ33% سيتم اختيارها على عين ويد المجلس العسكريّ. لأن قبول وتنازل المجلس العسكري بإعطاء قوى إعلان الحرية والتغيير 67%، مفروض كمقابل له أن تتنازل قوى الحرية والتغيير عن 33%. السؤال هنا: من نتوقع أن يختارهم المجلس العسكريّ لتمثيل مصالحه وأولوياته؟
غالبًا هي أحزاب وأجسام في ظاهرها مدنيّ لكنها ستكون حامية لقرارات ومصالح المجلس العسكريّ. تكمن خطوة التحليل السابق في أن نسبة 67% ستكون موزعة على أحزاب وأجسام ونقابات قوى الحرية والتغيير والتي ليس بينها اتفاق كبير (كما ظهر بجلاء في منذ سقوط النظام في 11 أبريل)، وأنه من السهل حصول خلاف كبير وانقسام في السياسات والتشريعات بين هذه الأحزاب والأجسام. وإذا أضفنا لذلك أن الـ33% ستكون في حالة خلاف مستمر مع قوى الحرية والتغيير فإن هذا العنصر الثانيّ قد يقود إلى انتفاء فرصة أن تصل نسبة التصويت لما فوق 50%، ووقتها لن يكون هناك سلطة مدنيّة مؤثرة على المجلس التشريعيّ.
3. فيما يتعلق بالمجلس التشريعيّ؛ حتى الآن ليس من الواضح صلاحيات هذا المجلس فيما يتعلق بسياسات الأمن والجيش والشرطة. والسلطة المدنية تعني بصورة واضحة أن كل السياسات الأمنية والعسكريّة (مثل قتال القوات السودانيّة في اليمن، ومثل من نحارب وعلى أي أساس نحارب) تكون تحت سلطة وقرار القوى المدنيّة. فهل ستكون من صلاحيات هذا المجلس التشريعيّ أنه يضع السياسات الأمنية والعسكريّة (بالتشاور فقط مع المجلس العسكري، وتكون الكلمة النهائية للبرلمان) أم ستكون كل الصلاحيات الأمنية والعسكريّة في يد المجلس العسكريّ، وفي هذه الحالة يكون الحكم أبعد من أن يوصف بأنه حكم مدنيّ وأقرب إلى الديكتاتورية العسكريّة.
4. أخيرًا، علينا أن نفهم أن كلما ذُكر يتعلق بالشكل الرسميّ Formal Politics لهياكل الحكم، أما الواقع السياسيّ فهو مختلف تمامًا لأن الواقع لا يعتمد على الاتفاقات والمواثيق وإنما على موازين القوى والسلطة وهي الـInformal Politics، فمن يملك السلطة والقوة هو من سيؤثر وسيقود الأمور إلى حيثما يريد. وإذا أقررنا أن الاعتصام غالبًا سيتم فضه، فمعنى ذلك أن القوى المدنيّة ستكون خسرت (كارت) الضغط الرئيسيّ الخاص بها، وإذا أخذنا في الاعتبار أن الفترة المقبلة والمتعلقة بالسياسات والتشريعات ستشهد خلافًا كبيرًا بين قوى (قحت) نفسها، وانقسام مجتمعيّ كبير فيما يتعلق بهذه السياسات، فقدرة قوى الحرية والتغيير على الحشد مجددًا ستتأثر جدًا، بينما يكون المجلس العسكريّ قد حافظ على قدرته التنظيمية، مما قد يمكنه من الالتفاف على الثورة ودعم الثورات المضادة.
بمعرفة عامة بسياقات وممارسات المجلس العسكريّ الانتقاليّ منذ بداية الفترة الانتقالية في السودان يمكننا القول، إن هدف المجلس العسكريّ منذ البيان الثانيّ واستجابته للقوى المدنية بتغيير عوض بن عوف بعبدالفتاح البرهان، وجلوسه مع الإسلاميين والسلفيين وما بعد ذلك كان هو جر القوى المدنيّة لدائرة الفعل السياسيّ، بالإضافة إلى إزكاء روح الاستقطاب السياسيّ والاستفادة من أخطاء قوى إعلان الحرية والتغيير، والحديث المستمر عن ضرورة الحوار والنقاش بهدف جر القوى المدنيّة لترك الشارع (كارت الضغط الوحيد الذي تملكه القوى المدنيّة)، وحينما تجلس تلك القوى للتفاوض السياسيّ، وهي لا تملك أي (كارت) ضغط، فستكون خاسرة لا محالة.
والذي حصل هو أنه المجلس العسكريّ نجح بدرجة من الدرجات في شق الصف الوطنيّ عن طريق إظهار نفسه وكأنه استجاب لمطالب الشعب وكان جزءًا من انتصار ثوريّ خلع رئيسين في مدة زمنية قصيرة جدًا. لكن بقدر بسيط من التأمل، يمكن للمتابع الحصيف أن يدرك بأن مطالب الثورة الرئيسيّة لم يتحقق فيها إلا إسقاط رأس النظام فقط (الذي حققناه سابقًا).
الأمر الثانيّ، في السياسة التوقيت دائمًا مهم، الآن الجيش استطاع أنه يخلخل الشارع ويضع نفسه في موضع الفعل مرة عندما قاد الحوار الوطنيّ ومرة ثانية عندما قام باحتواء الإسلاميين وتيار نصرة الشريعة، وبذلك يكون قد نجح في وضع قوى الحرية والتغيير في موضع رد الفعل. ومنذ بيانه الثانيّ كان المجلس العسكري هو الذي يقدم المقترح، ترد قوى الحرية والتغيير بالرفض. لكن التحدي الحقيقيّ هو أن الشارع السودانيّ كان ينقسم أكثر فأكثر مع أي مقترح جديد، وهو ما يشكل خطرًا على الكتلة الحرجة من الثورة.
الواجب المنزلي قبل بداية الجولة الثانية من المفاوضات
في يوم الجمعة 17 مايو، قام تيار نصرة الشريعة بالخروج في مظاهرات متعددة في أحياء الخرطوم دعا فيها لتحكيم الشريعة والبعد عن العلمانيّة، كما شهد الشارع السودانيّ انقسامًا خلال الأسبوع السابق لذلك بخصوص قضية المتاريس/الحواجز وتحديد حدود منطقة الاعتصام وهو ما دفع المجلس العسكريّ لتعليق الجولة الثانية من المفاوضات حتي يوم الأحد 19 مايو.
في هذه الأثناء التي ارتفع فيه صوت الاستقطاب الأيديولوجيّ، وقبل ساعات من بداية الجولة الثانية من المفاوضات يمكننا أن نقول بأن الواجب المنزليّ الذي يجب على القوى المدنية (وتحديدًا قوى إعلان الحرية والتغيير) القيام به قبل بداية المفاوضات هو:
1. ترتيب البيت الداخليّ والوصول إلى اتفاق جاد بين القوى السياسيّة الحالية الموقعة على إعلان الحرية والتغيير. بحيث لا يسمع الشارع صوت الخلافات الداخليّة بين تلك القوى ولا يشاهد تخبط وتردد تلك القوى في الإعلام. ولعل مقترح تشكيل لجنة قيادية لقوى إعلان الحرية والتغيير الذي تقدمت به قوى «نداء السودان» يمكن أن يشكل بداية حل لهذا التضارب وعدم الاتفاق.
2. التواصل مع باقي القوى الاجتماعيّة والسياسية بما فيهم القوى غير الموقعة على إعلان الحرية والتغيير وبما فيهم الإسلاميين وتيار نصرة الشريعة والقانون لأن ذلك كفيل بتشكيل جبهة وطنية عريضة ستمنع محاولات استقطاب الشارع، وستوقف مزايدات ومماطلات المجلس العسكريّ في حدها، وستقطع الطريق على محاولات الثورة المضادة من النظام السابق.
ولعل الدرس المهم الذي يجب على قوى إعلان الحرية والتغيير استصحابه في هذه الجولة هو أن نسبة 67% التي حصلت عليها في المجلس التشريعيّ كان يمكن أن تكون 90 أو 100% لو كانت قوى الحرية والتغيير هي من تواصلت مع باقي القوى السياسيّة والمدنيّة قبل المجلس العسكريّ، وأن تتذكر جيداً أن أي تنازع سترفض تقيده لرفقائها من القوى المدنيّة ستضطر راغمة أن تقدمه للمجلس العسكريّ.
- Eliza Mackintosh and Nima Elbagir, Five people killed amid massive demonstrations outside presidential compound, CNN, 7 April 2019.
- خالد عثمان الفيل، الحراك في السودان: الفاعلون الرئيسيون والسيناريوهات المستقبلية، مركز الجزيرة للدراسات، 21 يناير 2019.
- الواثق كمير، انتفاضة الشباب وتحديات الانتقال والتحول الديمقراطي: أسئلة تبحث عن إجابات!، سودانايل، 20 فبراير 2019.
- اعتذار الفريق ركن أحمد محمد عبدالرحمن قرينات عن تولي منصب والي ولاية كسلا، كما اعتذر الفريق ركن هاشم عبدالمطلب احمد عن تولي منصب والي الولاية الشمالية.