رحلة في عالم من الأبعاد الإضافية – الحلقة السابعة

مراجعة وتحرير إسلام سعد

في عام 1967، كان «جابرييل فِنيزيانو – Gabriele Veneziano» -باحث الدكتوراه بمعهد وايزمان للعلوم- يعمل على وصف القوى النووية -والتي تعرف أحيانًا بـ«القوة الشديدة المتبقية – Residual strong force» كنتيجة للقوى الشديدة بين الكواركات. تتمثل القوة الشديدة المتبقية بمقدار أضعف بكثير من القوة الشديدة بين الكواركات. هذا الضعف هو المسئول عن عدم استقرار أنوية العناصر الكيميائية الثقيلة وانشطارها إلى عناصر أصغر، وهو ما لم يتمكن الفيزيائيون من تفسيره باستخدام نظرية يانج-ميلز.

بينما كان فنيزيانو يبحث في المكتبة عن مراجع في القوى النووية، وتحديدًا المراجع المهتمة بالخواص الرياضية للدوال التي تصف «تشتُّت الجسيمات الأولية – scattering of elementary particles» عند تصادمها مع بعضها البعض، وقعت عيناه بالصدفة على كتاب قديم، وبدافع الفضول نظر فنيزيانو داخل الكتاب ليجد ما أحدث قفزة في تاريخ الفيزياء النظرية وتسبب في ميلاد نظرية الأوتار.

نموذج الرنين الازدواجي

قبل حادثة المكتبة بفترة قصيرة، استمع فنيزيانو لمحاضرة «موراي جيلمان – Murray Gell-mann» أثناء زيارة لمعهد وايزمان. ناقش جيلمان خلال تلك المحاضرة اقتراح زملائه «ريتشارد دولن – Richard Dolen»، و«ديفيد هورن – David Horn»، و«كريستوف شميد – Christoph Schmid» في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا «كالتك»، باعتبار «مخططي فاينمان المختلفين – Feynman diagrams» لتفاعلات الميزونات المعبرة عن القوة النووية على أنهما مخطط واحد، وهو ما عُرف لاحقًا بازدواجية «دولن-هورن-شميد – DHS duality».

نظرية الأوتار فيزياء
مخططات فاينمان لقناة-المكان s-channel وقناة الزمن t-channel. يرمز للجسيم الوسيط بالخط المتقطع، بينما نصف حركة الجسيمات بخطوط متصلة. هذا الوصف مرتبط بكيفية تحديد اتجاه أبعاد الزمن والمكان كما هو موضح على اليسار أسفل الصورة. إذا أردت عكس المحاور، ستبدل اسمي المخططين

تُوصَف مخططات فاينمان في لحظات زمانية ونقاط مكانية؛ ففي مخطط قناة المكان، يندمج الجسيم 1 مع 2 فيكونان جسيمًا وسيطًا غير مستقر -مثل الميزون- في نقطة مكانية، ثم يتحلل ذلك الجسيم الوسيط إلى الجسيم 3 و 4. أما في مخطط قناة الزمن، فيتقارب الجسيمان 1 و2 بالقدر الكافي لزيادة طاقة الجسيم 1 إلى أن يلفظ جسيمًا غير مستقر للجسيم 2، وذلك في لحظة زمنية معينة. بسبب قانون حفظ الزخم، يرتد الجسيم 1 بطاقة واتجاه مختلفين عما بدأ به التفاعل، فيصبح الجسيم 3. يحدث نفس الأمر أثناء تحوُّل الجسيم 2 إلى 4 بعد امتصاصه ذلك الجسيم غير المستقر. تدعى هذه العمليات بالتشتُّت scattering، ويُوصف الجسيم الوسيط بطاقة تعرف باسم طاقة الرنين، أو تختصر إلى الرنين resonance.

ولأن العمليتين السابق ذكرهما تصفان نفس الحدث في الزمكان، يمكننا اختزال المسألة في إيجاد معادلة واحدة تصف طاقة رنين واحدة للمخططين. وفي العادة تحتاج الازدواجية شرطًا إضافيًا لاختيار الميزونات المناسبة لتمثيل القوى النووية، وهو أن يكون جسيم الرنين ذا طاقة عظيمة وبعُمْر قصير. لذا، نرى أن جسيم ميزون-رو rho meson يمثل القوى النووية بشكل أفضل -مقارنة بالبايون pion- لتوافق ميزون-رو مع شروط طاقة الرنين.

ونظرًا لاستحالة الربط بين المخططين بشكل مباشر، استعان فنيزيانو –كما يحكي– بمخطط إضافي يدعى u-channel للربط بين المخططين الآخرين، ثم دَمَجَ جميع المخططات بواسطة الدالة التي وجدها في ذلك الكتاب القديم. كانت تلك الدالة هي صيغة أويلر للدالة بيتا Euler beta function، وهي لا تميز بين ترتيب حدوث تفاصيل المخططات. بدلًا من وصف الجسيم الوسيط بخط كما هو الحال في مخططات فاينمان التقليدية، نصف الجسيم بمخطط رباعي الرؤوس بخواص دورية بين أربعة أركان تصل زخم الجسيمات 1 و 2 و 3 و 4 ببعضها البعض، ولذلك يعُرف النموذج بنموذج الرنين الازدواجي رباعي النقط four-point dual resonance model.

نظرية الأوتار فيزياء
مخطط u-channel
نظرية الأوتار فيزياء
مخطط الرنين الازدواجي رباعي النقط

فيما بعد، سافر فنيزيانو إلى سيرن CERN، وهناك أودع بحثه في أرشيف ما قبل النشر preprints archive، ثم نُشر بحثه عام 1968. لاحقًا، تمكن حاييم هراري Haim Harari وجونثان روزنر Jonathan Rosner -على حدة- من تطوير المخطط رباعي النقط لإثبات التكافؤ بين تمثيل الجسيم الوسيط بميزون (وهو بوزون) أو باريون (وهو فِرميون). سيقودنا هذا التكافؤ لاحقًا إلى نوع جديد من التناظر يسمى التناظر الفائق Supersymmetry، وهو موضوع المقالة القادمة.

يمكننا ملاحظة هذا التكافؤ في الصورة التالية لمخطط هراري-روزنر عن تفاعل بايونات مع نيوكليونات. يظهر في المخطط الأعلى جسيم دلتا Delta-Particle مكونًا من كوارك علوي Up وكواركين سفليين Down، أي أنه باريون، لكنه ليس نيوكليونًا مستقرًا، وإنما حالة مستثارة من البروتون، وهو فرميون. ويظهر في المخطط السفلي جسيم رو Rho-particle وهو -كما نعرف- ميزون لأنه يتكون من كواركين، أي أنه بوزون. هذا التكافؤ يقترح تصنيف الباريونات والميزونات تحت مظلة أشمل تدعى الهادرونات Hadrons أو «العُفَيْقِنَات»، وتضطلع الهادرونات بدور في تطوير نظرية الأوتار كما سنرى في المقالة القادمة.

نظرية الأوتار فيزياء
مخطط هراري-روزنر ازدواجي لعملية التشتُّت بين بايونات وجسيمات نووية. يمكن رؤية المخطط على اليسار باعتباره مخططًا رباعي النقط. ويظهر المخطط الأعلى على أنه مخطط قناة الزمن بجسيم دلتا وسيط. بينما يظهر المخطط الأسفل على أنه مخطط قناة المكان بجسيم وسيط رو Rho سالب الشحنة

حظ سوزوكي العاثر، وتوازي الدحيح المعرفي، مرة أخرى

جدير بالذكر أنه في نفس العام كان ماهيكو سوزوكي Mahiko Suzuki يعمل بشكل مستقل على نموذج فنيزيانو. كان سوزوكي مبتعثًا من اليابان إلى كالتك للعمل على ازدواجية دولن-هورن-شميد، وهناك تمكن من مقابلة دولن وهورن، بينما كان شميد قد ترك الولايات المتحدة للعمل بسيرن CERN في سويسرا، لم يتمكن سوزوكي من مقابلته. عمل الأخير على الانتهاء من نموذجه بشكل منفرد، لكن فترة ابتعاثه انتهت، فانتقل إلى سيرن، وهناك تمكن من إنهاء ما بدأه في كالتك.

أراد سوزوكي أن يودع بحثه في أرشيف ما قبل النشر بسيرن كعادة الفيزيائيين في ذلك الوقت لحفظ حقوقهم الأدبية قبل النشر الرسمي في الدوريات العلمية (حاليًا يتم ذلك على موقع arXiv). ولكي يتم ذلك، فإن القواعد تحتم الحصول على موافقة باحث مقيم في سيرن من ذوي الخبرة والأقدمية. تقابل سوزوكي مع شميد لهذا الغرض، وبعد اطّلاع شميد على بحث سوزوكي، أبلغه بأن شابًا يدعى فنيزيانو قد أودع نفس الفكرة قبله!

هرع سوزوكي إلى الأرشيف وهناك اكتشف المفاجأة: لم يكن هناك فرق بين ما يقترحه وما كتبه فنيزيانو، باستثناء المثال الذي استخدمه فنيزيانو لشرح دمج القنوات ببعضها. كانت صدمة كبيرة لسوزوكي، وقد أظهر جيلمان تعاطفًا كبيرًا مع سوزوكي بعد أن أبلغه شميد بالواقعة. حاول جيلمان أن ينشر في أوساط الفيزيائيين مشاركة سوزوكي لفنيزيانو في حق نسبة اكتشاف هذه الطريقة، وهو ما يذكرنا بقصة عبد السلام مع رونالد شو بخصوص نموذج يانج-ميلز، لكن بقيت الطريقة منسوبة إلى فنيزيانو، وهو ما نراه دومًا في الوثائقيات والكتب غير المتخصصة التي تناقش ميلاد نظرية الأوتار.

لاحقًا في عام 1968 اكتشف كلاود لَفليس Claud Lovelace وجول شابيرو Joel Shapiro نفس النموذج، وهو ما أعطى النموذج دفعة كبرى كي يهتم به الفيزيائيون. في المقالة القادمة، سنرى كيف حوّل لَفليس نموذجه إلى أول نظرية أوتار في 26 بُعْدًا، وهو ما لا تذكره الوثائقيات أيضًا [1].

أشباح من نوع جديد

على الفور، جذب نموذج فنيزيانو أنظار العديد من الفيزيائيين، لكن هذا النوع من النماذج يندرج تحت ما يسمى بالنموذج اللعبة toy model، لافتقاره مناقشة تفاصيل باقي الخواص الكمية كالغزل ونظيره. لذا عمل العديد -من ضمنهم فنيزيانو نفسه- على توسيع النموذج ليصبح قادرًا على وصف كل الخواص الكمية، وأي عدد من الجسيمات بدلًا من الاكتفاء بأربعة فقط. وبالتأكيد فالدالة بيتا غير قادرة على تحقيق ذلك الهدف، لذا استُبْدِلَت بآلية أخرى تدعى التحليل إلى عوامل (التعميل) Factorization لوصف كل الخواص الكمية. تقوم آلية التعميل على تفكيك الجسيمات الوسيطة إلى هزازات كمية توافقية quantum harmonic oscillators كتلك التي تملأ الفراغ في نظرية الكم للمجالات. 

وعلى غير المتوقع، وأثناء تطبيق منهجية التعميل، ظهرت بعض الجسيمات باحتمالات ذات قيمة سالبة لدالة الموجة الكمية لتلك الجسيمات negative probability of wavefunction! تدعى تلك الجسيمات بالجسيمات الشبحية ghosts أو الجسيمات الزائفة spurious بحسب تعبير سرجيو فَبيني Sergio Fubini زميل فنيزيانو، وهي جسيمات غير مرحب بها في أي نظرية فيزيائية. للتخلص من هذه الجسيمات، اقترح ميخيل فيراسورو Miguel Virasoro الشيء الذي ينقذ الموجات في أي نظرية مجال فيزيائي من الاحتمالات السالبة، وهو تثبيت المقياس gauge fixing، وقد سبق أن تحدثنا عن ذلك في المقالة الرابعة من هذه السلسلة، لكن ثمن تثبيت المقياس هذه المرة كان مكلفًا بعض الشيء.

نتج عن اقتراح فيراسورو تحويل تلك الأشباح إلى جسيمات باحتمالات كمية موجبة، لكنها تتحرك بسرعة أعلى من سرعة الضوء! هذه الجسيمات هي المعروفة بالتاكيونات Tachyons. وقد تذكر عزيزي القارئ ظهور التاكيونات من قبل لآينشتاين أثناء نقاشه لنموذج كلاين، وذلك عند اختياره لتثبيت المقياس بطريقة مختلفة عن طريقة كلاين. وبقي نموذج الرنين الازدواجي مصابًا بتلك التاكيونات إلى حين تطوير النموذج إلى نموذج آخر يدعى نفو-رامون-شوارتس Neveu-Ramond-Schwarz model والذي سنناقشه في المقال القادم.

لاحقًا، عمل كل من يوإتشيرو نامبو Yoichiro Nambu وهولجر نيلسن Holger Nielsen وليونارد سَسْكنِد Leonard Susskind -منفصلين عن بعضهم- على توسيع النموذج لأي عدد من الجسيمات بدلًا من أربعة. كان دافع الفيزيائيين الثلاثة واحدًا: أراد الثلاثة معرفة كيفية تفاعل الكواركات في مخططات هراري-روزنر مع بعضها البعض. وكان نامبو أول من لاحظ التشابه بين نموذج فنيزيانو والنسخة الكمية من الأوتار الكلاسيكية quantum strings. فإذا تمكننا من تحويل مخططات فاينمان إلى مخططات ازدواجية هراري-روزنر، فهل من الممكن أيضًا تبسيط مخططات هراري-روزنر لمخططات من نوع جديد؟

ظهور الأوتار

تمثلت الإجابة في اعتبار تلك الهزازات التوافقية جسيمات ذات أنساق وترية string modes تتقاذفها الكواركات فيما بينها. ونظرًا لكثرة الهزازات التوافقية في النموذج، أدرك نيلسن أن التفاعلاتِ في مخططات هراري-روزنر كثيرةٌ ومتشابكة كخيوط شبكة صيد سمك fishnet، لذا يمكن الحصول على مخطط فاينمان باعتباره وصفًا جمعيًا collective description لكل تلك التفاعلات. لاحقًا استُبْدِل هذا النموذج بنموذج الجلونات Gluons المتبادلة بين الكواركات في إطار أنبوب التدفُّق Flux tube، وهو ليس أنبوبًا واحدًا، ولكنه شبكة معقدة كما يتضح في الصور أدناه. ثم عاد نموذج الأوتار من جديد بظهور ما يعرف بفعل بولياكوف Polyakov action والذي سوف نناقشه في المقال القادم.

كما حلل سسكند نظرية فنيزيانو باعتبارها التقريب الأوّلي لدالة أكبر وأعم من دالة بيتا، فحصل على نموذج مشابه لذلك الذي حصل عليه نيلسن. كما اقترح سسكند تتبع مسار الوتر في الزمكان على هيئة موجة في بعدين، هذه الموجة هي صفحة العالم worldsheet التي اقترحها نوردشترم التي أشرنا إليها في ثاني مقال في السلسلة. يمكننا الآن تخمين إمكانية إضافة بعد خامس، ولكننا سنوفر نقاش الأبعاد الإضافية في نظرية الأوتار إلى المقال القادم.

رأى نامبو أن أفضل وصف للطاقة الداخلية للميزونات هي طاقة الوتر الكمي المهتز ذي الطول المحدَّد، كذلك الطول الذي افترضه كلاين في نظريته. فإذا كان لدينا تفاعل نووي يمثله ميزون مكون من كوارك وكوارك مضاد، نستبدل هذا الميزون ككل بصفحة العالم worldsheet للوتر المفتوح open string المتبادل بين الكوارك والكوارك المضاد. جدير بالذكر أن تِتسو جُتو Tetsuo Gotō قد توصل إلى نفس نتيجة نامبو وفي بُعد واحد، ولذلك يعرف النموذج بنموذج نامبو-جُتو [2].

وهكذا نرى أن دافع نامبو ونيلسن وسسكند هو تبسيط التفاعلات النووية من نموذج ساكاتا إلى نموذج الكواركات كما سنرى بعد قليل، ولكن الدافع الآخر -الذي لم يظهر صراحة- كان دمج الفرميونات والبوزونات في نموذج واحد كما أشرنا من قبل في مخطط هراري-روزنر بجسيم دلتا وجسيم رو، وهو نفس الدافع الذي أدى إلى ظهور ما يعرف بالتناظر الفائق Supersymmetry، لكن التناظر الفائق له قصة أخرى. فقد وُلد من رحم أزمة كبيرة كادت تعصف بمشروع توحيد القوى الكمية مع الجاذبية من جذوره.

مخطط هراري-روزنر والأوتار الداخلية كخيوط شبكة الصيد
صورة: مخطط هراري-روزنر والأوتار الداخلية كخيوط شبكة الصيد

هل يمكن توسيع النموذج العياري إلى عشرة أبعاد؟

عدنا من جديد إلى منتصف الخمسينيات، إذ لدينا نظرية يانج-ميلز بفضاءاتها الداخلية، والنسبية العامة بزمكانها الخارجي. ولكن قبل أن نسأل إن كان من المتاح لنا توحيد النظريتين، فنحن بحاجة لمعرفة أين توقفت فيزياء الجسيمات ونظرية يانج-ميلز. فمع توالي اكتشاف العديد من الميزونات وربط تحللها باللبتونات Leptons، أصبح واضحًا للفيزيائيين أن التفاعلات النووية أعقد بكثير من استيعابها في صورة تفاعلات البايونات التي تحدثنا عنها في المقالين السابقين.

لاستيعاب تعقد التفاعلات النووية، ظهرت صيغة ناكانو-نيشيجيما-جيلمان Nakano-Nishijima-Gell-Mann (NNG) rule لتربط بين شحنة الجسيم ونظير الغزل Isospin -الذي تحدثنا عنه سابقًا- وخاصية «الغرابة» strangeness. وخاصية الغرابة تعني أن بعض الميزونات تتكون بسهولة غير معتادة نتيجة تصادم الباريونات Baryons، لكنها تتحلل بطء مخالف للحسابات بما ينافي ندرة تواجدها في الطبيعة. وفي عام 1956 اقترح شُويْــتشي ساكاتا Shoichi Sakata -المشرف على سوزوكي أثناء الدكتوراه- نموذجًا لوصف كل الباريونات والميزونات. كان نموذج ساكاتا يختزل كل الجسيمات النووية في صورة خليط من البروتونات والنيوترونات وجسيم يدعى باريون لامدا Lambda baryon، وهو المسئول عن خاصية الغرابة، بنفس طريقة اختزال هايزنبرج للبروتون والنيوترون في التفاعلات النووية.

طبقًا لنموذج ساكاتا، إذا رصدنا نواة تتحلل ببطء مخالف للحسابات، فهذا يعني ظهور باريون لامدا بداخلها أثناء العملية. وكما وصف يانج وميلز نظريتهما في فضاء داخلي ببعدين في نظرية الميزونات، كذلك فعل العديد من الفيزيائيين مثل يوفال نئمان Yuval Ne’eman، سيدني ميشكوف Sydney Meshkov، هاري لِبكِن Harry Lipkin، وكارل لفينسون Carl Levinson باقتراح فضاء داخلي آخر بثلاثة أبعاد لاستيعاب خاصية الغرابة إلى جانب البروتون والنيوترون. لن نتشعب في وصف هذا الفضاء كما فعلنا في المقالة السابقة مع الفضاء ذي البعدين. يكفيك معرفة أننا نتحدث عن الزمرة لَيْ الوحدوية Lie Group of SU3. إن لم تمتلك خلفية رياضية، يمكنك تجاهل الجملة الأخيرة والاكتفاء بتوسيع مثال طبق الكزبرة والبقدونس -الذي تحدثنا عنه في المقال الخامس– ليشمل أوراق الكرفس؛ أما إن كنت من خلفية رياضية فأنت تعرف كيف تستنبط باقي المعلومات عن هذا الفضاء [3].

مع ظهور باريونات وميزونات أخرى، أصبح من الواجب تجاوز نموذج ساكاتا إلى نموذج يحتوي على ثلاث صفات أخرى -غير البروتونية والنيوترونية واللامدا- لوصف كل تلك الجسيمات. في عام 1964، تكرر التوازي المعرفي من جديد. فقد اقترح موراي جيلمان Murray Gell-Mann وجورج زڤايج George Zweig -كل على حدة- وجود ثلاثة جسيمات تكوِّن الباريونات والميزونات، أطلق جيلمان على جسيماته اسم كواركات quarks، والتسمية مستوحاة من رواية يقظة فنيجان Finnegans Wake للروائي جيمس جويس James Joyce، بينما استخدم زڤايج اسم آيس Ace نسبة إلى أوراق اللعب (الكوتشينة). أودع زڤايج اكتشافه في أرشيف ما قبل النشر في سيرن، لكنه لم ينشر ما وصل إليه رسميًا، وكانت تلك حجة لجنة جائزة نوبل عندما قررت منح الجائزة لجيلمان بشكل رسمي على اكتشاف باريونات أوميجا Omega baryons ولم تمنحها لزڤايج رغم أن الاكتشاف مبني بالأساس على التنبؤ بوجود الكوارك/الآيس!

لاحقًا، تم استيعاب ثلاثة كواركات جديدة داخل النموذج بعد توقُّع وجودها في ميزونات أخرى. ويرجع الفضل لازدواجية هراري-روزنر في التنبؤ بوجود تلك الكواركات الإضافية في الباريونات، بينما استُخْدِم نموذج يانج-ميلز لوصف القوى المتبادلة بين تلك الكواركات. تم تمثيل القوى ببوزونات الجلون gluon bosons. أصبح لدينا النموذج العياري الذي يصف كل الميزونات والهادرونات وأيضًا اللبتونات. لقد تمكننا من توسيع النموذج الأولي ليانج-ميلز ليصبح نموذج الكواركات، وتوسع نموذج الكواركات ليصبح النموذج العياري، ثم ظهر سؤالان جديدان: الأول عن إمكانية توسيع النموذج العياري داخل فضاء سداسي الأبعاد ليشمل الكواركات الجديدة بجانب الزمكان رباعي الأبعاد، والثاني عن إمكانية إيجاد طريقة تحويل بين الفضاء الداخلي والزمكان بحيث يمكن استيعاب الجاذبية داخل النموذج العياري، وكانت الإجابة محبطة!

صدمة كوليمان-ماندولا وسبينورات النيوترينو:

في نفس العام الذي بشّر فيه فنيزيانو بنموذجه، كانت الفيزياء النظرية على موعد مع مشكلة جديدة. صُدم الفيزيائيون ببرهان سيدني كوليمان Sidney Coleman وجيفري ماندولا Jeffrey Mandula لأنه يَحول دون دمج الزمكان مع الفضاءات الداخلية في فضاء زمكاني واحد، كما يثبت البرهان استحالة زيادة أبعاد الفضاء النووي الداخلي إلى ستة أبعاد أو أكثر، بالرغم من وجود ستة كواركات (علوي، سفلي، غريب، بالإضافة إلى القِمّي، والقعري، والساحر) ممثلة بستة جسيمات نووية أساسية (بروتون، نيوترون، لامدا، بالإضافة إلى أوميجا، سيجما، كاي) وتنويعاتها.

ينص البرهان على استحالة المزج بين الزمكان والفضاءات الداخلية بطريقة غير تقليدية مختلفة عن دراسة التحويلات عبر الفضاء الداخلي عند كل نقطة زمكانية، ثم دراسة التحويلات عبر الزمكان على حدة. إذن هذه هي نهاية الطريق! لا يمكن الانتقال من الزمكان إلى الفضاء الداخلي والعكس، ياله من برهان محبط! لكن مهلًا! لقد نسينا جسيمات مهمة تدعى النيوترينوات neutrinos، كيف يمكننا تفسير سلوكها من خلال النموذج العياري؟

تظهر النيوترينوات في التفاعلات الكهروضعيفة مع تحول البروتون إلى نيوترون والعكس بدون تدخُّل من الميزونات. والنيوترينوات فرميونات غير مكونة من جسيمات أخرى كالهادرونات، ولذلك تصنف النيوترينوات على إنها لبتونات Leptons أو «الخُفَيْفِنات» مثلها مثل الإلكترونات. لو أنك تذكر التناظر النووي بين البروتون والنيوترون في المقالة الخامسة، فأنت تعلم تجاهلنا للفرق في كتلة البروتون والنيوترون. بمعرفة هذا الفرق، ومع مراعاة كتلة الإلكترون أو البوزيترون المتداخل مع التفاعل، لا يزال هناك فرق في الكتلة، وهو الفرق الذي تحمله النيوترينوات.

من الغريب أنه -وقبل اقتراح هايزنبرج للنيوكليونات بعامين- اقترح باولي عام 1930 وجود تلك النيوترينوات بدون كتلة، لكنه لم يتحرج من وجودها كما تحرج من جسيمات الشبح عام 1953. قبل اقتراح باولي بعام، نجح ڤايل في الجمع بين نظرية ديراك للفرميونات والفرميونات المضادة والكهرومغناطيسية من خلال مقياسه كما اقترحه أول مرة في الزمكان عام 1918، وبدون تعديل المقياس ليناسب الفضاء الداخلي. ولكن ما هي علاقة اللبتونات واللبتونات المضادة ببعضها؟ وكيف يؤثر ذلك على وصفنا لها؟

في نظرية الكم للمجالات quantum field theory تعتبر الجسيمات المضادة antiparticles مكافِئةً للجسيمات العادية من حيث الكتلة مع الفارق البادي في تحركها منتشرة في اتجاه معاكس لاتجاه سهم الزمن، ولهذا فهي تحمل شحنة وغزلًا spin معاكسَيْن لشحنة وغزل الجسيم العادي. 

سبينور إذ يتمثَّل في متجه يغير اتجاهه خلال الحركة عبر سطح شريط مُوبْيَس Mobius strip. يبدأ المتجه الحركة من موضعه باللون الأزرق ليصل إلى الموضع باللون الأحمر وقد غيَّرَ اتجاهه بعد دوران 360 درجة. وإذا دار 360 درجة إضافية يعود إلى موضعه الأصلي باللون الأزرق متخذًا نفس الاتجاه.
https://www.youtube.com/watch?v=UIR22SgrOz4

ولوصف هذه النيوترينوات المضادة، نحتاج إلى تعديل نظرية ديراك، فيصبح لدينا نوع خاص من الفرميونات تغير اتجاهها عند تدويرها في الزمكان 360 درجة، وهو ما يعني أننا نحتاج إلى تدوير هذا الفرميون 720 درجة في الزمكان كي يعود إلى اتجاهه الأصلي. مثل هذا الوصف الرياضي للفرميون يُسمى الغَزّال أو السبينور spinor، ويمكن أيضًا تشبيه السبينور بالخدعة البصرية التي في الفيديو السابق، مع مراعاة أن السبينور -بعيدًا عن تأثيرات الجاذبية- يعيش فعليًا في زمكان منكوفسكي وليس في الفضاء الإقليدي المكاني، مما يعني أن زاوية الدوران للسبينور هي زاوية معينة بين محوري الزمان والمكان، وتسمى زاوية القِطع الزائد Hyperbolic angle -وأحيانًا تسمى زاوية الإسراع Rapidity– التي في الرسم البياني لزمكان منكوفسكي، والذي تحدثنا عنه في أول حلقة من هذه السلسلة. ويمكن الإشارة في عجالة إلى وجود علاقة بين زاوية الإسراع وأحد أنواع التحويلات الامتثالية التي تدعى اقتران الاعتصار squeeze mapping، لكننا لن نخوض في التفاصيل. تكفي الإشارة إلى أن اقتران الاعتصار هو أحد التحويلات الامتثالية conformal transformations التي اقترحها ڤايل من قبل في مشروعه البديل للنسبية العامة، وهذا هو مدخل السبينورات إلى التناظر الفائق Supersymmetry. 

بمقاربة الزمكان بالفيديو، يبدو وكأن محور المكان عمودي على المرآة، بينما يبدو محور الزمان كأنه موازٍ لاتجاه قطعة البلاستيك الدوارة. وبذلك نجد المقاربة بين دوران قطعة البلاستيك مع ثبات اتجاهها وانعكاس زمان السبينور مع ثبات اتجاهه. بينما ينعكس اتجاه القطعة عند عكس صورتها في المرآة بنفس طريقة انعكاس اتجاه السبينور عبر محور المكان. وينبغي أن ننتبه إلى كون الفيديو مبنيًا على خداع بصري، بينما يتغير السبينور فعليًا بهذه الطريقة داخل الزمكان. هذا النوع من التناظر يدعى تناظر بوانكاريه Poincare symmetry والمرتبط بتحويلات لورنتز [4].

ومن الخواص السابق ذكرها للسبينور، يتضح أن أي فرميون ممثل بسبينور يشترك مع جسيمه المضاد في الحركة في نفس الاتجاه مع سهم الزمن بحيث لا يمكن تمييز الجسيم ومضاده. بالبحث عن فرميونات في النموذج العياري بهذه المواصفات، لا نجد إلا النيوترينوات والنيوترينوات المضادة. في البداية اتبع الفيزيائيون اقتراح باولي أن تكون النيوترينوات عديمة الكتلة بحيث توصف بسبينورات ڤايل Weyl spinors. لكن ومع اكتشاف وجود كتلة صغيرة جدًا لها، أصبحنا مضطرين لوصفها باستخدام نوع آخر من السبينورات يدعى سبينور مايورانا Majorana spinor، نسبة إلى مكتشفها إيتور مايورانا Ettore Majorana عام 1937، والذي اختفى مباشرة بعد اكتشافه الهام، وذلك في رحلة بحرية غامضة، حيث لم يُعْثَر عليه حتى هذه اللحظة.

ويمكن مقارنة السبينور بطريقة تمثيل الجسيم النووي nucleon في الفضاء الداخلي، وطريقة انتقاله الدورانية والإبدالية بين الخواص المكونة له، والتي تحدثنا عنها في المقالين السابقين. لكن السبينور يعيش في الزمكان، حيث يتمثل دورانه في الرسم البياني للزمكان بعملية الدفع boost عبر الزمان والمكان، بالتالي نرى أنه يوجد مقاربة بين الاثنين -من حيث مفهوم الدوران- مع مراعاة اختلاف تعريف الدوران داخل الفضاء الداخلي عنه داخل الزمكان. هذه المقاربة هي ما تجعلنا نتساءل إن كان من المتاح إيجاد علاقة بين المتجهات في الفضاء الداخلي -بأبعاده الإضافية- مع السبينورات في الزمكان. وإذا كان ذلك الأمر متاحًا، فهل هذا يعني وجود علاقة غير معروفة بين بوزونات الفضاء الداخلي وفرميونات الزمكان؟ هنا كانت لحظة ميلاد نظرية التناظر الفائق، والتي سنناقشها في المقال القادم.

المراجع
  1. Cappelli, Castellani, Colomo, Di Vecchia, The Birth of String Theory, Chapter: Early String Theory
  2. Dean Rickles, A Brief History of String Theory: From Dual Models to M-Theory, Chapter: The (Very) Early Years: 1959–1973, section: The Multiple Births of Strings.
  3. Fritzsch, Gell-Mann, 50 Years of Quarks, chapter: From Symmetries to Quarks and Beyond.
  4. Steana, An introduction to spinors, section III.