قصة أربع قَنَاعات كروية سقطت في 2021
أفنى هرقليطس حياته محاولًا وصف مفهوم الكينونة. أصر على أن الكون في حالة تغير دائمة، كذلك الإنسان، بالتالي تتشكل شخصيات البشر وتتبدل طبقًا للتجارب التي مرّوا بها، ومدى تأثيرها عليهم.
ولأننا بشر، نمر بمختلف التجارب، تمامًا مثل أعظم الفلاسفة، تتبدّل قناعاتنا، حتى دون أن ندري، خاصة وإن ثبُت مع مرور الوقت تبنينا لقناعات خاطئة، أو مشوهة على أقل تقدير.
منذ أن عادت عجلة كرة القدم للدوران مجددًا عقب توقفها بسبب فيروس كورونا، بدأت بعض القناعات المترسخة في عقول متابعي اللعبة في التساقط تباعًا، ربما بسبب مرور جميع المحسوبين على الكرة بتجربة التأقلم مع الإغلاق وتبعاته، إليك أبرزها.
اللاعب رقم 12
عادة ما يُعرَّف الجمهور على أنه «اللاعب رقم 12»، القادر على قلب موازين أي لقاء لصالح فريقه، مما جعله قوة لا يستهان بها، عُرفت اختصارًا بأفضلية صاحب الأرض.
مع عودة كرة القدم بعد الإغلاق، سنحت الفرصة للتأكد من حقيقة قوة جمهور كرة القدم وتأثيره على نتائج الأندية داخل ملعبها، وبالطبع كانت التوقعات المبدئية طبقًا لقناعات معظم المنخرطين في اللعبة تصب في اتجاه واحد؛ وهو تأثر نتائج أصحاب الأرض سلبيًا.
قارنت دراسة نُشرت في مارس 2021 بين 10 آلاف مباراة تم لعبها دون جماهير مع أكثر من 35 ألفًا لعبت بحضور جماهيري بـ10 دوريات احترافية مختلفة، خلال الفترة ما بين 2010 و2020.
أظهرت نتائج الدراسة المقدمة من «Plos One Journal»، أنّه على الرغم من وضوح تأثير غياب الجماهير على العقوبات التحكيمية ضد الأندية الضيوف، بالإضافة لتراجع طفيف في أداء أصحاب الأرض، إلا أن الأفضلية لأصحاب الأرض من حيث النتائج ظلّت قائمة.
في ظل هذه النتائج، استبعد مؤلفو الدراسة الحضور الجماهيري من عوامل فوز صاحب الأرض الرئيسية، وذهب بعضهم لعوامل أخرى يمكن أن تلعب دورًا أكثر أهمية في مسألة الفوز أو الخسارة مثل؛ إرهاق السفر، الألفة مع ملعب المباراة أو حتى بعض الجوانب النفسية الأخرى.
نحب مشاهدة الرياضة حقًا
قبيل انطلاق موسم 2020/2021، نشرت صحيفة «الجارديان البريطانية» تقريرًا يستعرض استعداد الجماهير للعودة إلى الملاعب الإنجليزية. عرض الصحفي «بول كامبيل» آراء مجموعة من الجماهير من مختلف الأعمار، والتي تأرجحت ما بين الحماس الشديد لحضور منافسات البريميرليج مرة أخرى، واكتساب عادات جديدة -أكثر نضجًا-، لا تعد كرة القدم جزءًا منها.
بغض النظر عن التبعات النفسية والشخصية لأزمة كورونا وتأثيرها على سلوكيات بعض المشجعين، تبدو المشكلة أكثر تعقيدًا، حين نصطدم بالجيل زد، الذي في طريقه لأن يشكل النسبة الأكبر من سكان العالم قريبًا، بينما تتعارض سماته الشخصية مع النهج التقليدي المُتبع في عرض المحتوى الرياضي بشكلٍ عام.
في الواقع، تختلف متطلبات الجيل زد عن ما سبقه من أجيال، بسبب نمط الحياة المتسارع، الذي يعتمد بشكل رئيسي على كم هائل من البيانات المتاحة على الإنترنت. ترغب هذه الشريحة العريضة في محتوى سريع النسق، والأهم أن يتمكنّوا من مشاهدته وقتما شاءوا، وهو ما لا توفره جداول مباريات كرة القدم المحكومة بمواعيد ثابتة.
بنفس الصدد وطبقًا لبحث أجرته شركة «Whistle Sport» عام 2018، اتضح أن 52% من رجال الجيل زد يمضون أوقات أطول في متابعة رياضات غير تقليدية مثل مسابقات الألعاب الإلكترونية والفورمولا وان، لأنها توفّر لهم المحتوى المسلي القصير، والتفاعُل شبه الكامل مع نجومهم المفضلين.
وحتى نضع كل ما سبق في سياق، نشر موقع «Statista» الإحصائي نتائج استطلاع رأي حول عدد ساعات مشاهدة جماهير كرة القدم البريطانية للعبة عبر التلفاز مقارنة بسلوكياتهم قبل الجائحة، وجاءت النتائج متماشية تمامًا مع ما هو متوقع.
حيث ارتفع عدد الأشخاص الذين أصبحوا لا يشاهدون كرة القدم بنسبة 15%، فيما انخفض عدد الأشخاص الذين يشاهدون كرة القدم بشكل متقطع بنسب تأرجحت ما بين 5% و10%، بينما حافظ المشجعون «المدمنون» على نسب المشاهدة الخاصة بهم.
بالعودة مرة أخرى لآثار فيروس كورونا على سلوكيات المشجعين بشكل عام، ربما منح توقف الرياضات التقليدية بسبب الإغلاق فرصة للجماهير من مختلف الأعمار في اكتشاف نشاطات جديدة أكثر ملاءمة لهم.
لاعب حر = لاعب زائد عن الحاجة
في أوقات سابقة، كانت أخبار الانتقال الحُر للاعب تعني ضمنيًا عدم حاجة فريقه له، سواءً لضعف مستواه أو لكسره حاجز الثلاثين من العُمر. وللمزيد من الموضوعية، لا تزال هذه الأسباب قائمةً حتى اللحظة، لكن يبدو أن سوق الانتقال الحُر تغيّر قليلًا، فماذا حدث؟
كيليان مبابي (باريس سان جيرمان)، بول بوجبا (مانشستر يونايتد)، عثمان ديمبيلي (برشلونة)، فرانك كيسيه (آيه سي ميلان)، نيكولاس زوله (بايرن ميونخ)، نُصير مزراوي (أياكس أمستردام)، كل هؤلاء لاعبون تنتهي عقودهم الصيف القادم.
تشترك الأسماء أعلاه في كونهم لاعبين دوليين، لكن الأهم أنهم لا يزالون في منتصف العشرينيات من العمر، بل أن البعض منهم يبصُم على أحد أفضل الفترات في مسيرته، والسؤال: لماذا تأخرت الأندية في تجديد عقودهم؟ أو لماذا لم تقُم بتسويقهم بوقت مبكر لضمان حصد أكبر عائد من بيعهم؟
طبقًا للتقاليد المتبعة، الوقت الأمثل لبدء مفاوضات تجديد العقود عادة ما يكون قبل عامين من انتهائها، وهو ما يعني -في حالتنا- صيف 2020، حيث عاشت أغلب الأندية كوارث مادية بسبب توقف كرة القدم.
في حديث مقتضب لموقع «ذي أثليتيك» صرح أحد ممثلي أندية الدوري الإنجليزي، أن تأخر الأندية في الوصول لصيغة اتفاق مع بعض اللاعبين يرجع لرغبة الأندية في توخي الحذر ماديًا أثناء تقديم عروض التجديد، مقارنةً بما قبل الجائحة.
بشكل عام، هذا التردد من جانب الأندية للجلوس على طاولة المفاوضات ليس انعكاسًا لقيمة اللاعب بالنسبة لهم، لكن ببساطة، تعتبر هذه الإستراتيجية المتبعة من بعض المدراء الرياضيين حيلة لإبقاء الأوضاع المادية مستقرة، أملًا في إقناع اللاعب بالتجديد في الرمق الأخير.
على الجهة المقابلة، وطمعًا في تقليل النفقات، أصبحت فكرة التعاقد مع لاعب حُر أكثر جاذبية لبعض الأندية، حتى ولو على حساب الشق الفني، تجنبًا لدفع قيم الانتقال.
هنا، يمكننا التوّصل للحقيقة الكاملة، ربما شهدت 2021 انتقالات حُرة لم تكن لتتم في ظل الظروف العادية، مثل انتقال الإسباني «سيرجيو راموس» لباريس سان جيرمان، أو رحيل الأرجنتيني «ليونيل ميسي» صوب نفس الوجهة، إلا أن ما يُمكننا التشديد عليه؛ هو أن هذا الوضع سيظل مرتبطًا بالحالة الاقتصادية التي يعيشها العالم بسبب جائحة كورونا.
الفيفا تهتم بصحة لاعبي كرة القدم
بشكل ساخر، تتعارض التصريحات الرسمية لرئيس الفيفا مع القرارات التي يتم اتخاذها مؤخرًا، ففي ذروة انتشار الجائحة، أقيم عدد من البطولات الدولية مثل بطولة الأمم الأوروبية عقب انتهاء موسم مضغوط من الأساس، وهو ما يجعلنا نتساءل: هل يهتم الاتحاد الدولي فعلًا بصحة اللاعبين أم يعاملهم كآلات؟
أبدى العديد من اللاعبين والمديرين الفنيين اعتراضهم على إقحام عدد من البطولات على رزنامة اللاعبين، لعل أبرزها دوري الأمم الأوروبي الذي انطلق عام 2018 بهدف منح المنتخبات مباريات أكثر تنافسية.
بأكتوبر 2021، وصف الحارس الدولي البلجيكي المباراة التي جمعت منتخب بلجيكا بمنتخب إيطاليا لتحديد المركز الثالث بدوري الأمم الاوروبية بأنها مجرَّد مباراة تهدف لـ«جمع الأموال».
حقيقة يبدو طرح «كورتوا» ومن يشاركه الرأي منطقيًا، عقب العودة من توقف كورونا، تم ضغط رزنامة اللاعبين بشكل قاسٍ، حيث استكملت بطولات مثل؛ دوري أبطال أوروبا، والعديد من الدوريات المحلية الكُبرى، إضافة لمجموعة من البطولات الدولية مثل؛ بطولة الأمم الأوروبية وكوبا أمريكا في فترة زمنية قصيرة.
ويعتقد أن هذه الأزمة لن تنتهي سريعًا، حيث من المتوقّع أن يقام كأس العالم في قطر بنوفمبر 2022، أي في منتصف موسم الأندية الأوروبية، فضلًا عن مقترحات لإقامة كأس العالم كل عامين من الأساس، ما يعني جداول أكثر ضغطًا وازدحامًا، وبالتأكيد إصابات أكثر.
في الواقع، لا تبدو هذه السياسات جديدة، لكنها فقط طفت على السطح مؤخرًا، فمنذ تحوّلت كرة القدم لصناعة تهدف في المقام الأول لجني المزيد من الأموال، تراجعت أهمية بعض الأهداف الأساسية للرياضة، وعلى رأسها سلامة العناصر التي لا يمكن أن يقدم هذا المنتج من دونها.
في النهاية، يمكننا القول إن 2021 كانت سنةً تساقطت خلالها العديد من القناعات التي امتلكناها، ربما لأننا لم نعد ذات الشخص الذي وضع قدمه بالنهر في المرة الأولى.