القصة الكاملة لـ «دابسي»: وما خفي كان أعظم
في البداية تجد إعلانًا يحمل اسم «dubci» به شعار بسيط، بألوان بسيطة، ربما لم يُبذل في تصميمه وتلوينه مجهود، وتحت الشعار أيقونات تشير إلى كل وسائل النقل الممكنة في مصر: تاكسي، ملاكي، ميكروباص، أتوبيس، موتوسيكل، نقل، لانش، طائرة… ربما يثير هذا انتباهك.
بعدها تظهر العديد من منشورات فيسبوك لهذا الشعار من أماكن مختلفة؛ للإيهام بحملة إعلانية تغطي مصر كلها.. ربما يثير هذا فضولك.
ثم تُنشر صور لأشخاص برفقة المتحدث العسكري السابق وخلفهم الشعار نفسه… ربما يثير هذا شكوكك.
من النظرة الأولى يشير ذلك كله إلى منافس قوي وشامل لوسائل النقل: (البرية، والنهرية، والجوية)، ومدعوم من جهات رسمية وغير رسمية، ويمكن أن يصبح «أول شركة نقل متكاملة في مصر»… قد يُذكرك هذا بشعار شركة we للاتصالات «أول مشغل اتصالات متكاملة في مصر»… وقد يغنيك هذا الاستنتاج البسيط عن البحث وراء «دابسي»، ومعرفة علاقته بالجهات الأمنية، وتوقع المُراد له ومنه، لكن يبقى السؤالان المهمان: كيف بدأت «دابسي»، وهل يجب أن نقلق منها؟
رشدي أباظة يواجه مرجان أحمد مرجان
«قولت له يا أدهم بيه كُل نفسك قبل ما حد ياكلك»… ربما اعتمدت شركة «أوبر» على خطة الشاب الطموح «رشدي أباظة» في فيلم «جعلتني مجرماً»، وذلك عند شرائها شركة «كريم»؛ لتسيطر على السوق؛ كرد فعل للضربة التي تلقتها الشركتان بعد حكم القضاء الإداري في مارس/آذار 2018، بإلزام الحكومة بمنع «أوبر وكريم»، وربما جاءت الصفقة استعداداً لنزول شركات أخرى إلى هذه السوق الواعدة التي بدأت أرباحها تثير أنظار الحكومة، في ظل الحديث عن نزول لاعب رسمي إلى هذه السوق، خاصة بعد إحالة قانون تنظيم خدمات النقل البري إلى البرلمان بعد 24 ساعة فقط من حكم إيقاف عمل «أوبر وكريم».
على الجانب الآخر ربما اتبعت الحكومة أسلوب رجل الأعمال «الشاطر» مرجان أحمد مرجان، الذي يشتري السلطة والنفوذ بماله، لكنه يدرك متأخراً أن التعلم ضروري؛ كي ينال احترام الجميع؛ لأن «الفلوس مش كل حاجة»، وبنهاية الفيلم نال مرجان كل شيء: العلم والحب والاحترام والسيطرة، لكنك ربما لم تلحظ أن ماله هو ما مهّد له الحصول على كل ذلك، وهو ما يشبه كثيراً أسلوب النظام في السيطرة على كل القطاعات.
خطة اللعب في المضمون
ربما تفسر هذه المقولة عقلية النظام المصري؛ فهو يسعى للسيطرة لا التنافسية، فمن ناحية يحكم السوق ويضمن نسبة كبيرة من أرباحه، ومن ناحية أخرى يكون لاعباً أساسياً فيه، اعتماداً على إمكانات لوجستية وبشرية وقانونية وتشريعية هائلة.
فَعَلَها من قبل عند السيطرة على المجال الرياضي من خلال «برزنتيشن سبورتس»، ثم السيطرة على قطاع الاتصالات عن طريق «we»، ثم سيطرته على الإعلام عن طريق «إيجل كابيتال»، وصولاً إلى قناة تايم سبورت، وتطبيقي «واتش إت» و«تذكرتي»، فهي خطة ربما تكررت في جميع القطاعات، مع اختلاف البنود والخطوات والمسميات ليس أكثر.
وفيما يخص خدمات النقل كانت «الحدوتة» كالتالي: تم السماح لأسماء كبرى بالعمل في مجال خدمات النقل (أوبر وكريم ثم سويفل)، مع تقديم تسهيلات استثمارية واقتصادية، وعند نجاحها بدأ الحديث عن طرح منافسين جدد؛ بدافع أنه كلما زادت الشركات تطورت الخدمات، ومن ثم ظهرت شركات مصرية ناشئة في المجال ذاته، بعدها بدأ الحديث عن قلة التنافسية، وسوء الخدمات المُقدمة، وحوادث فردية كسرقة وتحرش، وشكاوى من العملاء والسائقين، ثم جاء الهجوم الأكبر بعدم دفع ضرائب، والعمل دون تسديد للدولة أي مقابل لتشغيل الخدمات، في مقابل تحصيل مكاسب خيالية للشركات، واستحواذهم على السوق فيما يشبه الاحتكار؛ بسبب حجم استثماراتهم الضخم الذي لا يترك مجالًا للمنافسة، ويقضي على الشركات المصرية الناشئة، ويضر بالمستهلك، ونتيجة لذلك بدأ الحديث عن تسديد مقابل للدولة، وفي الوقت نفسه طُرح التساؤل البسيط: لماذا لا ننافس؟ (والنون هنا تعود على الشركات ظاهرياً والجهات السيادية باطنياً).
من هنا بدأت الدعوة إلى حاجة السوق إلى منافس جديد قوي بزيٍّ رسمي؛ ليضمن سيطرة الدولة في مواجهة «الأجانب»، ويحافظ على مصالح وحقوق الوطن والمواطن، وهذه الدعوة سبقتها مشروعات قوانين حكومية لتنظيم الخدمة هدفها إجبار الشركات على التفاوض مع الحكومة، بعد ذلك بدأت مرحلة تحضير وظهور تدريجي للمنافس الرسمي التابع لجهات سيادية مُعلنة وغير مُعلنة، مع حديث عن شائعات، ونفي صلاته بالجهات الرسمية والأمنية، والتأكيد على الوطنية ومواجهة (أهل الشر).
كيف وُلدت «دابسي»؟
في 16 يونيو/حزيران الماضي نشر أحد «جروبات فيسبوك»منشوراً يوضح ماهية «دابسي»، ذُكر فيه أن الاسم مأخوذ من مدينة كرواتية سياحية «90% من سكانها أثرياء وعصاميين وهذا ما تريد تحقيقه الشركة بإطلاق هذا الاسم»، كما ذكر المنشور -الذي استهدف مغازلة سائقي «أوبر وكريم»- أن الشركة مرخص لها العمل بجميع أنحاء مصر، حتى المطارات، وأن أهم مميزات الشركة هي توقيع عقد عمل مع «القائد» (وهو المُسمى البديل لـ«كابتن»)، بحيث يصبح موظفاً رسمياً يحصل على راتب أسبوعي أو شهري ثابت، ويحظى بتأمينات طبية واجتماعية (معاش)، إلى جانب نسبة مكافآت أكبر من الشركات المنافسة، وعمولة أقل.
وفي 3 يوليو/تموز الجاري جاء في منشور على موقع الفيسبوك: «مبروك علينا توكيل دابسي»، وصَحِبَ المنشور عدة صور، كان من أهمها صورتان برفقة العميد محمد سمير المتحدث العسكري السابق، وربما هذه إشارة إلى تبعيتها لجهات سيادية تقف خلف واجهات مدنية.
بعدها كثرت المنشورات على الفيسبوك عن اجتماعات شركات خدمات نقل محلية مع إدارة شركة «دابسي»، وفي 5 يوليو/تموز، ومع رفع أسعار المشتقات البترولية كثر الحديث عن «دابسي» كمنافس لشركات (أوبر وكريم وسويفل).
ربما جاءت البداية الرسمية مع بيان شركة «دابسي» في 9 يوليو/تموز الجاري، والذي أثار جدلاً وتكهنات واستهجانات حول تبعية الشركة «لرجال أعمال مصريين مدنيين ووطنيين» بحسب البيان الذى نفى شراكة جهاز الخدمة الوطنية التابع لوزارة الدفاع أو ملكية الحكومة المصرية، في حين ذُكر العميد محمد سمير ضمن مجلس إدارتها، كمسئول عن «تطوير الموارد البشرية، لخبرته كمحاضر وخبير في مجال التنمية البشرية»، هذا فضلاً عن لهجة البيان التي تشبه البيانات العسكرية؛ لاشتماله على كلمات، مثل (قوى الشر، وبث السموم والإشاعات المغرضة، والمحاولات المكشوفة)، وختامه بعبارة «حفظ الله مصر وشعبها، والله الموفق والمستعان».
أمور اعتيادية
هناك أمور اعتيادية حول نشأة «دابسي»، منها امتلاك الشركة لصفحة فيسبوك تضم أكثر من 6 ملايين شخص، وهذا ببساطة يشير إلى شراء صفحة قديمة، وهو أمر متّبع في مثل هذه الأمور، كذلك لغة البيان الأول للشركة تبدو اعتيادية، في ظل وجود شخص عسكري كمشرف على الموارد البشرية، كما أن هذه اللغة ومفرداتها صارت لغة المناخ العام، فنجدها في الإعلام وبيانات الأحزاب والجهات المدنية والمدارس والجامعات وحتى العبارات المكتوبة على عربات بيع اللحوم التابعة للجيش والشرطة، وربما أراد كاتبها إثارة الجدل والتكهنات كنوع من الدعاية والانتشار.
ووفقاًلتقرير بموقع المنصة فإن مجلس إدارة الشركة يضم العميد محمد سمير، وزوجته الإعلامية إيمان أبو طالب، وشخصاً يُدعى وليد السكري أحد محاربي الغلاء ضمن حملة «خلّيها تصدّي» ومؤسس الفيسبوك المصري ويعمل كمدير تسويق بوكالة أنباء الشرق الأوسط، وهو فريق عمل يمثل توليفة «وطنية» ذات خبرات وسير ذاتية محترمة، كما أن تبعية الشركة لجهة أمنية تأتي في ظل سعي هذه الجهات للسيطرة على مفاصل الدولة كلها، ووجود شخص عسكري في مجلس إدارتها يتماشى مع مطالبات عدة بتولي العسكريين مسئولية قطاعات البلاد المختلفة، والتي كان آخرها مطالبة الكابتن فاروق جعفر بإسناد اتحاد الكرة إلى القوات المسلحة عقب خروج منتخب مصر من بطولة كأس الأمم الإفريقية.
لماذا يجب أن نقلق؟
نقول إن الأمور السابقة مقلقة لكنها ليست بخطورة أمور أخرى، منها أن منشور جروب دابسي الذي ذكرناه إلى جانب بعض الأخبار المنشورة اقتصر حديثهم عن العميل على موضعين: الأول، أنه سيحظى بخدمة «واي فاي» مجانية مشاركة مع قائد السيارة دون أي تكلفة على القائد أو العميل، والثاني أن السيارات ستُزود بكاميرات مراقبة و«مايك» «عشان تبقى كل الرحلات مسجلة صوت وصورة»، وأشار المنشور إلى أن هذا الأمر يُكلف 10 آلاف جنيه، لكنه يُركّب مجاناً، وهو أمر غير منطقي، فضلاً عن كونه وسيلة تثير الشكوك حول الرقابة والمراقبة والسيطرة الأمنية، وكأن سيارات «دابسي» ستكون وحدات مراقبة متحركة تنقل داخلها وخارجها بالصوت والصورة، وهو أمر يثير القلق والريبة في الوسيلة والشركة وأغراضهما.
هذا إلى جانب عدم وضوح الصورة الكاملة أو التعاملات القانونية، ومدى سيطرة الشركة على نوعيات معينة من النقل، كالنهري والجوي، كذلك مغازلتهم للدولة في بيانهم وتتطلعهم «للحصول على دعم معنوي كبير من الدولة»؛ لمنافسة الشركات الأخرى، وهو أمر مريب لم تُقدم عليه الشركات المنافسة.
وفيما يخص العميد محمد سمير، فمن المنطقي أن تستعين الشركة بخبرات أمنية، خاصة في مجالي المرور والتراخيص، لكن اختيارهم خبيرًا عسكريًا أمر عجيب، والأعجب أنه في اليوم نفسه الذي نُشر فيه البيان المؤكد على توليه أحد مناصب الشركة، خرجت الأخبار لتؤكد اعتذاره عن تولي منصبه الجديد في الشركة.
وفيما يخص تبعية الشركة لجهات رسمية أشار بيانها إلى أنه «لم يتم التصريح من قبل الشركة عن أي شيء بهذا الصدد»، وهذا لا يُعد نفياً قاطعاً، ولا يُعد تأكيداً؛ لأن نفي الأمر لا يعني عدم ثبوته.
اهتم بيان الشركة بالنفي والتوضيح والاستباق والاتهام، ولم يهتم أو يشر إلى خدمات، رغم أن الطبيعي أن تجذب العميل بذلك، فما علاقة العميل بقوى الشر والشائعات والتنمية؟ إنما يهتم – وكذلك الشركة عند جذبها له- بما سيحصل عليه من خدمات ومميزات.
لا يُتوقع من الشركة أسعار مخفّضة، ربما تقدم عروضاً تخفيضية أو باقات أفضل من منافسيها، مثلما حدث في التجارب السابقة المشابهة، مثل we، و«واتش إت»، واللذين لم يكن تخفيض السعر هدفهما، بل استهدفا السيطرة الأمنية والتقنية بما يقترب من الاحتكار.
ربما سيُصاحب ميلاد «دابسي» حملة إعلانية ضخمة قريباً، مصحوبة بمباركة إعلامية وحكومية، وبنية تحتية ولوجيستية وتقنية هائلة، ويُنتظر – بعد مدة ليست طويلة- بدء الحديث عن نجاح الشركة وقوتها في المنافسة وتعاظم استثماراتها، وجذبها لاستثمارات أجنبية وعربية، وعقدها صفقات واتفاقيات مع جهات حكومية، وربما يتولى هذا الكيان فيما بعد مسئولية النقل العام والسكك الحديدية ومترو الأنفاق، من خلال توقيع اتفاقيات رسمية، مثلما حدث في صفقة توفير تراث ماسبيرو والدوري المصري لكرة القدم على منصة «واتش إت».
الأمر برمته مقلق وغير مُبشر، ويتماشى مع المناخ العام الذي تفرضه الدولة من المُداراة والسيطرة وعدم الوضوح، وحتى الآن يبقى مجهوله أكثر من معلومه، وكل ما لدينا هو مجرد تكهنات وتوقعات، لذا ليس أمامنا سوى ترديد المثل الشهير: «يا خبر النهاردة بفلوس بكرة يبقى ببلاش».