قصة توحش وكالة الاستخبارات الأمريكية
استخبارات الجنتلمان
بعد أن استلم «هنري لويس» مفاتيح وزارة الخارجية الأمريكية وتقلد منصب الوزير، نفّذ مبدأه الساذج (التجسس عيب). في 20 مايو/آيار عام 1929، أغلق القسم المُختص بالتجسس على المُراسلات اللا سلكية للسفارات الأجنبية العاملة في واشنطن -بصفة خاصة- وفكّ شيفرتها (1).
كانت «الغرفة السوداء الأمريكية» تعمل منذ عشر سنوات وتتبع وزارة الخارجية (2)، مما يعني أن الولايات المُتحدة الأمريكية حتى عام 1929 لم يكن عندها جهاز استخبارات بالمعنى الشامل، وذلك رغم أن أعمال الاستخبارات قديمة قدم الإنسانية وسفر التكوين (3)، بل لم يكن عندها جهاز استخبارات مركزي حتّى بداية الحرب العالمية الثانية (4)، حيث أن أقسامًا في وزارات مُتعددة عملت كأجهزة استخبارات (5)، وفي ظل حرب عالمية كان على الاستخبارات أن تكون شاملة وشمولية (6)، لأنه في الوقت ذاته كان لدى ألمانيا النازية جهاز استخبارات مُخيف يُدعى «الغستابو»، ويعمل منذ العام 1933. (7)
في أواخر مارس/آذار 1940، أرسلت اليابان «تاكيو يوشيكاوا» للعمل بمنصب نائب القنصل الياباني بجزيرة أواهو بـ هاواي، في الحقيقة كان جاسوسًا مُكلفًا بمراقبة قِطع البحرية الأمريكية بالمنطقة وجمع المعلومات عن قاعدة بيرل هاربر البحرية. استأجر يوشيكاوا طائرات سياحية للقيام بجولات سياحية قُرب قاعدة بيرل هاربر والتقط صورًا لها، وجمع معلومات عن طريق هواية الغوص والسباحة بالقرب من القاعدة، واستغل تلسكوبًا كان موجودًا أعلى مطعم ياباني لمُراقبة القاعدة وتحركات السُفن بها.
وقد نُقلت جميع المعلومات إلى اليابان بالشيفرة اليابانية السرية المُسماة اختصارًا PURPLE والّتي فكّ الأمريكيون لُغزها، لكن مُراسلات يوشيكاوا تاهت وسط المُراسلات التجارية والاقتصادية الهائلة الصادرة عن السفارة.
في مايو/أيار 1940، جعلت الولايات المُتحدة من بيرل هاربر القاعدة الرئيسية لأسطولها في المحيط الهادئ، لم يتوقع أحد الهجوم الياباني نظرًا لأن القاعدة على بعد 4000 ميل من البر الرئيسي لليابان فتُركت القاعدة بلا دفاع نسيبًا، وكان تقييم الولايات المُتحدة لقوة اليابان العسكرية خاطئًا. ما لم يعلمه الأمريكان أيضًا أن قاعدتهم البحرية الرئيسية في المحيط الهادئ كانت تحت عين جاسوس ياباني.
الرسالة المُشفرة السابقة توضح أن يوشيكاوا استطاع في وقتٍ ما معرفة كل شيء يدخل ويخرج من قاعدة بيرل هاربر. وذلك مكّن اليابانيين من وضع خطة مُحكمة للهجوم على بيرل هاربر، حيث قطع الطيران البحري الياباني حوالي 300 ميل للوصول إلى الهدف صباح يوم الأحد السابع من ديسمبر/كانون الأول 1940.
قصف الجنتلمان
كان أريل نايتجل -عريف بحري- على متن السفينة البحرية أريزونا، وقد وصف هجوم الطيران البحري الياباني قائلًا:
قُتل في الهجوم 2403 أمريكي، وجُرح أكثر من 1100، وتم تدمير 190 طائرة رابضة في قواعدها، وغرقت أو تحطمت 18 سفينة حريبة، بينما خسرت اليابان أقل من 100 طيار وبحّار و29 طائرة مقاتلة فقط. (8)
ربما لو امتلك العمّ سام حينها جهاز استخبارات مُحترف يعمل خارج الحدود -كما في اليابان والاتحاد السوفييتي وألمانيا وبريطانيا- لعلم بهجوم بيرل هاربر قبل وقوعه ونصب كمينًا للطيران البحري الياباني. على أيّة حال، بعد الهجوم الياباني الناجح على بيرل هاربر تغيرت نظرة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت إلى الاستخبارات.
كان روزفلت غريبًا في الوصول إلى المعلومات الاستخباراتية، حيث كان يعتمد على شخصين: أحدهما، فنسنت أستور Vincent Astor، وهو رجل أعمال عملاق في سوق العقارات، وكان يجمع المعلومات الاستخبارية بثلاث طُرق:
- صالونه الذي يُدعى The Room.
- التجسس على شبكة التلغراف حيث كان مُديرًا للشبكة.
- علاقته القوية بمحطة تنصت تابعة لجهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني MI6، وكان البريطانيون يمررون المعلومات إلى روزفلت عبر أستور.
الشخص الثاني كان وليم جوزيف دونوفان William Joseph Donovan، وكان يُمارس مهنة المُحاماة في نيويورك. (9)
النازيون يصلون أمريكا بـ «مشبك الورق»
في الأيام والأسابيع الّتي تلت استسلام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، فتش الجيش الأمريكي الريف الأوروبي بحثًا عن مخابئ الأسلحة التي تركها الجيش الألماني خلفه، وذلك لجمعها، فمثلًا عثروا على صواريخ V2 في «دورا» ونقلوها بحرًا إلى الولايات المُتحدة الأمريكية (10)، وقد ذُهل الضباط الأمريكان لرؤية آلة الحرب الألمانية والأسلحة النازية المُتقدمة، أدرك البنتاغون الأمر، صرخوا: «لحظة، نحنُ بحاجة إلى هذه الأسلحة لأنفسنا». (11)
تمنت الحكومة الأمريكية إعادة توطين وتوظيف وشِراء العُلماء الألمان والعاملين في الاستخبارات الألمانية من ذوي الكفاءة العالية لصالح أمريكا، لكن الكونجرس الأمريكي أقر قانونًا يمنع النازيين وكل من قاتل ضد الولايات المُتحدة من دخول البلاد، لذا وضعت الاستخبارات الأمريكية خطة سرّية عُرفت باسم «مشبك الورق Paperclip»، ولم يعلم بها سوى النخبة داخل الاستخبارات وأولئك المُنخرطين فيها (12)، ومن الذين قادوا العملية العقيد «هولغير توفتوي»، رئيس الاستخبارات العسكرية التقنية لجيش الولايات المُتحدة في أوروبا. (13)
شُحن العُلماء الألمان –أعداء الأمس- إلى الولايات المُتحدة الأمريكية، وتمت التغطية على ماضيهم.
كان «فون براون» مهووسًا بالسفر إلى الفضاء، درس الفيزياء والرياضيات من أجل فهم أساسيات عمل الصواريخ ودرس الهندسة في الجامعة التقنية في برلين، وحَلم بالطيران إلى النجوم بنفسه. حينما أصبح شابًا، في سن السابعة عشر أطلق صواريخ بدائية مع هواة آخرين في مكب ذخيرة مهجور في برلين، وكان قائدًا للمجموعة، وقد أثارت تجاربه اهتمام الجيش الألماني. في عام 1932 أصبح أخصائيًا مدنيًا كبيرًا في محطة الصواريخ كوميرسدورف التابعة للجيش الألماني، جنوب برلين. وبحلول عام 1935، أطلقت مجموعة فون براون صاروخين باستخدام محركات تعمل بالوقود السائل، وهي تقنية كانت في ذلك الوقت في بدايتها وأصبحت أساسًا لرحلات الفضاء الحديثة.
ومنذ عام 1937 ترأس موقعًا كبيرًا لاختبار الصواريخ في Peenemünde في شمال ألمانيا، كانت مهمته هي بناء «سلاح معجزة» للنازيين. صنع صواريخ لهتلر أُطلق منها أكثر من 3000 على بريطانيا ودول أخرى، وقتلت ما يقرب من 5000 إنسان، كما صنع صواريخ الثأر الثاني V2 والتي تساقطت ببذخ فوق لندن، وكان المقصود منها الثأر لقصف الحُلفاء المُدن الألمانية.
في 3 أكتوبر/تشرين الأول 1942، وصلت صواريخ V2 إلى ارتفاع 84.5 كيلومترًا، أقصى الحدود الجوية، وكان ذلك معلمًا رئيسيًا في تاريخ السفر إلى الفضاء. وفي 2 مايو/آيار 1945 حينما تأكدت هزيمة ألمانيا النازية، قرر «فون براون» تغيير طرف اللعبة، قابل القوات الأمريكية في تيرول مع بعض العلماء من فريقه. وشرح سبب انشقاقه قائلًا: «لقد خسرت بلدي حربين عالميتين، هذه المرة أريد أن أكون إلى جانب الفائزين».
لم تكن الـ CIA قد أُنشئت بعد، لذا تكفل جهاز الخدمة السرية (وهو واحد من أقدم أجهزة التحقيق في الولايات المتحدة الأمريكية، أُنشئ بعد الحرب الأهلية بهدف مُكافحة تزوير العملة الأمريكية المُنتشر حينئذٍ) بإحضار فون براون وفريقه المؤلف من 100 فرد إلى الولايات المتحدة، وكان شعاره: «الماضي هو التاريخ، المستقبل هو ما يهم».
حينما وصل «فون براون» إلى أمريكا بعد هزيمة هتلر، تم التغطية على ماضيه بل وظهر على تلفزيون ديزني، بطلًا أمريكيًا صمّم أبولو 11، الصاروخ الذي أوصل أمريكا إلى القمر، فهبوط أمريكا على القمر لم يكن مُمكنًا لولا ذكائه.
خيرٌ من ألّا تصل
قال الرئيس الأمريكي هاري ترومان إلى أحد أصدقائه: «حينما تسلمتُ السلطة لم تكن للرئيس وسائل لتنسيق المعلومات الاستخبارية حول العالم»، سبق للرئيس روزفلت أن أنشأ مكتب الخدمات الإستراتيجية OSS، لكنه لم يُؤسَس قط ليستمر، ووُلدت الاستخبارات المركزية الأمريكية من رماده. (14)
أُنشئت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الـ CIA في عام 1947 وكانت مُهمتها جمع المعلومات الاستخبارية، وتم إنشاء وكالة أخرى تتولى إدارة العمليات السرّية، وتم ضمهما في العام 1950، حيث يجب وضع الاستخبارات السرّية والعمليات السرّية تحت إدارة واحدة. (15)
يقول ألبرت أينشتاين: «عليك أن تتعلم قواعد اللعبة أولًا ثم عليك أن تتعلم كيف تلعب أفضل من الآخرين»، هذا بالنسبة لعالم أينشتاين العلمي النبيل، أمّا بالنسبة لعالم الاستخبارات فعليك أن تتعلم قواعد اللعبة أولًا ثم تلعب أقذر من الآخرين. لدرجة أن كاتبًا سوفييتيًا وصف «آلان دالاس»، الذى تولى منصب مدير الـ CIA عام 1953، قائلًا: «إذا وصل الجاسوس آلان دالاس إلى السماء، فإنه سيبدأ بتفجير السحب ونسف الكواكب وذبح الملائكة». (16)
ألزمت الاستخبارات الأمريكية المركزية نفسها بقواعد أشبه بمبادئ العصابات والمافيا، لدرجة أنها تآمرت على قتل مواطنين أمريكيين عام 1961 في كارثة شبيهة بما وقع في 11 سبتمبر/أيلول 2001، وكانوا يخططون لإلقاء اللوم على الكوبيين. (17)
الدُعابة أن الـ CIA لم تُنشأ من أجل العمليات القذرة، ولم تكن النية أن تعمل في الخفاء، وكان الهدف من إنشائها هو إبقاء الرئيس مُطلعًا على ما يجري حول العالم، كما قال ترومان، ولم يُود أن تعمل الـ CIA كمنظمة تجسس وقال: «لم تكن هذه هي النية أبدًا من إنشائها»، لكن رؤية ترومان أُفسدت منذ البداية. (18)
- وولفغانغ كريغر، “تاريخ المخابرات من الفراعنة إلى وكالة الأمن القومي الأمريكية”، ترجمة عدنان عباس علي، عالم المعرفة، إبريل 2018، ص 336-337.
- صالح زهر الدين، “موسوعة الأمن والاستخبارات في العالم: ملف الاستخبارات الأمريكية”، المركز الثقافي اللبناني، 2003، ص 9.
- كينيون غيبسون، “أوكار الشر: دراسة حول أل بوش ووكالة المخابرات المركزية”، الدار العربية للعلوم، 2004، ص 111.
- موسوعة الأمن والاستخبارات في العالم، ملف الاستخبارات الأمريكية، مرجع سبق ذكره، ص 19.
- تاريخ المخابرات من الفراعنة إلى وكالة الأمن القومي الأميركية، مرجع سبق ذكره، ص 337.
- تيم واينر، “إرث من الرماد: تاريخ السي آي أيه”، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2010، ص 26.
- موسوعة الأمن والاستخبارات في العالم، ملف الاستخبارات الألمانية، مرجع سبق ذكره، ص 7.
- تاريخ المخابرات من الفراعنة إلى وكالة الأمن القومي الأمريكية، مرجع سبق ذكره، ص 332.
- المرجع السابق، ص 337-338.
- موسوعة الأمن والاستخبارات في العالم، ملف الاستخبارات الأمريكية، مرجع سبق ذكره، ص 53.
- المرجع السابق، ص 54.
- أوكار الشر، دراسة حول أل بوش ووكالة المخابرات المركزية، مرجع سبق ذكره، ص 116.
- موسوعة الأمن والاستخبارات في العالم، ملف الاستخبارات الأمريكية، مرجع سبق ذكره، ص 54.
- إرث من الرماد، تاريخ السي آي أيه، تيم واينر، مرجع سبق ذكره، ص 21.
- أوكار الشر، مرجع سابق، ص 113.
- موسوعة الأمن والاستخبارات في العالم، ملف الاستخبارات الأمريكية، مرجع سبق ذكره، ص 20-21.
- أوكار الشر، مرجع سبق ذكره، ص 7.
- إرث من الرماد، تاريخ السي آي أيه، تيم واينر، مرجع سبق ذكره، ص 21.