هذا التقرير جزء من مشروع «الحج إلى واشنطن» الذي أنجزه فريق ساسة بوست لتغطية أنشطة لوبيات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة بين 2010-2020. ومعظم المعلومات الواردة في التقرير تستندُ لوثائق من قاعدة بيانات تابعة لوزارة العدل الأمريكية، تتبع لقانون «تسجيل الوكلاء الأجانب (فارا)»، الذي يُلزم جماعات الضغط بالإفصاح عن أنشطتها وأموالها، وكل الوثائق متاحةٌ للتصفح على الإنترنت.

انخرطت دولة جنوب السودان في عمليات الضغط بواشنطن، بالرغم من حداثة نشأتها وعدم استقرارها، وذلك بتوقيعها على عقدٍ مع شركة «إندبندنت ديبلومات»، المتخصصة في تقديم خدماتها للجماعات الانفصالية، لكن قصة التعاون هذه لم تكتب لها نهاية سعيدة.

في هذا التقرير، نستعرض أبرز فصول الصراع في الدولة الناشئة، ونسلط الضوء على أنشطة شركة «إندبندنت ديبلومات» لصالح حكومة السودان، وكيف انتهت العلاقة بينهما.

تاريخٌ طويل من الحروب

ظل جنوب السودان مسرحًا للحروب والصراعات طوال عقودٍ طويلة، وعاش أطول حرب أهلية في تاريخ أفريقيا. في الفترة بين 1955 و1972، كان سكان الجنوب مع أولى حروبهم الأهلية، شكلت «جماعة الأنانيا» نواة أول حركة مسلحة في تاريخ الصراع مع الشمال، وذلك حين تمردت على حكومة السودان سنة 1955 مطالبةً بتكوين دولة فيدرالية بالجنوب قبل أن تطور مطالبها إلى الانفصال.

بدأت تلك الحرب بسبب توجس الجنوبيين من سيطرة الشمال بعد استقلال السودان عن بريطانيا، ونهايته بتوقيع حركة تحرير السودان والحكومة السودانية «اتفاقية أديس أبابا»، التي تمنح الجنوب حكمًا ذاتيًّا كبيرًا وحصة من الموارد الطبيعية.

وبعد 11 عامًا ألغى الرئيس السوداني جعفر النميري الاتفاقية، فاستؤنف القتال على نطاقٍ واسع، وأعلنت «الحركة الشعبية لتحرير السودان» ميلادها بقيادة تمردٍ جديد أدخل البلد في أتون الحرب الأهلية الثانية؛ وكانت الحركة الأبرز في الصراع الذي امتد في الفترة بين 1983 و2005.

وإضافةً إلى هاتين الحركتين؛ توجد عشرات الفصائل المسلحة، فوفقًا لتقديرات غير رسمية هناك 40 فصيلًا مسلحًا بجنوب السودان تتفاوت درجات تسليحه ومطالبه.

عُقد العديد من المفاوضات واتفاقيات وقف إطلاق النار بين قادة الجنوب ونظرائهم في شمال السودان، لكنها لم تسفر عن نجاحٍ يذكر. حتى جاء عام 2005؛ حين وقَّع زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، جون قرنق، الذي توفي في تحطُّم طائرة بعد أسابيع من توقيعه تلك الاتفاقية، ونائب الرئيس السوداني، علي عثمان محمد طه، اتفاقية «السلام الشامل»، التي أنهت الحرب ووضعت الخطوط العريضة للتدابير الجديدة لتقاسم السلطة، وتوزيع الثروة، والأهم من ذلك أن الاتفاقية منحت جنوب السودان وضعًا شبه مستقل، كما نصت على إجراء استفتاء على استقلال المنطقة في غضون ست سنوات.

واجه اتفاق السلام عقباتٍ مختلفة، إلا أن الطرفين نجحا أخيرًا في إجراء الاستفتاء على انفصال جنوب السودان في الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) 2011، واختار الجنوبيون الانفصال بأغلبية ساحقة، وأعلنت دولة جنوب السودان استقلالها في 9 يوليو (تموز) 2011.

لم ينهِ الاستقلال القتال في جنوب السودان، إذ اندلعت حرب أهلية ثالثة سنة 2013 – بعد الانفصال بسنتين – عندما اختلف الرئيس سيلفا كير مع نائبه رياك مشار، مما أشعل صراعًا أدى إلى نزوح حوالي 4 ملايين شخص.

وتحت ضغطٍ من واشنطن ودولٍ أخرى، وقَّع كير ومشار اتفاق سلام في أغسطس (آب) 2015، لكن الاتفاق لم ينهِ الحرب أيضًا؛ ثم وقعت الأطراف المتحاربة اتفاقية لتقاسم السلطة في أغسطس 2018 في محاولة لإنهاء الحرب الأهلية المستمرة منذ خمس سنوات.

شركة «إندبندنت ديبلومات» والتحريض على انفصال جنوب السودان

وجدت شركة «إندبندنت ديبلومات – Independent Diplomat» في صراع جنوب السودان موطئ قدم لتقديم خدماتها لحكومة جوبا وتحريضها على الانفصال عن السودان، فوقَّعت في 23 يونيو (حزيران) 2009 على عقدٍ مع بعثة حكومة جنوب السودان في الولايات المتحدة الأمريكية.

«إندبندنت ديبلومات – Independent Diplomat» هي شركة غير حكومية لا تهدف للربح، تأسست في عام 2004 من قبل الدبلوماسي البريطاني السابق كارن روس لتقديم المشورة والمساعدة في الاستراتيجية والدبلوماسية للحركات الانفصالية والتحررية والثورية، والكيانات السياسية الناشئة حديثًا، لتساعدها على تأسيس عملها الدبلوماسي وتدرب دبلوماسييها على السياسة الدولية.

عملت الشركة منذ تأسيسها سنة 2004 مع عدة حركات انفصالية وحكوماتٍ ناشئة؛ أبرزها جبهة البوليساريو التي يربطها بها تعاقد ممتد منذ سنة 2007 حتى كتابة هذا التقرير.

ودعمت الشركة البعثة الفلسطينية بالأمم المتحدة في جمع المعلومات ورصد مواقف الدول الأعضاء في القضايا التي تخص البعثة، وعملت أيضًا على حملة تواصل دبلوماسي بشأن حرب غزة في أغسطس 2014.

وقدمت خدمات ضغطٍ لفائدة مكتب الائتلاف السوري المعارض في الولايات المتحدة ابتداءً من سنة 2014، فضغطت على وزارة الخارجية الأمريكية وأعضاء الكونجرس الأمريكي، وركَّزت ضغطها على البعثة الأمريكية بالأمم المتحدة. كما تواصلت مع منظمات حقوقية وجهات إعلامية للحديث عن وضع حقوق الإنسان والمرأة في سوريا.

توفر الشركة دبلوماسيين للحكومات غير المعترف بها، وتدفع باتجاه مشاركة أكبر في المنتديات الدبلوماسية. وفي عقدها مع حكومة جنوب السودان؛ انتدبت سوزانا إيميت المدير العام للشركة، لكي تقدم خدمات دبلوماسية لفائدة جوبا.

في المقابل، وقَّع على عقد الشركة نيابةً عن حكومة جوبا برنابا ماريال بنيامين، وزير الخارجية والتعاون الدولي السابق لجنوب السودان، إضافةً إلى السفير حزقيال لول جاتكوث، الرئيس السابق لبعثة حكومة جنوب السودان للولايات المتحدة، الذي يشغل حاليًّا منصب وزير للبترول.

تحصَّلت الشركة على أكثر من مليون دولار خلال فترة التعاقد الممتدة من 2009 وحتى مطلع 2014، دفع أغلبها أطراف أجنبية، مثل الحكومة السويسرية ومنظمات إنسانية.

ماذا فعلت «إندبندنت ديبلومات» لجنوب السودان؟

من أواخر عام 2009 وحتى يناير 2014 عملت شركة «إندبندنت ديبلومات» على عدة ملفات مع حكومة جنوب السودان؛ فقد كانت الشركة مرافقًا للدولة الحديثة قبل ميلادها وفي فترة نشأتها، بل إنها كانت فاعلةً في الكثير من الأحداث التي شهدها جنوب السودان قبيل وبعد انفصاله.

ساعدت الشركة في البداية على تنظيم استفتاء تقرير المصير المُتّفق عليه في اتفاقية السلام الشامل لعام 2005، من خلال جملةٍ من الأنشطة أهمها التواصل المكثف والاجتماع مع كاميرون هدسون، مسؤول العمليات في مكتب المبعوث الخاص للسودان في وزارة الخارجية الأمريكية؛ والاجتماع أيضًا مع ثيم شورتلي، نائب المبعوث الخاص للسودان في وزارة الخارجية الأمريكية، ومع دافيد دون، سفيرة أمريكا بالوكالة لبعثة الولايات المتحدة للأمم المتحدة. إضافة إلى التواصل مع ريبيكا كينيون، السكرتيرة الأولى في بعثة الولايات المتحدة للأمم المتحدة.

إلى جانب تقديم المساعدة في صياغة رسائل تبعث إلى رؤساء بعثات الدول في الأمم المتحدة، عن انتهاكات الحكومة السودانية بقيادة عمر البشير حينها في جنوب السودان.

ودعمت الشركة جنوب السودان في مشاركتها مع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في الفترة التي سبقت الاستقلال، وساعدت في المفاوضات بشأن عضوية جنوب السودان.

بعد استقلال جنوب السودان في يوليو 2011؛ عملت الشركة مع وزارة خارجية حكومة جنوب السودان، وكذلك مع بعثات وسفارات جنوب السودان في ونيويورك وبروكسل وواشنطن وأماكن أخرى، للمساعدة في تحسين فاعلية دبلوماسية جنوب السودان.

كما نسقت سلسلة من الاجتماعات في الفترة بين مايو (أيار) وأكتوبر (تشرين الأول) 2011، وكان أبرز تلك اللقاءات مع إليزابيث كوزينز، مستشارة بعثة أمريكا الدائمة للأمم المتحدة؛ ومع روبرت جيلبير، نائب رئيس مكتب عمليات السلام والعقوبات ومكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية. واجتمعت الشركة أيضًا مع جون كيلي، مسؤول قسم الشؤون السياسية العسكرية في السفارة الأمريكية في جنوب السودان.

من أنشطة شركة إندبندنت ديبلومات لصالح جنوب السودان، تظهر في الصورة اتصالاتها مع وزارة الخارجية الأمريكية ومع الأمم المتحدة. المصدر: موقع وزارة العدل الأمريكية.

والتقت الشركة في 12 أكتوبر 2011؛ في اجتماع جماعي، مع دبلوماسيين أمريكيين في أفريقيا؛ وعقدت اجتماعًا مع لاري أندري، مسؤول مكتب المبعوث الخاص للسودان في وزارة الخارجية، وبارث ستوكس، قائد فريق جنوب السودان في مكتب المبعوث الخاص للسودان.

وفي الفترة بين نوفمبر وديسمبر 2011، نسقت الشركة اجتماعًا جماعيًّا مع السفير جيفري ديلورينتيس، الممثل البديل للشؤون السياسية في بعثة الولايات المتحدة للأمم المتحدة، والمستشار في بعثة أمريكا للأمم المتحدة ستيفان جيي. إضافةً إلى الدبلوماسي الأمريكي جيم دونيجان، ثاني أرفع شخصية في البعثة الدبلوماسية الأمريكية لجنوب السودان. واجتمعت الشركة أيضًا مع جريجوي بولوك؛ وهو مدير عام مجموعة «بولوك»، ومستشار في إدارة الثروات، ويشغل منصب رئيس إقليمي في مكتب الشؤون الأفريقية بمكتب وزير الدفاع الأمريكي

وفي الفترة بين يونيو 2012 حتى فبراير (شباط) 2013؛ خفضت الشركة أنشطتها لفائدة حكومة جنوب السودان فلم تعقد طيلة تلك الفترة سوى اجتماعين؛ أهمهما اجتماع مع أندري بورنت؛ من مكتب المبعوث الخاص للسودان في وزارة الخارجية الأمريكية.

عاد نشاط الشركة بقوة في شهر أكتوبر 2013؛ بالموازاة مع اندلاع عمليات العنف بجنوب السودان، فنظمت اجتماعات مع كل من ريك بارتون، مساعد وزير الخارجية في شؤون عمليات استقرار الصراعات، وليني سكايد، التي تعمل في مكتب شؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمال في وزارة الخارجية الأمريكية، ودونالد بوث، المبعوث الأمريكي الخاص للسودان وجنوب السودان.

والتقت الشركة آليسون لومباردو، مسؤولة الشؤون الأفريقية في مجلس الأمن القومي الأمريكي، وباولا شيرفير، من مكتب شؤون المنظمات الدولية في وزارة الخارجية الأمريكية.

تقول إندبندنت ديبلومات على موقعها الإلكتروني إنه في الأيام التي أعقبت اندلاع أعمال العنف في جنوب السودان في ديسمبر 2013، أصبحت الشركة قلقة بشأن مزاعم خطيرة من مجموعة متنوعة من المصادر الموثوقة فيما يتعلق بتنفيذ عمليات القتل خارج القانون. لذلك قررت الشركة تعليق عملها مع حكومة جنوب السودان في 13 يناير 2014؛ وذلك بعد أن تقاضت مبلغ مليون و18 ألف دولار، نظير خدماتها لفائدة حكومة جوبا، دفعتها الحكومة السويسرية ومنظمات إنسانية.

هذا التقرير جزءٌ من مشروع «الحج إلى واشنطن»، لقراءة المزيد عن «لوبيات» الشرق الأوسط اضغط هنا.