لو عُرضت علي الحياة مرة أخرى لرفضتها، لكن لو كان علي أن أوُلد من جديد، لاخترت حياتي.
علي عزت بيجوفيتش

على مدار 7 حلقات من الوثائقي «سيرة علي»، أبحر المخرج والكاتب الوثائقي «أسعد طه» في حياة الفيلسوف المحارب والذي شغل منصب رئيس جمهورية البوسنة والهرسك لعشر سنوات، خاض خلالها معترك الاستقلال عن يوغسلافيا وبناء الدولة، والدخول في معترك الحرب والخروج منها بالكثير من الأثمان وبشعب مثقل بالآلام وبتاريخ سجلته صفحات التاريخ ولن تنساه ربما في المستقبل القريب.

بلغراد.. حيث عاشت عائلة علي لكن الاجتياح الصربي وفرض السيطرة والذي نتج عنه طرد المسلمين العثمانيين والذين كان لهم الفضل على مدار قرون في تأسيس حضارة كبرى في بلغراد جعلت المدينة عامرة مزدهرة كمدن الشام، وكانت عائلة علي من بين الخارجين إلى مدينة ساماتش في البوسنة، ومن هناك بدأت القصة في نسج خيوطها.

شاهد حلقات الفيلم الوثائقي «سيرة علي عزت بيجوفيتش»

https://www.youtube.com/watch?v=EVSnRsWvg6w&list=PLmrET10kAE95uMxwuFZHkPTXmIkUBZz9n&index=1
وثائقي سيرة علي

نبوغ مبكر

بدايات النبوغ المتفرد كانت بادية على بيجوفيتش منذ الصغر، ففي سن الخامسة والنصف، نجح في قراءة القرآن الكريم كله وتعلم التلاوة وقد حصل جراء ذلك النبوغ المبكر على جائزة من والده وهو أحد أصدقائه بأن يصنع له كرسياً جميلاً ليجلس عليه ويقوم بالدراسة والقراءة والتعلم، وقد ظل ذلك الكرسي رفيقه في رحلة تعلمه طوال سنوات بقائه في منزل والده، ثم ساهمت والدته بالخطوة التالية بعد نهاية تعلمه في الكُتاب، فسجلته في المدرسة الابتدائية.

بالنظر إلى طفولة ذلك الفيلسوف النابغة، فقد كانت والدته هي أحد أهم المحركات في حياته، فإيقاظه كل يوم من أجل صلاة الفجر والإلحاح عليه ليهزم ذلك التكاسل الذي يمكن أن يصيب الفتى ابن الثانية عشرة، وقد كانت صلاة الفجر دائماً في المسجد المجاور لهم في الحي، والذي حمل اسم “حجسيكا”.

من الصعب التفكير في ذلك، لكن الفتى ذو الخامسة عشرة من عمره كان قادراً على القراءة والبحث والتدقيق للعثور على الإجابات التي يمكن أن تصيب من في مثل تلك السن من شكوك وأفكار متنازعة تجاه الإسلام والعقيدة، فكان ذلك الشك دافعاً لابن الخامسة عشرة أن يقرأ في الماركسية والشيوعية وعرف أنهم لم يكونوا أبداً بديلاً يمكن أن يشكل حياة المسلم بصورة قويمة، قرأ ما كتبه هيغل وكانط وغيرهما من الآراء ثم قرر في النهاية أن اليقين العقائدي كما وجده في النهاية هو صحيح الإسلام بعيداً عن الاختزال والسطحية وافتقاد الجوهر والمضمون.

كان الصراع العقائدي والإيديولوجي الذي واجهه الشباب المسلمون في تلك الحقبة من أصعب ما يكون، فالرغبات الاستعمارية لدى كرواتيا وصربيا تحيط بأراضي البوسنة من كل اتجاه، وتحوم طوال الوقت برغبتها في السيطرة على أراضي البوسنة والتوسع، وعلى الجانب الآخر، فقد كانت الحرب العالمية الثانية في ذروتها، وكانت الفاشية والنازية هما المذهبان الأكثر فرضاً للقوة والانتشار حول العالم، وفي الوقت نفسه كان الإيمان الذي يقدمه مشايخ المسلمون في ذلك الوقت هشاً وسطحياً لا يحمي المنتسبين إليه من المواجهات الحقيقة مع العقائد والأفكار المناوئة، فكان قرار علي ورفاقه التعاون مع علماء جمعية الهداية والتي كان يرأسها في ذلك الوقت الشيخ محمد هانجيتش، ليكونوا جميعاً جمعية الشبان المسلمين في عام 1941 وقد سعوا حينها إلى تقنينها بكل الطرق المحددة في تلك الفترة لكن الغزو الألماني أوقف كل ذلك.

عام 1941 حاول على ورفاقه تأسيس جمعية الشبان المسلمين وكان من أبرز المؤسسين سعد كاراجوزوفيتش وطارق مفتيتش وعساف سرداريفيتش، لكن الغزو الألماني للإمبراطورية اليوغسلافية منع عملية تسجيل الجمعية بعد كل المجهود الذي بذله الشباب حينها لتسجيل الجمعية بشكل قانوني ضمن القواعد القانونية المعمول بها لإنشاء الجمعيات.

في عام 1943 اختتم على دراسته الثانوية وتهرب حينها من الانضمام للجيش، فالقوات الموجودة حينها إما مجموعات تشيتنك التي تقاتل تحت لواء يوغسلافيا الصربية، أو قوات البارتيزان التي تقاتل تحت لواء يوغسلافيا الاشتراكية.

قل نشاط علي كثيراً خلال الفترة التالية ما بين نهاية عام 1943 و1944 بسبب خلافه مع أئمة منظمة الهداية بسبب منهجيتهم وبحلول نهاية الحرب انتصرت يوغسلافيا الاشتراكية وسعت السلطات المنتصرة إلى جمع الشباب تحت منظمة تحكمهم وتضعهم تحت أعين الدولة، فطالبوا الشباب بتأسيس جمعية “بريبورود” لكن الشبان المسلمين والذين كانت جمعيتهم قد حققت انتشاراً واسعاً بالفعل في كل مدن البوسنة في جميع المدراس والجامعات وكذلك في زغرب الكرواتية فتظاهر حينها الشبان المسلمون رافضين قرار الحكومة الجديد، فكان ذلك أول بذرة للصدام بين جمعية الشبان المسلمين التي لم يصطدم أفرادها إطلاقاً مع السلطة من قبل، وسقط على وبعض من رفاقه في يد الاعتقال وخرجوا في اليوم التالي لكن بقوا تحت مراقبة السلطة، لكن عناد وتهور علي ورفاقه حينها واستمرارهم في نشاطهم عرضهم للاعتقال، وكانت تلك بداية رحلة علي مع السجن، فقد حكم عليه بالسجن 3 سنوات، وهو في العشرين من عمره عام 1946.

بداية المعترك

3 سنوات قضاها علي في السجن، قًسمت بين عدة مناطق أولها، سجن ستولاتس حيث قضى 7 أشهر، ثم أرسل للقيام بأعمال إنشاء ومعمار لبناء مركز الشرطة السرية بالقرب من بحيرة بوراتشكو، ثم إنشاء المركز الخاصة بالرابطة الشيوعية في سراييفو ثم في السنة الأخيرة أرسل إلى معسكر بالقرب من الحدود المجرية في إحدى المزارع هناك.

عام 1946 وفي ظل اشتداد الصراع بين سلطة تيتو وكل معارضيه، تعرض بيجوفيتش للسجن مرة أخرى، وعلى الرغم من أن الأمر كان كارثياً بالنسبة له وللعائلة وقضى 3 سنوات في السجن، لكن في تلك الفترة نفذت الحكومة العديد من أحكام الإعدام من بينهم حسن بيبر الصديق المقرب لعزت بيجوفيتش والذي تعرض للكثير من الضغوط والتعذيب لقول إن بيجوفيتش عاد للمنظمة بعد الخروج من السجن أول مرة، لكنه رفض، وهنا كان السجن كما وصفه علي إنقاذاً له من الإعدام.

وبخروجه عام 1949 بدأ بيجوفيتش مرحلة جديدة من حياته فحصل على وظيفة بشهادة الثانوية والتحق بكلية الزراعة والتي تركها فيما بعد ليلتحق بكلية الحقوق، وتزوج الفتاة التي ظل يحبها طوال سنوات، منذ أن كان في الثانوية، وقد كان الحب يجمع بينهم بشدة منذ سنوات، وكانوا يتبادلون الرسائل خلال فترة السجن، كما كانوا يلتقون دائماً قبل فترة سجنه الأولى.

قرر بعدها الرحيل للجبل الأسود للابتعاد عن المشاكل المستمرة التي تواجهه في سراييفو، وعمل هناك في أعمال المقاولات والإنشاء، وأنجب ابنتيه ليلى وسابينا، ثم جاء ابنه الثالث بكر.

كان بيجوفيتش متسامحاً للغاية مع أفراد أسرته بل ومع كل من يتعامل معهم، كان دائم الميل إلى التغافل عن الأمور السيئة والتجاوز عنها، لكنه كان بطبعه شخصاً حزيناً كما وصفه أبناؤه، وذلك بسبب تجربة السجن، وقد روى أبناؤه كيف كان دائم الحديث معهم عن الفلسفة والدين والأمور الحياتية والعلوم المختلفة وكان دائم القرب منهم.

واستمر في الجبل الأسود لسنوات حتى قرر العودة إلى سراييفو بعد أن استقرت الأمور قليلاً، وكان قد حصل على شهادة الحقوق، وبعودته إلى سراييفو عمل كمستشار قانوني وحصل على شقة سكنية في حي جيد، وبدأ بكتابة العديد من المقالات الفلسفية التي تخص صحوة الإسلام ونشره تحت اسم مستعار، حيث كان يكتب الأحرف الأولى من أسماء أبنائه الثلاثة ليلى وسابينا وبكر.

وقد ظهرت أجواء الحرية بشكل ملحوظ في السبعينيات فيما يتعلق بالكتابة والحركة بصورة نسبية، حتى جاء عام 1979 وقرر تيتو إنهاء تلك الحقبة بإعلان تحالفه مع اثنين من القيادات الشيوعية البوسنية وقد خرج بعدها بيان من تيتو يعلن فيه عودة القبضة الحديدية من جديد وإنهاء كل المحاولات المرتبطة بإحياء القومية الإسلامية في البوسنة والهرسك.

1983 كانت بداية جديدة لمعاناة علي عزت بيجوفيتش تجلت في الاعتقال والمحاكمة وذلك بعد سنوات طوال قاربت العشر سنوات من الهدوء النسبي والبعد التام عن الصدام مع نظام الحكم آنذاك.

صبيحة 23 مارس/آذار، فوجئ علي برجال من الأمن اليوغسلافي يدخلون منزله ويفتشونه بالكامل، ثم اقتادوا بعدها علي إلى مقر الأمن القومي والذي يحوي بداخله سجناً أيضاً بجانب كونه جهة تحقيق، لكن علي فوجئ أنه على الرغم من كونه المتهم الأول في القضية والمحور الرئيسي لها، فإن الكثيرين ممن كان يعرفهم أو على صلة بهم، قد وقعوا في القضية معه، وقد كانت القضية على كثرة المتهمين فيها هشة وسطحية، فالاتهامات تدور في فلك محاولات علي ورفاقه إعادة المسلمين الحاليين إلى عقيدتهم الحقيقية، وتسمية المتهمين أبناءهم بأسماء مسلمة، والدوافع التي دفعتهم لذلك، والعديد من الاتهامات المشابهة، والتي لم ترق للجنحة، فكانت كلها اتهامات اعتبارية في المقام الأول.

كان كتيب «الإعلان الإسلامي» الذي كتبه بيجوفيتش واحداً من تلك الأمور التي جعلت المحاكمة منطقية بالنسبة للسلطات اليوغسلافية، فالكتيب المكون من 40 صفحة يدور حول أهمية أن يلتف المسلمون حول دينهم من جديد كونه السبيل الوحيد لتقدمهم ووصولهم إلى درجة كافية من الحضارة والعلم، وكذلك طالب فيه بالإنفاق على التعليم وزيادة حقوق المرأة وحماية حقوق الأقليات، ولم يتحدث البيان عن أي أمر يخص غير المسلمين فيما يتعلق بإدخالهم في الإسلام أو فرض هوية معينة عليهم، وإنما دار الكتاب أو البيان بأكمله حول ما سماه رفاق بيجوفيتش «أسلمة المسلمين».

103 أيام بالمخالفة لقانون الاحتجاز اليوغسلافي من الاحتجاز وجد بيجوفيتش ورفاقه أنفسهم أمام محكمة وصفها الصحفيون وقتها وقد كان من بينهم كروات وصرب أنها محاكمة عدائية لم تشهد أي شكل من أشكال الحيادية أو الصدق، كما أنها حملت معنى رمزياً فيه الكثير من العداء بجانب الاتهامات غير المنطقية، وهو بداية المحاكمة في الثلث الأخير من شهر رمضان مبارك، وبالتوازي مع أيام لها معناه وقدسيتها عند الخاضعين للمحاكمة، لذا فقد كان واضحاً للجميع منذ البداية أن المحاكمة تتجه إلى نقطة محددة مسبقاً، تبعاً للبيان الذي سبق وأصدره تيتو ومات بعده بعام واحد، لكنه ظل حياً يحرك الأمور بعد وفاته.

بعد محاكمة استمرت لأكثر من 30 يوماً، وبحضور مكثف من موظفي هيئة الأمن القومي لأغراض التصفيق والتحية لكل القرارات والمرافعات والأحكام التي تصدرها المحكمة أصدرت المحكمة قرارها بسجن علي عزت بيجوفيتش 14 عاماً، وبالحكم على رفاقه بأحكام تراوحت بين 6 أشهر و15 عاماً، وقد اقتيد علي إلى سجن مقاطعة فوتشا، والتي بمتابعة تاريخ الحرب في السنوات التالية والمجازر التي شهدتها، كانت مقاطعة فوتشا علي من أكثر المقاطعات التي شهدت مجازر جماعية بل وجرائم اغتصاب جماعي بالعشرات، لذلك لم يكن بيجوفيتش وهو يدخل زنزانته في نوفمبر 1983 يدري أن سجنه ما هو إلا مقدمة للكثير من الكوارث التي ستشهدها مدن البوسنة.

وقد وُزعت المجموعة على عنابر مختلفة في السجن، وكان من نصيب علي زنزانة القتلة والتي يدخلها من ارتكب جريمة قتل مرة فأكثر، لكن سنوات السجن الأولى كانت مبعثاً لأولى لإضاءات بعيدة المدى التي قدمها بيجوفيتش، حيث خرجت مسودة لكتاب كان قد عمل عليه وأخفته أخته عام 1946 في فترة سجنه، فأكملها علي بسرية وأرسلت إلى ناشر أمريكي بعد ما مرت برحلتها إلى كندا، لتخرج النسخة الأولى من كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” عام 1984.

في طريق العودة والحرب

في أحد شوارع العاصمة وبينما الحرب في ذروتها قابلته امرأة وسألته؟ هل أنت الرئيس؟ أجابها بنعم.. فقالت ألا تشعر بالخوف من وجودك هنا؟ فقال إنني أرتعد خوفاً، لكنني الرئيس يجب علي أن أكون بينكم طوال الوقت وألا أظهر خوفي.

في فترات السجن التالية، بدأ علي يسجل ملاحظاته وأفكاره عن فترة وجوده في السجن، وقد كانت كما وصفها في الكتاب نفسه، مجرد خواطر للتنفيس عما يعتمل في القلب والفكر، وقد سٌجلت في السجن بخط غير مقروء، لكنها هُربت في صندوق شطرنج من السجن، ونشرت فيما بعد عام 1999 في كتاب حمل عنوان «هروبي إلى الحرية».

كان بيجوفيتش تواقاً للحرية، فكان السجن بالنسبة له سبباً في الاكتئاب والحزن والألم.. ففراقه عن حفيداته أسماء وسلمى كان مؤلماً له، مما دفعه لأن تكون الرسائل بينهم مستمرة طوال الوقت دون توقف، وعلى الرغم من ذلك كله امتنع تماماً عن تقديم أي طلب بالعفو، على الرغم من أنه تلقى عروضاً بالعفو مقابل تقديم اعتذار عن كل ما يؤمن من مبادئ وأفكار وأن يبدي الندم على ذلك، لكنه رفض ذلك مراراً وتكراراً، لكنه في الوقت نفسه كان قدم طعناً على الأحكام الصادرة ضده فسقط الحكم المتعلق بانتمائه لجماعة أصولية، وهنا خُفف الحكم من 14 عاماً إلى 6 أعوام فقط، وكان من حسن أقدار الله أن تدخل الشيوعية في تدهور وسقوط مروع وكان من نتاج ذلك إلغاء تهمة الإهانة اللفظية للدولة، مما يعني سقوط السنوات الست المتبقية من الحكم، فقررت السلطات بعد مضي 5 سنوات و8 أشهر على بقائه بالسجن أن تعلن أنها تعفو عن بيجوفيتش -رغم انقضاء المدة فعلياً- في اليوم الوطني للبوسنة والهرسك.

25 نوفمبر/تشرين الثاني 1988، خرج بيجوفيتش من محبسه ليتسنشق نسيم الحرية من جديد، ويحصل على استراحة محارب لمدة عام، قرر بعدها تأسيس حزب للمسلمين في البوسنة، فأنشأ حزب العمل الديمقراطي في 26 مايو 1990 حيث انعقدت الجمعية التأسيسية للحزب في قاعة فندق هوليداي إن والتي امتلأت عن آخرها من كل بقعة من يوغسلافيا، وقد كان ذلك أول علامات التحدي والعصيان في مواجهة النظام في يوغسلافيا.

وبعدها بقليل جرت أول انتخابات حرة نتج عنها وبحسب الدستور تكوين مجلس رئاسة من 7 أعضاء 2 من الصرب و2 من الكروات و2 من البوشناق المسلمين و1 عن الأقليات، ويختار المجلس رئيساً للجمهورية وقد كان الاختيار هو بيجوفيتش.

14 أكتوبر/تشرين الأول 1991، كانت بداية الصراع الصامت بين الصرب الذين أصبحوا المتحكم الفعلي في الجيش اليوغسلافي بعد رحيل تيتو، وبين البوسنة التي تشق طريقها للتحرر والاستقلال، حيث تحدث رادوفان كارادجيتش زعيم الصرب البوسنيين عن خطورة محاولات البوسنة العمل على تحقيق الاستقلال عن يوغسلافيا وكانت كلمته تحمل رسائل تهديد مبطنة بأن مصير البوسنة هو الإبادة على غرار ما حدث في كرواتيا وغيرها عند محاولات الاستقلال، لكن رد بيجوفيتش والذي كان في نفس الجلسة حاسماً وقاطعاً بأن البوسنة لم تعد ترغب في البقاء تحت لواء الحكم اليوغسلافي، ومن هنا بدأ عود الثقاب في الاشتعال.

وفي فبراير/شباط من عام 1992 شارك شعب البوسنة في استفتاء الاستقلال وقد وافق البوسنيون بالأغلبية على الاستقلال عن يوغسلافيا.

بدأت الحرب بعدها بقليل رغم كل مشاريع الإصلاح السياسي التي قدمها بيجوفيتش والتي كان من بينها إقامة اتحاد كونفدرالي يعطي كل دولة استقلاليتها السياسية دون الدخول في الحرب، لكن ميشلوفيتش رئيس الصرب كان يحلم بصربيا الكبرى، لذا لم يقنع بأي من هذا وقد زاد من المأساة أن بيجوفيتش لم يكن يلقى أي دعم دولي أو داخلي، فكان المسلمون في البوسنة وحدهم من يدعمون تحركاته، أما بقية الأطراف، كانت لهم قراراتهم وميولهم الخاصة، وقد شاهد المسلمون ذلك مذ بدأت المذابح فقد تفاجئ المسلمون بأن الصرب والكروات من جيرانهم قد هاجموهم كأنهم أعداء منذ زمن طويل.

في كل منزل حاول بيجوفيتش الإقامة فيه كان يتعرض للقصف والمهاجمة لذا كان دائم لتغيير مكان إقامته، وفي الوقت نفسه كان دائم المرور في كل المدن البوسنية وسط الناس يطمئنهم.

في وسط الحرب وبين المذابح وعمليات القتل الجماعي والاغتصاب مستمرة في سراييفو وسربرنيتشا لم ييأس بيجوفيتش من التحرك لدعم المقاتلين على كافة الجبهات حتى خرج ذات نهار في مؤتمر صحافي يتحدث أمام الجميع عن التواصل الذي حدث بينه وبين ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية وقد نصحه بأن يحصل على القدر القليل من دولة البوسنة حتى لو كانت مقداراً صغيراً من الأرض مقابل التخلي عن الرقعة الكبرى للصرب، حتى لا يكرر خطأ ياسر عرفات -كما وصفه- بأنه بقي طوال تلك السنوات دون أن يحصل على دولة معترف بها.

ثم وفي مساء اليوم نفسه، خرج بيجوفيتش في مؤتمر آخر متحدثاً عن الاتصالات والمكالمات التي تهافتت عليه من كافة أنحاء المواقع القتالية في البوسنة من الجنود والقادة يرفضون الاستسلام، ويعلنون أنهم سيكملون  القتال بما تبقى لهم من مؤن وسلاح، وبالفعل وفي الفترات التالية بدأت العمليات القتالية من طرف مقاتلي البوسنة تزداد حدتها بقوة مما دفع بمعسكر الصرب للتراجع قليلاً ومن هنا بدأت المبادرات تُطرح لإيقاف النزيف المستمر، حتى وقُعت معاهدة دايتون في الولايات المتحدة وحصلت البوسنة على استقلالها العسكري، ولم يمض الكثير حتى وقع قادة الجرائم العسكرية الصرب كمتهمين أمام محكمة العدل الدولية كمجرمي حرب.

في طريق الرحيل

12 أكتوبر/تشرين الأول، وبعد مرور 10 سنوات في حكم البوسنة تحت قيادة عزت بيجوفيتش، خرج ببيان على جمهور المواطنين يخبرهم بأنه سيترك منصبه بعد نهاية الفترة الحالية، ولن يستمر في الحكم مجدداً وقد ترك مبنى الرئاسة بالفعل في 15 أكتوبر/تشرين الأول.

وصل بيجوفيتش إلى الخامسة والسبعين من عمره وبدأ الإنهاك يظهر عليه، حتى جاء ذلك اليوم الذي استيقظ فيه ولم يسعفه بصره للرؤية جيداً، فسقط على السلم وتكسرت أضلاعه وأصيبت الرئة، وبقي في المشفى 40 يوماً تقريباً، تحدث فيها مع أصحابه عن شعوره بالرغبة في الرحيل، وتفكيره في أن البقاء في الحياة لم يعد أمراً يشغل تفكيره، وقد كان بنوه وأزواجهم يحيطون به في أيامه الأخيرة في مرقده في المشفى، وقد كانت زوجة ابنه باكر آخر من كانت بجواره وهو يغمض عينيه لآخر مرة، قبل أن يُوارى الثرى في مقابر الشهداء كما تمنى، في جنازة شهدت خروج كافة سكان البوسنة بكافة مدنها وأقاليمها مرسلين إليه الوداع الأخير، باكين رحيل الرجل الذي غير تاريخهم للأبد.