مارس/آذار الماضي أحيت النخب المصرية الذكرى المئوية لثورة 1919، وضجت المدونات والجرائد الإلكترونية المعارضة للحكومة بالحديث عن الثورة وظروفها ونشأة الوطنية المصرية، وهو احتفاءٌ مُتفهم لسببين؛ أولًا، لأهمية الحدث واعتباره من قبل البعض بداية تشكل الجماعة الوطنية المصرية، وثانيًا، لأن ذكرى الحادث صادفت انغلاقًا مطبقًا في المجال السياسي المصري وارتدادًا حتى عن بعض المطالب التي نادى بها المصريون قبل مائة عام!

في هذه السطور نتحدث بشيء من التفصيل عن نشأة الوطنية المصرية والمعضلة المصرية (الاستقلال والديمقراطية)، في ثنايا حكاية نسردها عن الثورات الخمسة الأشهر في تاريخ المصريين الحديث.


أحمد عرابي وبداية تشكل الوطنية المصرية

انعزلت مصر عن الدولة العثمانية بموجب معاهدة لندن 1840، ومنذ ذلك الحين والأطماع الأوروبية على مصر في ازدياد، ومصر إذ ذاك مجردة من قوة الجيش الحامي ومن قوة الجماعة السياسية الأشمل، والأوروبيون يعملون على تقوية العلاقات مع الفئة الحاكمة.

صحيح أن مصر حينها لم تكن محتلة عسكريًا، فلم يكن بها حامية عثمانية ولم يكن الاحتلال البريطاني قد تحقق، فقط كان الوجود الأجنبي وجودًا مدنيًا، كما يقول المستشار طارق البشري في مقدمة كتابه «الديمقراطية ونظام 23 يوليو». تزايد هذا النفوذ تدريجيًا حتى سيطر الأوروبيون من خلال الديون على مالية الدولة بواسطة لجنة المراقبة، ثم بتعيين وزيرين، أحدهما إنجليزي للمالية والثاني فرنسي للأشغال، وكان نظام الحكم في البلاد في تلك المرحلة يتيح للخديو سلطات واسعة وحكمًا فرديًا، ومن خلال هذا الحكم الفردي توغل النفوذ الأجنبي في البلاد التي غرقت في الديون حتى صار أمرها بيد الدائن الأوروبي.[1]

وكشاهدٍ على الحال الذي وصل إليه حكم البلاد، لما حاول الخديو إسماعيل المناورة مع النفوذ الأوروبي، تمكن الإنجليز والفرنسيون من خلعه، وجاء ابنه توفيق من بعده، وقد وعى الدرس.

في هذا الوضع كان شعار «مصر للمصريين» الذي رفعه عرابي ورفاقه من الضباط المصريين شعارًا وطنيًا بامتياز، عبر عن وعي الجماعة الثورية بالخطر الذي يتهدد البلاد من تزايد النفوذ الخارجي ورسوخ الاستبداد السياسي، فكانت مطالب العرابيين في مقاومة النفوذ الخارجي وإقرار حياة نيابية تُعيد للشعب جزءًا من فردوسه المفقود.

وُئدت مساعي عرابي ورفاقه بالاحتلال الانجليزي لمصر سنة 1882، الاحتلال الذي كان هدفه الأساسي ترسيخ التدخل الخارجي واستبداد الخديو بالسلطة.

قبل محاولة العرابيين، كانت النبتة الأولى للوطنية المصرية قد نتجت عن حركة المصريين عند مقاومة الاحتلال الفرنسي، وخروج الفرنسيين من مصر 1801، وما أسفر عن ذلك من تعديل في صيغة الحكم، من كونه مشاركةً بين السلطة العثمانية متمثلةً في الوالي المُعين من الأستانة، وبين النفوذ المحلي للماليك في مصر. تعدلت صيغة الحكم إلى صيغة جديدة حلت فيها النخبة المصرية -التي قاومت الغزو الفرنسي وشاركت في طرده- محل النخبة المملوكية، وحل عمر مكرم السيوطي (العالم الأزهري) وصحبه محل المماليك.[2]

فيما بعد الشيخ عمر مكرم بحث عن سبيل للتخلص من التبعية العثمانية، فتحالف مع القائد الألباني محمد علي، لكن ما إن استتب الأمر للأخير حتى تخلص من النخب المصرية وتفرّد بالحكم المطلق. كان المطلب الأساسي للمصريين في هاتين الثورتين التخلص من الوصاية الأجنبية، سواءٌ العثمانية أو الأوروبية، وكان ثمة وعي لدى النخب المصرية بضرورة أن يشارك المصريون في الحكم وأن تكون لهم شوكة وقوة، لذلك كانت مطالب عرابي تتمحور حول الجيش، تعداده وعتاده.


الاستقلال التام أو الموت الزؤام

إن كانت حياتي قصيرة فإن حياة الأمة طويلة، يجب على الآباء أن يلقنوا هذه المبادئ وهذه الحقائق لأبنائهم
سعد زغلول الأسكندرية 1924

من غير الممكن أن نعامل التاريخ كفصول منفصلة، الأصل أن المجتمعات والدول كما الإنسان يعيد إنتاج نفسه في سياق متصل، وفق تطورات الظروف والأحداث.

ضمنت الدول الموقعة على معاهدة لندن 1840 استقلال مصر عن الباب العالي في الأستانة، فلما تحرك الجيش الإنجليزي لوأد الثورة العرابية، والاصطفاف إلى جانب الخديو توفيق عام 1882، لم تشأ المملكة العظمى إثارة الدول الضامنة بهذا الخرق، فصدّرت للعالم شرعية مزيفة استندت إلى طلب الخديو (صاحب الشرعية القانونية) للنجدة الإنجليزية، ويبقى وجودهم في مصر متشحًا بهذه الكيفية.

وكدليل على ذلك لم يكن الجيش الإنجليزي الموجود في مصر يؤدي عملًا إلا بأمر الخديو، ولم يكن وضع المعتمد البريطاني يختلف عن وضع غيره من القناصل الأجانب في مصر، لا يعبر عن إرادته السياسية إلا من خلال قرارات الحكومة المصرية، التي كان يسعى دائمًا لاسترضائها، وخلال السنوات الأولى للاحتلال البريطاني تمكن المحتل شيئًا فشيئًا من التغلغل إلى رؤوس الإدارات الحكومية، وكان على رأس كل وزارة أو إدارة حكومية خبيرًا بريطانيًا، وهي الفترة التي عرفت ما سُمي تاريخيًا «النصائح الملزمة»، إذ كانت نصائح الخبراء البريطانيين واجبة النفاذ لكن بقرار مصري، كما يذكر المستشار البشري في كتابه «سعد يفاوض الاستعمار».[3]

هذه التقدمة نؤكد من خلالها أن الجهاز الإداري للدولة كان مصريًا بامتياز، ولم يكن البريطانيون إلا على رؤوس الإدارات، مهمتهم التوجيه والمحاسبة، أشبه ما يكون بالحكم الخفي، الأمر الذي تغير كليةً فور اشتعال الحرب العالمية الأولى 1914، وأعلنت بريطانيا الحماية على مصر، ونفت عنها التبعية (التي كانت اسميةً فقط) للدولة العثمانية، وخُلع الخديو عباس حلمي الثاني. استبدله الإنجليز بالسلطان حسين كامل. صاحَبَ ذلك إعلان الأحكام العرفية وتعيين حاكم عسكري بريطاني له صلاحيات مطلقة.

يذكر المؤرخ المصري عبدالرحمن الرافعي، أن الانقلاب الذي حدث من جانب بريطانيا في 1914، برغم أنه قوبل بكثير من الأسى والحزن في نفوس المصريين فإنه لم يثر إلا احتجاجات يسيرة، مرجعًا ذلك للأحكام العرفية التي أُعلنت -وكانت أول أحكام عرفية تعرفها مصر في عصرها الحديث- وزيادة أعداد الجند في البلاد. تركزت احتجاجات المصريين في تلك الفترة على بعض الحوادث الفردية، كمحاولة اغتيال السلطان حسين مرة في القاهرة (في شارع عابدين أبريل 1915) بطلق ناري أخطأه، ومرة ثانية في الإسكندرية (في شارع رأس التين يوليو 1915) بقنبلة أُلقيت من أحد المنازل على موكبه، لكنها لم تنفجر. كان المصريون ساخطين على السلطان الذي رضي بالحكم في ظل الانقلاب البريطاني، لكن لم تكن جماعةً وطنية تشكلت بعد للتعبير عنهم ورسم مسار لهم ليتحركوا من خلاله.[4]

في هذه الظروف واجه المصريون أقوى دول الأرض – على حد تعبير سعد زغلول- واجهوا بريطانيا التي خرجت لتوها منتصرة من حرب عالمية ضروس، وكان صنيعهم هذا أقوى ممارسة للحرية عرفوها في تاريخهم الحديث. ويكفي أنهم قاموا على قلب رجلٍ واحد ضد الاحتلال والحكم الفردي المطلق معًا، واستوى لهم تنظيمهم بنشأة الوفد المصري.

أنتجت الثورة معادلة جديدة للحكم، بتصريح 28 فبراير 1922، الذي أنهى الحماية البريطانية على مصر، ثم تُوجت المساعي بدستور سنة 1923 الذي رسم مسارًا سياسيًا استمر لنحو ثلاثين عامًا بعد الثورة.

الخلاصة، أن مطالب المصريين تبلورت في المحطات الثلاثة، محطة عمر مكرم، ومحطة عرابي، ومحطة سعد زغلول، حول الاستقلال والديقراطية، إيمانًا من الجماعة الوطنية في ذلك الوقت بأن الاستبداد السياسي هو أول طريق المستعمر إلى البلاد. وجدير بالذكر أيضًا أن الجماعة الوطنية تطورت في المحطات الثلاثة؛ كانت في الأولى تتألف من مجموعة صغيرة من التجار وعلماء الأزهر، ثم تَمثّلها مجموعة من الضباط (عرابي ورفاقه) وأخيرًا صارت مدنية (الوفد).


المعضلة المصرية

جاءت حركة الجيش المصري في 1952 لاستبدال النظام الملكي بآخر جمهوري، ولإخراج الإنجليز من مصر بقواتهم العسكرية ونفوذهم السياسي، ولتتبع مصر سياسة خارجية مستقلة عن الدول الاستعمارية، مع حاجتها لبناء الاقتصاد الداخلي. لكن كما يقول المستشار البشري، أنكرت ثورة 52 تمامًا المطلب الديمقراطي، واكتفت عنه بمطلب الاستقلال، فأنتجت حكمًا استبداديًا، وكان نتاج هذا الاستبداد أن تلاشت كل سياسيات الوطنية بمجرد وفاة قائد الثورة!

بقي الاستبداد، وتعددت السياسات، بين الانفتاح الساداتي واللبرلة الاقتصادية المباركية، حتى كانت ثورة 25 يناير 2011. ركزت ثورة يناير على الديمقراطية كمطلب أساسي، وعرّضت بالاستقلال من التبعية للغرب. كانت النخب المصرية مدركة لحقيقة أن الاستبداد العربي مدعوم من الدولة الغربية لقمع الشعوب وتقييد حريتها وكبتها، لكن الثورتين الأخيرتين خاض الشعب فيها صراعًا فيما نسميه (المعضلة المصرية)، الصراع حول الديمقراطية والاستقلال، بعدما فرّقت بينهم ثورة الجيش في يوليو.

حاولت ثورة يناير استعادة مطالب النخب المصرية في الزمن الفائت، تلك النخب التي أدركت حقيقة المعضلة المصرية، وهي معضلة جُل الدول حديثة العهد بالاستعمار، فهي على الدوام بين مطرقة الاستعمار وسندان الاستبداد.

المراجع
  1. الديمقراطية ونظام 23 يوليو، طارق البشري، دار الشروق
  2. يوميات لورد ميلنر في مصر، مقدمة طارق البشري، دار الشروف
  3. سعد يفاوض الاستعمار، طارق البشري، دار الشروق
  4. عبدالرحمن الرافعي: ثورة 1919 – تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921، دار المعارف، طـ 4، 1987