قصص تجاوزت فيها الأولمبياد الخطوط الحمراء
لطالما كانت علاقة الرياضة بالمجتمع والسياسة علاقة مضطربة، مليئة بالشوائب، تارة تتمنى لو أن جميع الرياضيين يتفاعلون مع ما يدور حولهم، وتارة تتمنى ألا يحدث هذا الخلط أبدًا، لأن العديد من الأنظمة الحاكمة تستغله لصالحها.
وبما أننا نتحدث عن الأولمبياد، أضخم تجمع رياضي على مستوى العالم، فإننا نتحدث عن ساحة شديدة الإغراء لظهور ذلك الخلط المستحب والمكروه، وتعتبر الوقائع التالية من أبرز الأحداث التي تجاوزت الخطوط الحمراء في الألعاب الأولمبية، تجاوزتها إلى حد لا تتخيله.
الأولمبياد النازية
كانت أولمبياد برلين 1936 واحدة من أكثر النسخ الموجهة سياسيًا، ولا عجب في ذلك لأن الرجل الذي أصر على تنظيمها في بلاده، كان «أدولف هتلر». منشآت متطورة ومستوى عالٍ من التنظيم ومجهودات ضخمة كانت تهدف فقط إلى الترويج لأفكار «هتلر».
في عام 1933، أرسى الديكتاتور النازي سياسة «الآريين فقط» في جميع المنظمات الرياضية الألمانية، حيث كانت النازية قد صنفت المجموعات العرقية ووضعت العرق الآري قمة الهرم، متبوعًا بالأعراق القريبة منه في النسب مثل البريطانيين وشعوب الفيكينج القاطنة بأوروبا الشمالية، ثم الغجر واليهود والروس في أسفل السلم.
تطبيقًا لذلك، سُمح لرياضية يهودية ألمانية واحدة فقط بالمشاركة -المبارزة هيلين ماير- لأن والدها فقط كان يهوديًا. ذكرت مجلة «TIME» في عام 1935 أن «تشارلز هيتشكوك شيريل» عضو أمريكي في اللجنة الأولمبية الدولية، قد سافر إلى ألمانيا قبل الألعاب الأولمبية لضمان حصول «ماير» على مكان في الفريق.
اعتبر الكثيرون المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية بمثابة الاعتراف بتلك الأفكار، لتظهر دعوات بالمقاطعة خاصة بين الرياضيين الأمريكيين. لكن في الأخير، شاركت أمريكا و48 دولة أخرى، منها ست دول سجلت ظهورها الأولمبي الأول وهي: أفغانستان، وبرمودا، وبوليفيا، وكوستاريكا، وليشتنشتاين والبيرو.
في الأخير، انتصر الألمان والعرق الآري بنيل العدد الأكبر من الميداليات (33 ذهبية و26 فضية و30 برونزية)، تلتها الولايات المتحدة (24 و20 و12). لكن مشهد العداء الأمريكي -أسمر اللون- «جيسي أوينز» عكر ذلك الانتصار، إذ ضرب «جيسي» بأفكار هتلر عرض الحائط واكتسح جميع منافسيه بنيل أربع ميداليات ذهبية.
أشهر احتجاج أولمبي
يعتبر فريق ألعاب القوى الذي مثل الولايات المتحدة الأمريكية في أولمبياد المكسيك 1968 أحد أعظم الفرق تاريخيًا، حيث فاز بـ 28 ميدالية وسجل 8 أرقام قياسية. ورغم أن ذلك يكفي لحفر أسمائهم بالتاريخ، فإنه لم يكن كافيًا للعدائين «تومي سميث» و«جون كارلوس»، اللذين نفذا أشهر وقفة احتجاجية -رمزية- بتاريخ الألعاب الأولمبية.
شهدت تلك الفترة انفجار العنصرية -داخل الرياضة وخارجها- ضد أصحاب البشرة السمراء في أمريكا، وعليه هدد المتسابقون الأولمبيون المعنيون بالقضية بمقاطعة الأولمبياد، إلى أن يجد جديد. لكي تدرك الوضع بشكل أفضل، يكفي أن تعلم أن لعبتي البيسبول وكرة القدم الأمريكية استقبلتا أول لاعبين من البشرة السمراء في عامي 1946 و1947، حيث كانت الألعاب حكرًا على البيِض.
مرت السنوات والمجتمع الأمريكي يحاول تقبل وضعه الجديد لاستيعاب الجميع، وهو ما تأكد بإنهاء الفصل العنصري بواسطة قانون الحقوق المدنية لعام 1964، لكن معاناة أصحاب البشرة السمراء لم تتوقف خاصة من قبل الشرطة.
وفقًا لتقرير قناة «VOX»، كان اقتراب أولمبياد 1968 فرصة جيدة لأصحاب البشرة السمراء من أجل الضغط لصالح قضيتهم، وبدؤوا ذلك بالمراوغة بشأن المقاطعة. وبعد تصدر احتمالية المقاطعة عناوين الصحف، استقروا على خوض المنافسات وتوجيه الرسالة بطريقة أخرى.
كان السادس عشر من أكتوبر لعام 1968 هو اليوم المنشود، تحديدًا بعد سباق 200 متر رجال، حيث فاز «تومي سميث» بالميدالية الذهبية ونال زميله «جون كارلوس» البرونزية، وكان عزف النشيد الوطني أثناء صعودهما لمنصة التتويج لاستلام الميداليات بمثابة ساعة الصفر.
وقفا على المنصة بعد أن خلعا حذائيهما، مرتديين جوارب سوداء، ثم أحنى الثنائي رأسه طوال فترة العزف، ورفع كل منهما قبضته في الهواء -مرتديين قفازات سوداء- لإظهار الدعم لكل من يناضل من أجل المساواة.
شرح تومي سميث تفاصيل الوقفة موضحًا: إشارة القفاز الأيمن للقوة داخل أمريكا السوداء، والقفاز الأسود للوحدة السوداء، الوشاح الأسود حول الرقبة يشير إلى السواد، الجوارب السوداء ترمز إلى الفقر. كما لم يغلق «جون كارلوس» سترته في انتهاك صريح لقواعد السلوك الأولمبي لإظهار التضامن مع الطبقة العاملة بأمريكا، كما ارتدى خرزًا أسود لإظهار التضامن مع ضحايا الإعدام خارج نطاق القانون.
وأخيرًا اكتمل المشهد بارتداء الثلاثي (مضافًا إليهما الأسترالي بيتر نورمان) شعار المشروع الأولمبي لحقوق الإنسان، الذي تأسس في عام 1967 على يد عالم الاجتماع دكتور «هاري إدواردز».
علقت اللجنة الأولمبية الدولية مشاركة الثنائي، وتم طردهما من المنتخب الأمريكي، ومنحا 48 ساعة لمغادرة المكسيك. لكن تلك النهاية المأساوية لم تغير من الواقع شيئًا، رسالة الثنائي قد وصلت، وحتى يومنا هذا تظهر بواسطة عدد من الرياضيين الأمريكيين.
مذبحة 72
قد تكون تلك الحادثة هي الأسوأ في تاريخ الأولمبياد، بل في تاريخ الرياضة بشكل عام، لأنها تجاوزت الرسائل السياسية الرمزية وانتقلت لمرحلة العنف والقتل. كانت أولمبياد ميونخ قد افتتحت في 26 أغسطس 1972 بـ 195 حدثًا و 7173 رياضيًا يمثلون 121 دولة. كانت الأمور تسير بسلام حتى صباح يوم 5 أيلول / سبتمبر عندما اقتحم مجموعة من المسلحين شقة القرية الأولمبية للرياضيين الإسرائيليين، مما أسفر عن مقتل اثنين واحتجاز تسعة آخرين كرهائن.
كان المسلحون جزءًا من مجموعة تعرف باسم «أيلول الأسود» التي سعت لإجبار إسرائيل على الإفراج عن 230 أسيرًا عربيًا محتجزين في سجون الكيان الصهيوني. بعد انهيار مفاوضات إطلاق سراح الإسرائيليين التسعة، أخذ المسلحون الرهائن إلى مطار ميونخ.
وبمجرد الوصول إلى هناك، فتحت الشرطة الألمانية النار من فوق أسطح المنازل وقتلت ثلاثة من المسلحين، لتندلع معركة بالأسلحة النارية أسفرت عن مقتل الرهائن ومسلحين آخرين وشرطي.
تم تعليق المسابقة الأولمبية لمدة 24 ساعة لإقامة مراسم تأبين الرياضيين القتلى. وبعد الانتهاء من حفل التأبين، أمر رئيس اللجنة الأولمبية الدولية «أفيري بروندج» بمواصلة الألعاب. وبعد سنين طوال، وفي أولمبياد طوكيو 2020، دعت اللجنة لتذكر ضحايا الحادثة والوقوف دقيقة صمت على ذكراهم.