مجموعة «رقصة النار» للقاصَّة التونسية «فتحية دبش»، هي مجموعة تحوي 61 نصاً قصصياً من طراز القصة القصيرة جداً، تمحورت الحكائية في مضامينها حول قضايا مجتمعية جادة تهم الأُنثى بشكل خاص. وامتازت المجموعة بإيحائية محببة مع عدم إغماض للفكرة، بالإضافة للبراعة في بنائية القصة القصيرة جداً، المتعارف عليه في قالبها: قليل كلمٍ في المبنى، وكثير محمول في المعنى.

الأنثى في نصوص المجموعة القصصية تبدو في منطقة لا تتقاطع فيها مع الذكر إلا في حالات تشكل قضايا موجعة لها، تشغلها، وتمثل عبئاً عليها… كأنهما في «حلقة مفرغة» وهو عنوان إحدى القصص:

تلك الأبواب المغلقة تتسلل من بين شقوقها الريح، تتمايل شجرة البرتقال ويساقط ورق شجرة الزيتون، جاءت عجائز الحي تجمعن الورق المتناثر، الصبايا يسقين الجذور والجماجم المزروعة هنا وهناك بماءٍ مالح… أما هو، فشاله الأحمر مبلول، رفعه ناشراً يبغي تجفيفه، كلما أشرقت شمس وبددت بللاً هطلت أمطار حمراء وخضّبت الأرض.

تمثل القصة الحقل الدلالي الشامل لنصوص المجموعة القصصية، فقد احتوت جميع ثيماتها المتناثرة في مضامين مجمل القصص إلى حد كبير. عنوانها «حلقة مفرغة» يحمل الرؤية للعلاقة وإشكالاتها.

تعبير «الأبواب المغلقة» دار حول نفس المعنى بتعبير آخر. شخوص الحكاية: (عجائز الحي، الصبايا، الجماجم وهو) تضع القارئ أمام المشهد لتتناسل أفكاره لأجل التقاط الصورة الذهنية المعبرة عن هذا التشكيل المحكي بألفاظ راعت القاصة وضعها بقدر، بحيث يؤدي حذف أحدها لاختلال البنائية القصصية.

الشال الأحمر الذي لا يجف بفعل الأمطار الحمراء التي تهطل كلما أشرقت «شمس». تنكير الشمس أفسح للتصوير مدىً فسيحاً مكتظاً بالتناسلات الذهنية على إسقاطات متعددة، أي شمس تقصدها الكاتبة؟ وما دور الرجل في القصة؟ الإجابات في الحلقة المفرغة، العنوان الأنسب المُنتقى ببراعة، واشتغال الكاتبة على جميع عناوينها كان موفقاً في إسقاطها على القصص.

في قصة «تحرش» ألقت الكاتبة بضوء على الفكرة المحورية التي حمّلتها لنصوصها:

في قاعة المحكمة وقفا متقابلين، تلاسنا… كلٌّ يستعرض دواعيه ودوافعه… قضية شائكة وعواقبها شنيعة… ينادي القاضي على المتهمة، تقبل مطاطئة رأسها… حجم التهمة: «أُنثى».

عنوانها تحرش يمثل هضم الذكر للأنثى، الحقوق التي ينتزعها الرجل من المرأة، بموافقة المجتمع. توظيف الشخوص داخل المشهد سمة بارزة في القصص، حيث تستغل الكاتبة المساحة المحدودة بدقة واقتدار، لتصنع المشهد بتصوير يغطي مساحة دلالية كبيرة، والتقاطتها لا تخلو من عنصر الدهشة المميز للقصة القصيرة جداً، ومفارقاتها حاضرة في نصوص المجموعة القصصية.

في قصة أخرى حملت عنوان «عقد الـ…» حملت نفس الطابع قدمتها الكاتبة من زاوية أخرى، قدمت رؤية الأنثى:

وبينما الصباح يغزو المكان خيم صمت رهيب…  قال الأول: مات الرجل… الثاني: بل لعله بين نوم ويقظة… وثالث: … وحيث انتهت الجلبة بالقول الفصل: باردٌ هذا الجسد… هلّلت أُنثى بعبارات النصر: «اليوم فقط انزاحت غشاوة عقود من الاستباحة».

العنوان لافت ومحفز لتخييل القارئ، يشد انتباهه من أُذنيه! هل هو عقد الزواج؟

موت الرجل وتهليل الأُنثى، ذكرها لعقود من استباحة الرجل لها. ربما ترمي الكاتبة إلى عقد عصر التنوير، العقد الاجتماعي الذي نظّر له الفرنسي «جان جاك روسو» في الفلسفة الأخلاقية والسياسية.

قامت الكاتبة باستلهام اللفظ القرآني، المشهد الأخروي مع مفاهيم منصوص عليها وظفتها في محل ذمٍ للرجل، كما في قصة «عاقبة» التي تمثل خلاصة العلاقة:

ينتظر أُفول النجم، فقد أكل الليل بعضاً من نهاره وظل البعض الآخر قيد شهقة واحدة واثنتين من عمق النحيب، تقدم منها، فرَدَ الصحيفة: بيضاء يملؤها السواد، علّقت على خيط الأمل عيناً باكية، قالت: رحمني الله، كنت لك نِعمَ المؤمنة، وكنت لي بئس المشرك.

اللون حاضر في علاقة الأيمان بالبياض، والسواد بالشرك، المفارقة حاضرة ومتعددة. إشارات الكاتبة لانتظار الرجل أفول النجم، ونحيب الليل، وقول البطلة «رحمني الله» شكّلت صورة نمطية تلغي المعنوية ولا تتعدى لغة الجسد في علاقة الرجل والأنثى، الصورة التي وصفتها الكاتبة في شخص الرجل بـ «بئس الشرك».

أفلتت الكاتبة بعض النصوص خارج دائرة الموضوعية الأنثوية، وإن كانت -النصوص- يمكن أن تلقي إلى الأُنثى برابط ما يمكن التقاطه من طرف إيحائي بعيد. مثل قصة «ذمم» عن ظاهرة مجتمعية لا يخلو منها مجتمع:

يقرفص الصبي على الرصيف، دوي الصفارات وهرج المسافرين بدأ يخفت… يخفت… ويترك مكانه لوحةً كالموت، ينزل الرداء الأسود على الواجهات، ويقفل عون التذاكر نوافذه… بعد قليل، سيقطع عربيد الليل الخيط المتبقي من سرواله مقابل رغيف وسيجارة.

تقنيات الكاتبة متعددة في صناعة مشاهدها. الصوت/ التكرار للفظ «يخفت» مع النقاط الفراغية يؤدي مراد الكاتبة في خفوت الصوت شيئاً فشيئاً، لتحدد زمن المشهد بإضافتها «عربيد الليل»، فتكمل المشهد بتصويرة زمنية ترافق المكانية (على الرصيف) لتسرد عن آثار الفقر على الطفولة، وأخلاقيات المجتمع بصفة عامة. اللون/توظف الكاتبة الألوان في إسقاط دلالات معبرة عن الحالة (الأسود، لوحة الموت) بحيث يتلقى القارئ دلالة اللون ودفقة الشعور بالحالة.

الاقتباس من مجموعة فتحية دبش يظلم اشتغالها المدهش على جميع القصص، فكل واحدة تحمل قيمة فنية عالية، وطرحاً عالي الكعب في سرده وتشويقه ومحتواه القيم. ولكنه ضوء على بعضها، كشّاف لمجمل المجموعة القصصية، ولقاصة تملك أدوات قصٍّ فائقة الإبداع، ماهرة في حياكة نسيج الحكائية القصيرة جداً حمّالة المفارقات والدهشة.