يتحدث توماس كون، الفيزيائي والمؤرخ وفيلسوف العلم، في كتابه «بنية الثورات العلمية» عن تبادل يُشكل النمط الكامن في تسلسل المعارف الإنسانية. هذا التبادل هو تبادل فترات «العلم العادي» و«العلم الثوري» . تعتمد فترات العلم العادي Normal Science على تنقيح النظريات الموجودة بالفعل وتوضيح أطرها، رياضية منطقية كانت أو تجريبية، وتوسيع مدى تطبيقها مصحوبا بتطوير أو ابتداع طرق جديدة لقياس الظواهر المختلفة بدقة أعلى. أما فترات العلم الثوري أو الثورات العلمية Scientific revolutions ، فإن اسمها ينم عن طبيعة ما يتخللها من صراع بين نظرية مألوفة ونظرية ناشئة تملك قوة تفسيرية عالية. وبالطبع يؤول حسم النتائج إلى الملاحظات والأدلة، مع التشديد على أن النظرية الناشئة ليست بأى حال نابعة من النظرية المألوفة، بل كيان خاص مستقل ناقد للنظرية المألوفة. بهذا ينتقل العقل العلمي من نموذج فكري Paradigm لاّخر فيما يعرف باسم نقلة أو تحول النموذج الفكري Paradigm shift.

من المعتاد أن نرى الانتقال من الميكانيكا الكلاسيكية إلى النسبية وميكانيكا الكم، أو القضاء على نظرية الفلوجستون باكتشاف الأكسجين، أو اندثار نظرية الأثير، وبالطبع الثورة الكوبرنيكية كأمثلة شائعة لمثل هذه النقلات. وسنرى الآن إن كان بإمكاننا إضافة مثال اّخر للقائمة شكَّل نقلة محورية في قلب علمي الكيمياء والبيولوجيا. نعني هنا الانتقال من الحيوية أو المذهب الحيوي Vitalism لعصر التخليق العضوي Organic synthesis.


المقدمات: عالم يتكون من تروس

تأتي النقلات الفكرية للعلم بشكل أقل درامية مما توحي به سرديات كتب التاريخ، فعادة لا ينام المرء في عصر نظرية ما ويستيقظ في عصر أخرى؛ بل يمكننا القول أن مسامير نعش نظرية ما يتم دقها على مدى سنىن طويلة، حتى يصبح أعضاء المجتمع العلمي ببساطة غير مقتنعين -بطريقة آلية- بقدرتها على التفسير أو فعاليتها من المنحى التطبيقي. وهذا بالظبط ما حدث للمذهب الحيوي.

من السهل استشعار العديد من الأفكار المبدئية للمذهب الحيوي عند الفلاسفة القدامى كأرسطو في كتابه «عن الروح De Anima»، وعند جالينوس وابن سينا؛ إلا أن استدعاء هذه الأفكار لتدخل في نطاق العلم الطبيعي قد أتى كمحاولة لملء الفراغات التي اعتقد بعض الفلاسفة والعلماء أنها تنشأ عند تطبيق المنظور الميكانيكى الديكارتي على الأنظمة الحية. تبدأ القصة -كمعظم القصص المؤسسة للعلم الحديث- من القرن السابع عشر .

كان من الطبيعي بعد ما أثاره جاليليو من انتقادات للفلسفة الطبيعية الأرسطية، وتدليل على عدم تماشيها مع نتائج التجارب وسير الطبيعة الفعلي؛ أن يأتى من يحاول استبدالها كليًا ليضع منظومة مغايرة تستوعب الملاحظات والمشاهدات الجديدة. وقد كان هذا الفيلسوف هو رينيه ديكارت.

http://gty.im/463963125

وضع ديكارت نموذجا صارما ينص على أن كل الظواهر يمكن تفسيرها بتفسير حركتها وتكوينها، وأن أي ظاهرة ما هي إلا نتيجة سلسلة من المسببات والأحداث السابقة المرتبطة بالحركة والمادة بدون الاحتياج لقوى خفية أو أرواح أو ادعاء بأن المواد تتصرف بطريقة معينة بسبب امتلاكها لرغبات مشابهة للبشر، كما كان الأمر سائدا في فيزياء العصور القديمة. تسمى هذه النظرة بالفلسفة الميكانيكية لأنها تعتمد على الميكانيكا البحتة في التفسير؛ حيث يكون العالم أشبه بساعة تتحرك عقاربها بسبب حركة عدة تروس بداخلها، لذا رغم أننا لا نرى هذه التروس إلا أنها هي المتسببة في حركة العقارب التي نراها وليس «روح الساعة» أو «رغبة العقارب الملحة للوصول لليوم التالي». تلقّى الفلاسفة المعاصرين فلسفة ديكارت بدرجات متفاوتة من القبول، ولكنها سرعان ما أصبحت النظرية السائدة عندما يتعلق الأمر بالتفكير العلمي في هذا الوقت، منضمًا لها فلاسفة مثل هوبز (الذي سلك منحًى ماديًا بضراوة بعد ذلك ) وجاسيندي وهايجنز وبالطبع –وإن كان بصرامة أقل– نيوتن وبويل.

http://gty.im/90619644


المذهب الحيوي يتشكل كفلسفة

كان التفكير العلمي حتى الآن يدور حول الجوامد وظواهر الطبيعة غير الحية. ولكن ما إن ظهرت المحاولات الأولى لتفسير أنشطة الكائنات الحية بنفس الطريقة الميكانيكية البحتة، حتى اشتعل الجدل بينها وبين النظرة التقليدية القديمة –المحبِذة لإدخال عنصر ميتافيزيقي أو ما ما بعد طبيعي، على أي بحث- التي تقول بوجود اختلاف جوهري بين الحي واللاحي، أي بين الشيء الجامد والكائن الحي.

تطورت تلك النظرة القديمة متحولة لمذهب له خطاب واضح -بدا علميا وقتها- يقول بوجود «قوى حيوية» غامضة تحرك الكائنات وتعطيها الحياة، وهي قوى لا يمكن قياسها ولا توصيفها. تكمن هذه القوى في مكونات الكائن الحية التي أصبح يطلق عليها مكونات «عضوية» تمييزًا لها عن المكونات «غير العضوية» غير الحية، بحيث ستستطرد النظرية الحيوية تلك -والتي ستعرف باسم Vitalism- بأن القوة الحيوية تعطي طابعًا خاصًا للمواد، وأن المواد العضوية لا يمكن أن نجدها إلا في أجسام الكائنات الحية لأن تكوينها يتطلب دورًا تقوم به القوى الحيوية.

لذا كان على المسرح الفلسفي الطبيعي اّنذاك فريقان، يقول أحدهما –الفريق الميكانيكي- أن العمليات في جسم الكائن الحي ما هي إلا تفاعل مادة وحركة بطريقة كيميائية، مثل تروس الساعة، ولا نحتاج لقوى غامضة لشرح كيف تعمل الكائنات الحية وأجهزتها، وأن الحي وغير الحي لهما نفس الأساس على المستوى العميق. ويقول الاّخر -الحيوي- بأن كل العمليات الحادثة داخل الجسم الحي هي عمليات ناشئة عن قوى حيوية وليست فقط تفاعلات مادية كيميائية.

كان جورج شتال، صاحب نظرية الفلوجستون، من مؤيدي المذهب الحيوي الأوائل. ربما كان سيزعجه كثيرا سقوط كلا النظريتين في النهاية!

تفوق المنظور الميكانيكي في شرح عمليات مثل التنفس والتخمر والتمثيل الغذائي، وبدا أن المذهب الحيوي أصبح طي النسيان وأنه لا حاجة للتكهن بوجود أية قوى غامضة عصية على القياس. إلا أن دراسات تطور الأجنة كانت بمثابة الباب الخلفي الذي سيستغله المذهب للظهور مجددا على يد هانز دريش لفترة قصيرة ما بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين حيث سيبحث عن النصر للمذهب في زاوية «تطور الأجنة» والتي سيقول بأنها عملية موجهة تحتاج قوى حيوية لتفسير حدوثها ولا يمكن أن تنشأ ببساطة من المواد غير الحية المكونة للجنين قبل أن يصبح جنينًا. أيضا بالاضافة لمقاربة دريش العلمية، كانت لهنرى برجسون أيضا مقاربة فلسفية تصب لمصلحة نفس المذهب.

http://gty.im/89861071

انتقد برجسون، الفيلسوف الشهير والحائز على نوبل الآداب عام 1927- النظرة التطورية الداروينية في كتابه «التطور الخلاق» ليقول أن التطور ليس مجرد مفاضلة بسيطة بين الصفات لتستمر الصفة الأكثر ملاءمة، وأننا لا يمكننا معرفة الكيفية التي يتم بها انتقاء صفة معينة واستمرارها. يضيف برجسون أن التفاعلات الكيميائية لا يمكنها أن تعطينا «مفتاح الحياة» بل وحدها القوة الحيوية والتي أعطاها اسم elan vital يمكنها القيام بذلك وتفسيره، بينما هي ذاتها ليست قابلة للتفسير علميًا. تختلف تلك القوة عن التطور الدارويني في أنها ليست محددة الهدف بل تغطي كل الإمكانات المتاحة أمام المادة الأولية وطبيعتها وبالتالي نحصل على كائنات حية مختلفة الطبيعة.

يجدر بنا هنا أن نقول أن قوة برجسون الحيوية ليست شيئا مستقلا عن المادة، بل أن المادة تحتويها، لذا فهي لا تقوم «بخلق» الكائنات الحية، فقط تديرها وتحركها بطرق محتملة عديدة تحمل للعالم طابعا عشوائيا أكثر واقعية –من منظور برجسون– من النظرة الحتمية لداروين، أي أنها –بكلمات أخرى– تحيي المادة الميتة.

بوقت ظهور دريش وبرجسون، كان المذهب الحيوي مذهب أقلية مات مرة لينبعث ليموت مجددا بموتهما -نتحدث هنا عن موت الحيوية كنظرية علمية بالطبع- ذلك أن المذهب مُنِي بضربتين هاجمتا أساساته في النصف الأول من القرن التاسع عشر وشكلتا بداية التصنيع الروتيني للمواد العضوية.


انهيار الدعائم

وضحنا فيما سبق أن القضايا الأساسية للمذهب الحيوي هي:

1. هناك اختلاف عميق بين الحي وغير الحي.

2. المواد العضوية لا يمكن أن تتكون بدون القوى الحيوية.

3. القوى الحيوية هي المسئولة عن العمليات في أجسام الكائنات الحية.

4. لا يمكن التعرف على، أو قياس، القوى الحيوية.

لذا من السهل توقع نوعية الضربات التي ستشكل خطرًا على مثل هذا المذهب، فقط عليك أن تصنع مركبًا عضويًا بدون كائن حي. اعتاد الناس أن يشيروا لتصنيع فوهلر لمركب اليوريا Urea عام 1828 بأنه هو الضربة التي أنهت مصداقية المذهب، وفتحت الباب أمام التخليق العضوي، ليصبح علمًا ناضجًا، ولكن كما سنرى فإن هذا مردود عليه. أما الأقرب للصواب فهو أن المعضلة الحقيقية التي أذنت بتراجع المذهب علميًا، والتحول نحو التخليق العضوي، كانت تصنيع هيرمان كولبه لحمض الخليك لأول مرة عام 1845.

http://gty.im/90772375

في عام 1828 أرسل فوهلر لبيرزيليوس، الكيميائي السويدي المرموق والذي عمل معه فوهلر لمدة عام– خطابًا شديد الحماسة يخبره فيه أنه تمكن من صنع اليوريا (وهي مركب عضوي) بدون الحاجة إلى كلية إنسان أو حيوان. كان فوهلر قد عالج أيزوسيانات الفضة –رغم أنه اعتقد خطأ في البداية أنه استخدم سيانات الفضة– بكلوريد الأمونيوم، ليتفاجأ بخواص وشكل المركب الذي حصل عليه (أي أنه لم يكن يحاول تصنيع اليوريا عمدًا). وبرغم أنه بالفعل كان أول مركب عضوي يتم تصنيعه في المعمل إلا أن الادعاء بأنه أسقط المذهب الحيوي ليس احتمالا متماسكا حيث يمكن الزعم بأن المواد الأولية للتفاعل (حمض السيانيك والأمونيا، وهي مواد عضوية) مواد تحتوى بالفعل على القوى الحيوية؛ ولذا تمكنت من التفاعل لتكوين مركب عضوي. لذا سيحتاج النموذج الفكري سبعة عشر سنة أخرى لتحدث له نقلة حقيقية.


«كولبه» يحسم القضية

بحلول عام 1845، سيثبت هيرمان كولبه أن بالإمكان صناعة حمض الخليك (وهو مركب عضوي أيضا) في المعمل، ومن مواد غير عضوية، وهي: الكربون النقي، ثنائي كبريتيد الحديد، مع الكلور والماء والهيدروجين المختزِل. هنا أصبح من الجلي أنه من المقدر للمذهب أن يتم تجاهله شيئًا فشيئًا بخلاف استفاقات عارضة مثل التي تحدثنا عنها مع دريش وبرجسون ليصبح المذهب حاليا مصنفا كعلم زائف أو أسطورة، ويتم للنموذج الفكري انتقاله من الاقتناع بعدم قدرتنا على سبر أغوار الكائن الحي للاقتناع بإمكانية تفكيكه وفهمه من العمق طبقا لعدة أسس وتجارب واضحة، وأن التفاعلات الكيميائية هي المسبب الرئيسي وراء أنشطة الكائن الحي. رغم أن التنوع الضخم في التفاعلات المذكورة قد يسمح بمدى من الاختلافات أكثر مما يسمح به «نموذج تروس الساعة» إلا أنه في النهاية لا يمكن لعالم الآن استخدام تلك القوى الحيوية المزعومة لتفسير أي ظاهرة وإلا اعتُبر كلامه هراءً بحتا. إن لم تجد السبب، واصل البحث ببساطة حتى تجده أو يجده آخرون.

يقول كون أن النقلات الفكرية لا تحدث إلا بأزمة، بإمكاننا تخيل الأزمة التي واجهها الكثيرون عند اكتشافهم أن الحد الفاصل بين المواد داخل الأجسام وخارجها ليس واضحا كما اعتقدوا بداهة، وهي بالفعل فكرة عسيرة على الأذهان. فما معنى أن تكون المادة حية إن كان بإمكاننا تصنيعها؟ سيستلزم الأمر مزيدا من الأبحاث ولكن لن يتم قبول تفسير بواسطة «عوامل غامضة» مجهولة الكنه بعد الآن، فنحن نعلم أحسن من ذلك. هكذا يعلمنا التاريخ وهكذا يرينا «كون».

المراجع
  1. The Cambridge dictionary of philosophy
  2. Thomas Baldwin-The Cambridge History of Philosophy 1870-1945-Cambridge University Press (2003)
  3. John_Hudson -The_History of chemistry
  4. Thomas S. Kuhn-The structure of scientific revolutions-University Of Chicago Press (1996)