ابقَ حيث «عمار»!
منذ ثلاثة عشر عامًا بالضبط، أتذكر مشهد البداية بكل تفصيلاته، كنا أول أيام عيد الفطر، نستقل السيارة الـ«لادا» الحمراء، مارّين من أمام مسجد النور بالعباسية، في الطريق إلى ما كنا نسميها «شقة مصر»، وأبي يرفع من صوت الراديو الذي كان لا يظهر بكامل إشارته إلا في هذه المناطق المزدحمة من القاهرة، لأسمع لأول مرة صوت «عمار الشريعي» يقدم برنامجًا اسمه «غواص في بحر النغم».
طلّ هذا الصوت معلنًا أنه اليوم بصدد مناقشة أغنية «محمد عبد الوهاب» «أحبك وإنت فاكرني»، وظل يمجد في اللحن والتوزيع وشروحات أشبه بدرس يأتي فيه بكلمات لا قِبل لي بمعناها كـ(ماجير- نهاوند- نهاوند الري)، كلمات لم أعرها اهتمامًا، ولم أركز عليها، ولكن فقط لأنها غريبة فقد علقت في ذهني. انتهى هذا الـ«عمار» من هذا الشرح، ثم تركنا مع سماع الأغنية ليكون إيذانًا ببداية القصة.
أحبك وانت فاكرني، هي أغنية عبد الوهاب الوحيدة التي لا أستطيع سماعها إلا منفردًا.
المشهد الثاني لم يرتبط بوقت محدد، كان يتكرر كل عدة شهور، وفي الأغلب يتكرر صدفة حين يصادفنا مسلسل «أم كلثوم»، أو بصورة أدق، حين يصادفنا تتر مسلسل أم كلثوم، عذرًا سأسير بك قليلًا مع التتر ثم أعود.
التتر هو عبارة عن إعادة توزيع من عمار لبعض أغاني أم كلثوم، ودمجها لتخرج موسيقيًا بهذه الكتلة الصلبة التي لا تشعرك بالمزج، يبدأ عمار التتر بصوت الست ذاتها في بـ«رضاك»، ثم يتركها تعلي من آهاتها أكثر وأكثر ليلتقط الخيط من أعلى «آه»، ويصدمه بمدخل أغنية «رق الحبيب»، وآهٍ منك يا عمار! يسير مع «رق الحبيب» كما الغدير الساري بكل راحة، حتى اللحظة التي لا تعرف عندها متى أصبحتَ في موسيقى أغنية «يا ظالمني»، ثم يدخلك معه صعودًا وهبوطًا وتمايلًا مع «يا ظالمني»، وبعدها الاختيار العبقري بالنقل لموسيقى قصيدة «ذكريات»، وآهٍ أخرى يا عمار.
ما يهم أن هذا المشهد المتكرر سماعًا، كان في كل مرة هو الحاث على نغز حاسة البحث لديّ، في كل مرة أبحث أكثر عن عمار، أسمع أكثر من عمار؛ لتستمر الحكايا.
من المفارقات الجميلة التي تؤكد ارتباط عمار بي بما لا أستطيع نكرانه، هو الأيام الأخيرة لأبي، حين كنا نتابع فيها مسلسل «حديث الصباح والمساء»، كنا نحفظ الأحداث من كثرة تكرار المسلسل، وفجأة توقف الأمر، كنا مازلنا في الحلقة العاشرة، لم أكمل، ولن أكمل، المفارقة أني وجدت الملاذ لدى عمار، دقيقة واحدة تكفي، لا لاستعادة ما تبقى من أحداث، بل تكفي ما تبقى من شعور آخر ليلة يا أبي، تلخص تمامًا دون حاجة لزيادة، دقيقة واحدة بها كل الأمر، ودون أن يحتاج أحد للكلام.
على الأرجح هذه الضالة الموسيقية كانت لأسباب؛ لم يكن أبي مولعًا بالشعر مثلي، كان فقط يحب «بيرم التونسي» لأنه مأخوذ بأغنية «القلب يعشق كل جميل»، وكان يحب «صلاح جاهين» مع حب «سعاد حسني»، أو لا؛ أعتقد أنه كان يحب جاهين لأنه يشبهه شكلًا، ولا يعنيه الشعر شيئًا خارج هذا الإطار، فلن أدعي فلسفة لعشق الموسيقى، بل فقط كانت الموسيقى هي الوسيلة الأسرع من الشعر لامتلاك أي مشاعر، هكذا بتلك البساطة وهذا الاستسهال.
عمار هذا الذي يضحك، ويبكي، ويواسي، ويرقص دومًا دونما كلمات أيضًا، لم يكن هذا الملاك الذي يسير ليثير الأرض نورًا، فمعظم موسيقاه أو موسيقى الثمانينات هذه التي تنتشر فيها الكيبورد قسرًا بزحام نغماتها الجديدة حينًا، والمزعجة حينًا أخرى، جعلت الكثير من الأعمال تخرج من باب أنها عمل يرضي الجمهور وفقط.
بتكثيف أكثر، أقصد هنا أغاني فرقة «الأصدقاء» مثلًا، تلك الأغاني بألحانها التي ما كانت تملك هذه السلاسة الكلاسيكية المطرزة، أو هذا النقاء الصوتي الذي لا يشوبه أي تقنيات موسيقية، بل في أغلب الأحيان لم أكن أفضلها –كذلك أبي – لكن هناك حاجة ما إليها، رغبة تتسلل رويدًا على مهلٍ لاجتذابك.
على ذكر «سيد حجاب»، قبل عامين أو أكثر حضرت أمسية له، وحين كنت ذاهبًا قال لي أبي: «لوحده ولا معاه عمار؟» ثم استدرك سريعًا: «نسيت والله.. الله يرحمك يا عمار». الجميل في نهاية الأمسية أن سيد ذاته أحس شعور أبي وقال للحضور: «بس أنا حاسس إن عمار قاعد معايا، أنا لسه بكلمه في التليفون عادي أصلا»، ثم تلا علينا قصيدة كتبها لعمار، ومن المفترض أن أثبت الآن أنني تخيلتني أكتبها لأبي، ولكن هذا لم يحدث، فقط تمنيت حينها لو كان وافق على أن يأتي معي لنسمع القصيدة سويًا، كانت ستسعده.
كثيرًا في الأوساط الكروية، تمر أمامي جملة أن فلانًا لو لم يكن لاعبًا لكان بالأحرى أن يكون صانع حلوى، أو بائع هدايا، أو شيئًا من هذا القبيل، الذي يضفي صفة العطاء الجميل على البشر، وحاولت بالفعل تطبيق هذا الإسقاط على عمار؛ ووجدته لو لم ينتج موسيقى لكان لا شيء! عمار ما خُلق إلا ليَخلق موسيقى، كذلك أنت يا أبي، لم تُخلق إلا لتكون أبي.
غريب بعض الشيء أن أستعيد ملمس يدي أبي، وكأنهما يتحسساني فقط من سماع موسيقى، ولكن هذا ما حدث لحسن حظي، فكانت يداك كما عود عمار! كلاهما قادر على «الطبطبة».
لعلّني ظننت الطريق إليك وعرًا، وما كنت أدري أنك استعملت عمار لتعبّده، أظنك أنت نفسك يا أبي، لم تكن تدري أن في نهاية كل وعرٍ من الطريق كان عمار – دومًا – هو جسر الراحة.
ومع هذه المضخة الموسيقية؛ فِضتَ عليّ بكامل الحس، أراك في رقة منديل سعاد المتمايل مع موسيقى «حب في الزنزانة»، أشم ريحك مع ريح البحر كلما هلّت و«عمار يا اسكندرية»، وأحدثك – وتحدثني – وموسيقى «أرابيسك» وراءنا، ثم نغمر الأرض ضحكًا كأنما تقاسمنا ضحكات «هند وكاميليا»، وسط تلك الشلالات التي تحيط بي، أينما ارتحلت – ولو بفكري – يبقى الرجاء معقودًا.
أبي.. ابق حيث عمار.
عمار.. انتظراني معًا.