محطات في حياة نجيب محفوظ
هو «نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا»، ولد في شتاء عام 1911، حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1988. يعتبر «نجيب محفوظ» أبًا للرواية المصرية الحديثة بدون منازع.
نشأ «نجيب» في أسرة متوسطة في الجمّالية، له أربعة من الأخوة وأختان. كان «نجيب» أصغرهم، وكان يعتبر بمثابة الأمل لأسرته حيث أتى في سن متقدم لوالديه. كان بينه وبين أخيه قرابة العشر أعوام، وسمي بـ«نجيب محفوظ»، وهو اسم مركب على اسم «نجيب محفوظ باشا»، الطبيب الذي أشرف على ولادته التي كانت متعسرة.
التحق «نجيب محفوظ» بمدرسة الحسينية، وفي عام 1919 وهو ذاهب للمدرسة، وجد الطرقات خالية، والمحال مغلقة على غير عادتها، وعندما وصل للمدرسة استوقفه الحارس بسبب الثورة. كان يشتهر «محفوظ» بكرهه للمدرسة، وكان يعتبرها رمزًا للقهر. عندها دعا «محفوظ» لأن يبارك الله في الثورة التي كانت سببًا في إغلاق المدرسة، ومن وقتها تأصل في نفسه حب «سعد زغلول»!.
بداية في حياة محفوظ
القهوة والرواية الأجنبية
يعتبر المقهى أول مكان ارتبط فيه «محفوظ» بعالم القصص، حيث كان لكل قهوة في الجمّالية شاعر يحكي على الربابة. كان وقتها لا يستطيع الدخول للقهوة لصغر سنه، فكان يقف خارجها لسماع القصة الجديدة. فتربى عشق «محفوظ» للحكاوي من القصص التي ترددت على مسامعه من القهاوي التي تحيط بمنطقته.
وذات يوم وجد مع أحد أصدقائه بالمدرسة كتابًا خارج كتبه الدراسية. كانت رواية مترجمة من النوع البوليسي اسمها «ابن جونسون». تلك الصدفة هي الباب لمحفوظ في مجاله الأدبي والروائي. قرأ «محفوظ» أيضًا «النظرات والعبرات» لـ «المنفلوطي» ويطلق عليها «الحسرات». كذلك قرأ الأيام لـ«طه حسين» وأطلق عليها «الأعوام»!.
اللاعب في مواجهة الإنجليز
كان يريده والده أن يصير طبيبًا، لكن والدته شجعته على أن يختار طريقه بنفسه. أما عن ميول «محفوظ» فكان يحب الموسيقى، وكان لاعبًا جيدًا في كرة القدم حتى ظن أنه سيكون لاعبًا كبيرًا. ونشأ حب «محفوظ» للكرة عندما رأى فيها الطريقة الوحيدة لهزيمة الإنجليز. ففي ظل الاستعمار الإنجليزي لمصر؛ لم تستطع مصر آنذاك هزيمة الإنجليز في أي مجال سوى ملاعب الكرة، فرآها «محفوظ» سبيله لهزيمتهم!.
عشقه للفلسفة
في عام 1930، توجه «محفوظ» لجامعة القاهرة ليقف أمام لجنة يرأسها «طه حسين» ليخبرهم برغبته في دراسة الفلسفة رغبة منه في دراسة أصل الوجود. تم توجيهه لقسم الفلسفة في كلية الآداب. كان لدراسة الفلسفة أثر كبير في طريقة تفكير «محفوظ».
ورغم حبه لـ«طه حسين» إلا أنه لم يتأثر به كثيرًا. وفي أحد الأيام جمعه القدر بمجدد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث الشيخ «مصطفى عبدالرازق». فكان يزور الشيخ في بيته، وقد سمح له بالاطلاع على مكتبته، وكان يراه الشيخ من المستنيرين الذين يجمعون بين الأصالة والمعاصرة، و بين سماحة الدين الإسلامي ورقيه. وبعد أن تخرج من الجامعة، صار موظفًا بها.
صراع بين الفلسفة وعشقه للحكاوي
تمكن الصراع من نفس «محفوظ» بين الأدب الذي يعشقه والحكاوي التي ملكت فكره منذ صغره، وبين الفلسفة التي درسها. جلس «محفوظ» في غرفته واختلى بنفسه وقلمه، وبدأ في كتابة قصص قصيرة كانت بعنوان «همس الجنون».
واجه صعوبة في نشر قصصه إلى أن نشر قرابة الثمانين قصة. وفي يوم من الأيام، حصل على جنيه كأول مقابل لكتاباته، ومن هنا بدأ «محفوظ» حياته الأدبية بالفن القصصي القصير، وكتب قرابة الثمانين قصة. وهذه القصص تم ترجمتها للعديد من اللغات حاليًا.
نجيب بين التاريخ والواقعية
بدأ محفوظ في كتابة «الفن الروائي»، واستمد رواياته من مجتمعه الذي نشأ فيه. فكانت رواياته تتضمن قصصًا للحواري التي نشأ فيها، وظروف وطنه الذي تربى فيه. كتب «عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة»، وكان دافعه في هذه الروايات دافعًا وطنيًا، حيث كان يستدعي في ذاكرته ومخيلته معاني الاستعمار، وما عاشه في ظل هذا الاستعمار.
كانت الحرب العالمية الثانية بمثابة انتقال «محفوظ» من كونه روائيًا تاريخيًا؛ إلى كتابة الرواية المجتمعية أو الواقعية، خاصة بعد ظروف الانحسار الاقتصادي في مصر بعد الحرب. وصف «محفوظ» الرواية الواقعية بالمتاعب، حيث وجد صعوبة في نثر النص ووصف الواقع المستوحى من المكان و الزمان الحالي.
بدأت المرحلة واقعية لـ«محفوظ» في القاهرة الجديدة عام 1945 التي جرت أحداثها في أحياء القاهرة، والزمان منتصف الثلاثينيات. وصفت روايته الواقع الأليم لمصر الساقطة في مستنقع الفساد والمحسوبية؛ حد بيع الشرف!.
ثم كتب بعد ذلك «خان الخليلي، السراب، زقاق المدق، بداية ونهاية، ثلاثية بين القصرين، السكرية، قصر الشوق»، التي أصّلت تاريخ مصر في النصف الأول من القرن العشرين. فتناول فيها القاهرة القديمة، والانتقال من العالم القديم للعالم الحديث.
متغيرات في حياة الروائي الموهوب
سيد قطب؛ المفكر الناقد
كانت العلاقة بين الروائي «نجيب محفوظ» والمفكر «سيد قطب» علاقة خاصة. وقتها كتب «قطب» عن رواية «زقاق المدق، كفاح طيبة، القاهرة الجديدة»، والمقالات التي كتبها «قطب» عن روايات النجيب هي ما أعطت لـ«محفوظ» صيتًا كبيرًا.
كان «قطب» أول من تنبأ بمستقبل «محفوظ»، وقال عنه أنه وضع الرواية العربية على خارطة الرواية العالمية. فكانت روايته تدل على وعيه الجغرافي بالمنطقة التي عاش فيها، ويعد أول من وصف طبقات المجتمع المصري في فن الرواية.
البحث عن نفسه في السينما
بعد 1952، توقف «نجيب» عن الكتابة، وكان مبرره أن الثلاثية قد أرهقته لدرجة أن البعض اندفع قائلًا أنه انزعج من وصول الضباط للحكم في مصر بعد 1952، إلا أنه رد على ذلك بأن بعد 1952، لم يعد هناك ما يكتب عنه بعد أن تحققت أمال الشعب.
وفي فترة توقفه عن الكتابة؛ سجل نفسه في نقابة السينمائيين، وصار أول أديب يمارس السينما بشكلٍ احترافي في تاريخ السينما المصرية. يرتبط «نجيب» بالسينما منذ طفولته، وكانت أول سينما دخلها «كلوب الحسيني»، وقال عندما خرج من السينما؛ أنه أخذ يبحث عن ما رآه في السينما في الشارع.
بعد 1952، توقف «صلاح أبو سيف قطب» السينما المصرية في نفس الوقت الذي توقف فيه «محفوظ» عن الكتابة. ولكنهما عادا للعمل معًا مقدمين روعة الواقعية في السينما المصرية. وكان أول أعمالهما فيلم مشتق من الواقع وهو: «ريا وسكينة» ثم فيلم «الوحش». لذا يعد «نجيب» أستاذ الأدب السينمائي في التاريخ السينمائي المصري، حيث نجح في أن يدخل الواقعية في السرد الدرامي.
العودة ملهوفًا للرواية
عاد «نجيب محفوظ» للرواية بشكلها الفلسفي الرمزي برواية «أولاد حارتنا»، وسلمها للأهرام التي كان يرأسها «محمد حسنين هيكل» كي تنشر في فصول أسبوعية في الجريدة اليومية.
كانت الرواية رمزية لكنه لم يحدد إلى أي شئ ترمز تلك الحارة، ومن هم هؤلاء الأولاد. وأول انتقاد جاء من أديب ريفي من شبين الكوم. قال أنها تسيء إلى الأديان السماوية. ووصفها الشيخ «الغزالي» بـ(التجديف والكفر)، وقال لو تم نشرها في كتاب أنه لن يصمت على ذلك. واتجه العديد إلى رفع قضايا ضد «نجيب»، ورفع شكاوى للأزهر ضدها.
أدت هذه الرواية إلى إثارة الجدل في المجتمع الذي رفض الرواية، خاصة أن رفض تلك الرواية كان من مؤسسة الدين الرسمية الأزهر. ارتبكت رؤية «عبدالناصر» التي تريد مؤسسات الدين الرسمية؛ والتي ترفض الجماعات الدينية في المجتمع.
وكان ارتباك «عبدالناصر» واضحًا في توجيهه أمر بنشر فصول هذه الرواية بشكلٍ يومي، إلى أن تنتهي بسرعة. ولإنهاء هذا الجدل تم تشكيل لجنة ثلاثية لمناقشة «نجيب» في الرواية، وكان يرأسها الشيخ «الغزالي»، وأبرز الحاضرين كان «سيد سابق».
وقتها تم اتفاق مع «عبدالناصر» بعدم طباعتها في مصر، وتمت طباعتها في بيروت إلا أنه لم يتم مصادرتها. وكان يرى فيها البعض أنها تدافع عن المثالية، والحرية إلا أن هذا لا ينفي تقديم «محفوظ» مثالًا جدليًا للرمزية في روايته، حيث كان إسقاطه مباشرًا و لا مبرر له في ذلك، وإن كان مبرره أن فن الرواية فن رمزي.
خرج «محفوظ» من الرمزية إلى محاكاة حياته السينمائية بكتابته روايته «اللص والكلاب»، وتناول ضحية الظروف الاجتماعية، وضحية الثقافة والإعلام، وضحية بنية المجتمع، كما تناول كيفية البحث عن الذات في عودة من محفوظ إلى مزج الواقع بالرواية.
محفوظ والسلطة
جاء في هذا السياق مقولة «غالي شكري» عن «محفوظ» أنه أشجع فنان، وأجبن إنسان. ومنذ ذلك الحين أدرك «محفوظ» واقع 1952، وبدأ في انتقاد «عبدالناصر» وسلطته. كتب في ذلك السياق روايته «ثرثرة فوق النيل»، والتي رصدت الفساد في القطاع العام، وحكم مراكز القوى، والتسلط والرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ.
تناول ذلك باعتباره مشكلة في أي مجتمع، ووُصفت الرواية بالعنف النقدي للنظام وقتها، وتم اعتقاله من منزله بالعجوزة من قبل الشرطة العسكرية. لكن هيكل وقف في وجه هذا القرار بحجة خطر ذلك على النظام لما وصل له «محفوظ» في نفوس الشعب كأديب جماهيري.
استطاع «محفوظ» التنبؤ بالهزيمة عام 1967، ولم يكن تنبؤه هذا تأريخًا للمستقبل، ولكن اعتبره صفارة إنذار للنظام. وعاد قلم «محفوظ» مرة أخرى ليتناول مرحلة جديدة في عهد الراحل «محمد أنور السادات». واستكمل «محفوظ» مسيرته الأدبية بحصوله على جائزة نوبل في الأدب عام 1988، إلى أن رحل في العام 2006، وترك «قشتمر» كحلقة أخيرة في سلسلة طويلة من روائعه.
مات «محفوظ» وترك مفاهيم، منها ما أتفق معه ومنها ما أرفضه رفضًا تامًا؛ إلا أن «محفوظ» ترك إرثًا ثقافيًا عظيمًا. وستظل مقولته راسخة في ذهني؛ (إن مشكلة البشرية كلها في الظلم.. الظلم يؤدي للعنف).