محطات من أدب الكوميكس: عودة «أحمد إبراهيم حجازي»
في رصيد الثقافة العربية علامات ماسية، منها جوهرة نادرة اسمها «أحمد إبراهيم حجازي» (1936–2011)، الذي جمع بين الفنون التشكيلية والفنون القولية في تكوينات واضحة وعميقة في آن واحد، من خلال أدب «الكوميكس»، المُقدم للأطفال في مجلات مصرية وعربية.
يتجاوز حجازي تجريد الكاريكاتير وتضخيمه للملامح الحسية، ويبدع رسوماته مستلهمًا الروح المصرية، بخاصة الشكل الدائري الذي يستوحي فيه قرص الشمس، وكعك العيد، ووجه الفلاحة الطيبة التي تستمر في تغذية دورة الحياة بكل ما تملك من خبرة وصبر.
وألوانه مبهجة مثل التشويق في القص الروائي، وحجازي في كتاباته القريبة من الأدب المسرحي بحكم أن «الكوميكيس» يستنطق الشخصيات بأصواتها في الغالب، يُعد أستاذًا في صياغة حبكة درامية متصاعدة ذات علاقة وثيقة بالسياق الاجتماعي، ولم يكتف حجازي بصناعة حبكة جذّابة بل كان قادرًا على إيجاد عناصر التشويق في قصته، لينهي كل حلقة منها بأسلوب يجبرك على انتظار العدد الذي يليه، لمطالعة الحلقة الجديدة، ليتجاوز حجازي أسلوب القصة الاعتيادي والمباشر.
الجراءة في تناول قضايا المجتمع
عاصر حجازي التيار النقدي الذي يجيد التقاط القضايا الاجتماعية، مثله مثل «عبد الله الطوخي»، وقد شاركه حجازي في رحلته النهرية التي سجّلها الطوخي في رباعية النهر، مُستحضرًا حجازي بشخصيته واسمه، و«إبراهيم أصلان» و«خيري شلبي»، وكلهم أدباء أخلصوا للتعبير عن مشكلات حقيقية نابعة من قراءة اللحظة التاريخية والظروف الإنسانية التي تمس كل فرد في سياقه الزمني، بالإضافة إلى «يوسف إدريس»، الذي يعد العلامة البارزة في هذه المرحلة.
معظم أعمال حجازي نُشرت في مجلة سمير المصرية في الستينيات والسبعينيات، مع جيل «اللباد» و«عبد السميع»، تحت إدارة «نتيلة راشد» (ماما لبنى)، قبل أن يستكمل العمل في مجلة «ماجد»، عائدًا بعد ذلك إلى «علاء الدين»، ثم منعزلًا في مدينته طنطا، لكن الأجيال التي قرأت له لم تترك أعماله موزعة، وإنما قامت بدور إيجابي في جمع هذه الأعمال أكثر من مرة، حتى صدر مجلد ضخم يحتفظ بأعماله كما نشرت في زمنها بحجمها وألوانها وعباراتها.
وهو عمل للصغار والكبار، يصلح للقراءة عبر الفترات الزمنية المتلاحقة بكل متغيراتها، لأنه ُيصوِّر الاستغلال والنفاق والتحايل، وهي أمور تتسم بها منظومات الفساد الاجتماعية عبر العصور في كل الثقافات، سواء أكان المجتمع رأس ماليًا أو اشتراكيًا، ولعل النقد الموجه في ثنايا قصصه كان قاسيًا جدًا، ففي قصة مثل «تنابلة الصبيان وتنابلة الخرفان»، والتي تعد درة أعماله الرائعة في هذا المجال، فقد عبّر فيها استغلال عصابات النهب للشعارات القومية بتدمير الصناعة المحلية ووضع عبارة صنع في مصر على منتجات استهلاكية مستوردة في أماكن هامشية بالعالم، وهو أمر في غاية الجراءة من حجازي.
واقعًا مُعززًا بالخيال
لقد منح حجازي الطفل دوره للمشاركة في كشف هذا الزيف، من خلال شخصية البطل الشعبي «سمير»، الذي يحمل اسم المجلة، وهذا أمر مهم في فن حجازي، فلم يقتصر إنتاجه على الشخصيات التي أبدعها، وإنما جعل عالمه مساحة للتفاعل بين شخصيات ابتكرها وشخصيات أخرى أبدعها زملاء له، وخير مثال على ذلك شخصية «زغلول أفندي»، التي ظهرت كبطل في قصة منفصلة مع التنابلة، كما ظهرت ظهورًا خاطفًا في قصة أخرى.
وقد شارك حجازي بعض المبدعين في عصره في إنتاج بعض من قصص التنابلة، منهم الشاعر والفنان التشكيلي «مجدي نجيب»، والفنان «عدلي رزق الله»، وهذا دليل على سموه الروحي وقدرته على العمل مع فريق بحكم نشأته الفنية في مدرسة روز اليوسف.
كان لحجازي إسهامه الواضح في قصص الخيال العلمي للأطفال من خلال مسلسلته الطويلة «سكان القمر»، التي واكبت فترة غزو الفضاء، وقدّمت هذا العالم للأطفال بما يحمله من مغزى سياسي واجتماعي من هذه الرحلات العلمية، وأضاف إلى ذلك أيضًا قصة «النسر المسحور»، والتي مزج فيها الخيال العلمي بالمعتقدات الشعبية. فقد وظّف حجازي الخيال العلمي بشكل لم يكن يمنعه من وضع لمسات من البيئة الواقعية، فنجد القرية المصرية بكل ما فيها من واقعية تتقاطع مع عالم حجازي ليقدم لنا واقعًا مُعززًا بالخيال.
أستاذ في فن التنمية الجمالية
إن حجازي الذي هجر أسرته، تاركًا خلفه خطابًا قصيرًا كتب فيه عن رغبته في تحمل مسئولية نفسه حتى لا يكون عبئًا على أسرته، عندما رسم شخصياته، رسم شخصية التنابلة الكسالى الانتهازيين الذين لا يرغبون في أي عمل، ورغم كرهه الداخلي لهذه الصفات، إلا أنه قرّر ألا تكون شخصياته قاتمة سوداوية، بل كانت الكوميديا سمة أساسية فيها.
إن موهبة حجازي الاستثنائية منحته مقعدًا خاصًا باسمه ضمن مُبدعي الكوميكس، لما لا وهو لا يقدمها للأطفال، بل لكل مُتلقٍ قادر على فهم شخوصه، التي تبدو بسيطة، وإن كانت تخفي خلفها عمقًا كبيرًا.
كما تجاوز حجازي في أدب الطفل مفهوم النصح والخطاب المباشر وربط العاقبة الأخلاقية بالسلوك الفردي والاجتماعي غير السليم، فكان له موقفه الناضج في تحرير عقل الطفل من مفهوم الحكاية الشعبية التقليدية، وغرس بذور درامية تستطيع أن تطرح أشجارها في وعي الطفل، ليتمكن بعد ذلك من فهم الدراما والتعليق عليها ونقدها، لذلك فهو أستاذ في فن التنمية الجمالية وتعليم الدراما دون مباشرة، وهذا ما حبّبه إلى القارئ، الذي ما زال يحتفظ بأعماله ويبحث عنها ويحاول الحصول عليها أينما وجدها.
إن حجازي ثروة فنية إنسانية تركت خطوطه وألوانه وعباراته في فضاء الثقافة العربية مساحات يستلهمها أبناء له إلى الآن، سواء أعلنوا أنهم من مدرسته أم أنكرو ذلك.
يُحسَب لمشروع الفن التاسع إصدار الأعمال الكاملة لحجازي، والتي عانينا كثيرًا للوصول لها، ويُحسَب أيضًا للفنان شناوي القيام بتحرير وتصميم الكتاب، وقد اكتشفت من خلال هذا الإصدار بعض القصص والرسومات التي لم أكن أعرفها للعظيم حجازي، لأكون مع موعد جديد مع بهجة رسوماته وجمال أفكاره.