ستانلي كوبريك: كبيرهم الذي علمهم السحر
ربما يعجز أي تقرير عن تغطية مسيرة «ستانلي كوبريك»، الكتابة عن كوبريك هي مخاطرة شديدة، فكيف نغطي مسيرة واحد من أكبر المساهمين في تشكيل السينما الحديثة، وكيف نستطيع كتابة نبذة مختصرة في بضعة سطور عن كل فيلم من أفلامه؟ فالكتابة عن كل أعمال كوبريك تستحق دراسة طويلة الأمد.
من أي زاوية سنتناول كوبريك؟ هل سنتناول فلسفة كوبريك السينمائية، أم كوبريك المخرج الذي تأثر بأساليبه أعظم المخرجين الآن «كرستوفر نولان» و«بول توماس أندرسون» و«ويس أندرسون» و«كوانتين تارنتينو»، أم كوبريك السياسي المناهض للسياسة الأمريكية والنظم الفاشية؟ أي كوبريك فيهم؟ وهل الكتابة في أحد تلك الزوايا سينهي هذا الشعور بالعجز؟ بالتأكيد لا. لن يسعفنا في هذا التقرير سوي الكتابة عن ثلاثة من أفلامه نحاول عرض بعض جوانبها الفلسفية بأبسط أسلوب ممكن وبنبذة مختصرة قدر الإمكان، ثلاثة أعمال تنوعت ما بين عمل عن الحرب، وعمل عن الإنسان الحديث، وعمل عن تيه الإنسان في الكون.
Dr. Strangelove: كيف تعلمت أن أحب القنبلة
«دكتور سترانجلف» مسؤول برامج تطوير الأسلحة الأمريكية، لم يظهر في الفيلم سوي في ثلاثة مشاهد، ومع ذلك نجد أن اسم الفيلم متكون من شقين، الأول هو اسم أقل الشخصيات ظهورا في الفيلم دكتور سترانجلف، وهذا الاسم مكون من كلمتين ترجمتهم «الحب الغريب». لماذا الاهتمام بدكتور سترانجلف؟ الشق الثاني من عنوان الفيلم يفسر لك هذا السبب «كيف تعلمت أن أتوقف عن القلق وأحب القنبلة»، نعم حب غريب حقا.
هنا يركز كوبريك مضمون الفيلم ومفاهيمه في تلك الشخصية نادرة الظهور، ومع ذلك هي الأكثر تعبيرا عن الحالة الشعورية للعالم والقادة العسكريين والساسة أثناء الحرب الباردة، فصفات شخصية سترانجلف الغريبة الهزلية وإصابته بشلل رعاش ويده اليمني التي لها إرادة مستقلة عن بقية جسده، بالإضافة لحالة النشوة والاشتياق والإعجاب والانبهار بفكرة أن العالم سينهار، هناك قنبلة من طراز جديد ستفجر من قبل الاتحاد السوفيتي، هذه القنبلة ردا على إرسال أحد القادة العسكريين الأمريكيين الرؤوس النووية لتدمير الاتحاد السوفيتي، قنبلة السوفيت الجديدة لن ترد بضرب أمريكا فقط بل ستدمر الكرة الأرضية، وهذه القنبلة تعمل بشكل تلقائي ولا يستطيع أحد إيقافها، بمجرد شعورها بقصف نووي للأراضي السوفيتية تنهي الحياة على كوكب الأرض.
خبر مرعب ولكن ليس لدكتور سترانجلوف التي مثلت له هذه القنبلة حلم حياته ومصدر نشوته وإعجابه فهو تعلم أن لا يقلق ويحب القنابل، فتلك هي الحكمة والمضمون الذي لم يدركه أطراف الحرب الباردة، وفي مشهد مبهر نجد دكتور سترانجلف برغم شلله يستطيع الوقوف فرحا عندما انفجرت تلك القنبلة.
هنا عبر كوبريك بأسلوب ساخر على أفعال القادة السياسيين والعسكريين باعتبارهم أشخاص مختلون سيؤدون بجنونهم لانهيار العالم في زمن الحرب الباردة، بالإضافة لامتلاكهم رؤية أيدولوجية يوجينية الطابع ترغب في الحفاظ على الأقليات الغنية الذين يروهم الأكثر ذكاء واستحقاقا للحياة. اقتراح دكتور سترانجلوف الذي آمن به الجميع سوفيت وأمريكان يقتضي بعمل سلسلة من الأنفاق تحت الأرض مجهزة بماء وطعام يكفي لعقود إلي أن تختفي آثار النظام النووي المخيف، وسيعيش في هذه الأنفاق خير البشر من الأمريكان والسوفيت «أجمل النساء وأقوي الرجال»، وبذلك يستطيعوا الحفاظ على النقاء النوعي للجنس البشري.
الفيلم من إنتاج 1964م، وهنا كوبريك لم يصف المصيبة بعد انتهائها أو خفوتها ولكنه تحدث عنها بتلك اللهجة الساخرة الغاضبة الناقدة أثناء الحدث نفسه، مخرج لا يمتلك سوي إبداعه وسخريته في مواجهة جنون العالم، الغالبية العظمى من الشعب والساسة والعسكريين الأمريكيين يتحدثون عن خطر الشيوعية والحرب النووية المتوقعة وضرورة التكاتف لمواجهة هذا الخطر، والإخلاص للقوات العسكرية الأمريكية والتطوع لها، لا مجال للاعتراض أو التمرد أو الخروج عن هذا التوافق، ومع ذلك يأتي كوبريك بسخريته من رموز النظام العسكري والساسة، ويقول لهم ما أنتم سوي مهرجين نازيين تسعون لخراب العالم.
A Clockwork Orange: حينما يفقد الإنسان الاختيار
أفلام كوبريك الوجودية تبدأ غالبا بالعنف المفرط، المشهد الأول في «2001: A Space Odyssey» حيث يمارس البشر الأوائل العنف ضد بعضهم من أجل البقاء، يتكرر الأمر مع فيلم «clockwork orange» ولكن هذه المرة مع الإنسان المستقبلي الذي يمارس نفس العنف المفرط، مشبع بثلاثية العنف والجنس والمخدرات كعادة الشباب الأمريكي في الستينيات، هذا هو الإنسان بالنسبة لكوبريك العنف مكون إنساني أصيل، يمارسه بدون إدراكه وبمستويات مختلفة.
«ألكس» وهو بطل العمل الذي يصحبنا في رحلة العنف المتبادل بين عناصر المجتمع وبعضه، شاب لا يفتقد للرقي، بل لم يرد كوبريك سوي تأكيد صفة الرقي من خلال إظهار حبه لموسيقى بيتهوفن، ما سبب حب ألكس للعنف؟ هو ليس قاعدة شاذة يستعرضها كوبريك بل يؤكد في كل مراحل الفيلم أن ألكس هو الراوي الذي نرى تلك الأحداث العنيفة من خلاله. حيث نرى ممارسته العنيفة ضد الفئات الأضعف من النساء والمسنين ومحاولة السيطرة على أصدقائه، ويحاول أصدقائه ممارسة العنف ضده كذلك.
ألكس وأصدقائه يتعرضون للعنف أيضا، نري ألكس يقبض عليه ويدخل السجن، وداخل السجن يتعرض لبرنامج شديد القسوة يفقده حرية الاختيار في أن يكون مواطن خير أو شرير، رغبة الدولة الفاشية في وجود إنسان آلي لا يستطيع ممارسة الجريمة ولا حتي يحاول الدفاع عن نفسه والجريمة تمارس عليه، وبعد خروجه من السجن تمارس أسرته عنف نفسي عليه حيث تقوم بطرده من منزله، وأثناء بحثه عن مأوى يكتشف تعيين أصدقائه في جهاز الشرطة في أطار برنامج الحكومة الذي يعين الشباب ذوى الميول العنيف في جهاز الشرطة من أجل ضبط المجتمع، ثم بعد ذلك يمارس على ألكس العنف من قبل الساسة في موسم الانتخابات ومحاولة كل جماعة استغلال ألكس لصالحها.
مهرجان من العنف المفرط يمارسه الجميع ضد الجميع، لا تعلم من الخير ومن الشر، هل يجب أن تتعاطف مع ألكس الذي رأيت إجرامه، أم تتعاطف مع الدولة التي تريد الحفاظ على هيبتها من ألكس وعنفه، أم تتعاطف مع الساسة أم تكره جرمهم، هل الإنسان عنيف حقاً لهذه الدرجة؟ ربما نختلف أو نتفق ولكن على كل حال هذه هي إجابة كوبريك:
يحتوي الفيلم على خيار فلسفي أخلاقي عن الإرادة الحرة، هل يفقد الإنسان إرادته الحرة حين يمنع عن الشر، ما معني الشر من الأساس؟ ولو لم يخير الإنسان لفعل الخير والشر هل يصبح إنسان، هل حالة البرتقالة الآلية مناسبة للإنسان؟ هناك العديد من الأجوبة وطبعا الإجابة الفاشية ستنحاز للقيم والأخلاق وفرضها على الإنسان، كما عرض كوبريك في الفيلم فحالة الآلية حالة فاشية في الأساس.
2001: A Space Odyssey: حينما يتضاءل الإنسان
فيلم «فضاء الأوديسا» لا يمكن قراءته من جهة واحدة، فالفيلم سيراه كل مشاهد من خلال خلفيته الدينية والأيدلوجية ورؤيته لمستقبل البشرية، وهذا جزء من عبقرية كوبريك في صناعة الفيلم، فبرغم وجود حكاية معروفة المعالم ولكن تفسير هذه الحكاية سيختلف وبشدة بل وبطريقة متضادة أحيانا من شخص لآخر.
فضاء الأوديسا هو فيلم يتحدث عن رحلة الإنسان في الفضاء الشاسع، دعونا ننظر جليا على عام إنتاج الفيلم وهو 1968م، وهي فترة التيه العام للإنسانية عندما اكتشفت ضآلتها في الكون سواء حجما أو تأثيرا، وفي تلك الفترة ازدادت الفلسفات العدمية والعبثية قوة، وأصبحت تستمد وجاهتها من ضآلة الأرض بالنسبة للكون وبالتالي الوجود الإنساني، هذه العدمية هي التي مازالت بطريقة أو بأخري مسيطرة على أفكار السينما الأمريكية سواء بشكل ظاهر أو خفي.
يبدأ الفيلم بمشاهد للإنسان الأول، الذي يشبه القرد إلي حد كبير ويعيش حياة شديدة الفقر حيث طعامه الوحيد هو الفواكه والخضراوات، يتعرض لغارات من الحيوانات المفترسة لا يستطيع الدفاع عن نفسه إلى أن يجد شيء يشبه القطعة الفولاذية، يخشي منها ثم يطمئن لها ويلمسها، بعد لمسها يكتشف الإنسان الأول الأدوات التي يستطيع الصيد والقتل بها، سواء صيد الحيوانات الأخري أو قتل رفاقه من البشر الأوائل. يلوح بالأداة التي في يده فتتحول تلك الأداة البدائية لسفينة فضاء، هكذا يري كوبريك تطور الأدوات في يد الإنسان وحجمها وجاهزيتها.
ينتقل الفيلم بعد ذلك للعصر الحديث حيث مركز الفضاء الدولي ونعلم عن اكتشاف المحطة لهذا الجسد الغامض «القطعة الفولاذية» والذي لم يعلنوا عنه خوفاً على البشر من معرفة الحقيقة، ثم يذهب مجموعة من رواد الفضاء لاستطلاع هذا الجسد وعندما يلمسوه ينتشر صوت غريب ومخيف. لا يظهر مصيرهم ولكننا ننتقل للمستقبل بعد ذلك في مهمة لكوكب المشتري، تتكون هذه المهمة من خمسة رواد فضاء ونظام ذكاء صناعي شديد التطور يتحكم في كافة أرجاء السفينة.
يطل كوبريك على تخوفات البشر من الذكاء الصناعي قبل أن تصبح تيمة مشهورة شبه متكررة سنوياً فكما تحولت الأداة البسيطة لسفينة فضاء تحولت بعد ذلك لنظام صناعي له وعي وقدرة وتفكير، ثم حيث يصاب نظام الذكاء الصناعي بالجنون ويقتل أربعة من رواد الفضاء ويستطيع الخامس النجاة والذهاب لمنطقة زرع هذا النظام لنزعه، وفي مشهد ربما يكون من أكثر المشاهد رعبًا وإرباكًا يقوم هذا النظام بترجي رحمة رائد الفضاء ومسامحته، ثم يفقد عقله نهائيا ويقوم بالغناء بصوت مرعب.
بعد ذلك ينتقل الفيلم للمشاهد الأخيرة وهو دخول رائد الفضاء الباقي في «فضاء الأوديسا» وعبوره في مكان غريب، مشهد يعتبر ثورة بصرية في ذلك العصر، يجد رائد الفضاء نفسه في مكان يشبه شقة عصرية ويجد فيها رجال مسنين، ثم طفل غريب لا أب ولا أم لديه ينتقل عبر الفضاء وبهذا المشهد الغامض ينتهي الفيلم.
الجسد الغريب الذي يظهر في العصور المختلفة ربما يرمز لدافع الإنسان للتطور الدائم، أما الطفل فهو ربما يرمز للإنسان الجديد الذي يتنبأ به كوبريك، القادر على السيطرة على الفضاء والتعامل معه مرة أخري بعد أن وجد نفسه ضئيلا معدوما.