يقف وحيدًا على رصيف المحطة — نصوص قصيرة
يوم الأربعين
مات «محمد الزمر» بائع الجرائد، فارتبكت حياة الأستاذ «حسن السبع»، وأصبح غير قادر على صيانة عادات هوّنت عليه سنوات المعاش. العادات في السنوات الأخيرة من العمر، تعمل كإطار يُسيِّج الحياة ويمنعها من الانفراط، لكن الموت يُنشِّط أيضاً، ويحمل الأصحاب والأحبّة إلى عالمهم الجديد، فيُحطِم سياج العادات ويضع شخصًا نمطياً مثل الأستاذ «حسن السبع» في مهب الريح.
من أيام الشباب عندما كان يعمل مدرس لحام في مدرسة الصنايع، كل مساء، لا بد- في طريقه إلى المقهى- أن يمر على «محمد الزمر» أمام فرشة الجرائد، وأحيانًا يأخدهما الكلام ولا يتمكن من الذهاب إلى القهوة. يتحدثان عن أحوال الناس من المعارف والأقارب والمشاكل التي تثيرها الزوجات والوصفات الجنسية، وطالما ضحك «حسن السبع» وعاير صديقه بأنه ليس له في النسوان لأنه لم يتزوج.
حديثهما يشمل كل شيء لكن الأحوال السياسية هي مركزه، حضرا معاً المحطات الرئيسية للتاريخ من أيام 1956، إلى دخول الأمريكان بغداد عام 2003، لكن «محمد الزمر» غدر به ومات في الشهر الماضي.
الشتاء على الأبواب، والدنيا تُغيِّم في عينيه، أحياناً تهب رياح فيتغبّر زجاج النظارة ويسير في الشارع على هدي الذاكرة. في القهوة يترك عصاه المُعوجة على ظهر الكرسي، ليحجز الترابيزة المتميزة بجانب زجاج النافذة، المطلة على ميدان الساعة، ويذهب إلى الزاوية القريبة يُصلي المغرب ويعود. تكون شلة الأصحاب قد جاءت ونصبت الطاولة، ينتظر دوره في اللعب صامتاً.
لم يعد قادراً بعد موت «محمد الزمر»، على صيانة تلك العادة التي تعطي لليوم مذاقه، وتمنحه الإحساس بأنه ما زال يعيش.
توقف ذات يوم عند الصيدلية ليشتري أقراص الضغط وبقية علاج التأمين. شاهد الكشك مفتوحاً والولد عصام ابن أخت المرحوم يلم الجرائد؛ فالهواء يهب وبدأت قطرات غليظة من المطر تهبط من السماء. مضى مُتمهلاً إلى المقهى دون أن يُمسِّي على الولد، تراوده أفكار كئيبة عن أن موت «محمد الزمر» جعل الحياة شاحبة ولا تستحق كل هذا العناء، وفكر في نفسه: لقد أصبح لا ضرورة له.
تزوجت البنات، ورغم أنهم يملؤون الشقة صخباً يوم الجمعة، فإنه لم يعد يطيق الدوشة ويشعر بالراحة عندما يغادرون في المساء. أحياناً يلوم نفسه على أنه ضجره، متسائلاً لماذا عاش؟ ولماذا هو هنا؟ يوم الجمعة الماضي شخط في الأولاد وقال لبناته: «لموا أولادكم وروّحوا بيوتكم».
قرّر أن يُغيِّر طريقه إلى المقهى حتى لا يمر على كشك الجرائد. جاء من شارع طه الحكيم ومرّ في شارع عزيز فهمي، وعبر من أمام محلات أطعمة تنشر رائحة الشواء والدخان في السكون والهجر الذي أصبحت فيهما سينما مصر، وعبر الميدان إلى المقهى، لكن تغيير الطريق بعث أحزانه، وبدا كأنه يهرب من الموت، فقرّر أن يعود إلى طريقه الأول من شارع المديرية الصاخب حتى لو تألم لأن «محمد الزمر» لم يعد موجوداً.
أحياناً يتحدث مع الولد عصام ابن اخت المرحوم بحكم العادة والحنين، وأحياناً يكون في مزاج عكر فينظر باتجاه الشاب، ثم يمر إلى المقهى.
يظل طيف «محمد الزمر» يلوح في خياله ويتذكر حديثه الشيق في السياسية. في حرب 67 هو الذي أخبره ما تقوله إذاعة لندن عن ضرب الطيران على أرض المطارات، وتحمّل منه السباب واللعن والاتهام بالخيانة، ثم بعد عدة أيام ظهرت الحقيقة فبكى على كتفه صديقه، وصالحه وخرجا معاً في مظاهرات رفض تنحي الرئيس.
وأيام حرب أكتوبر، أيام الفخر، كان يزف إليه خبر الطائرات التي تسقط، ما كان يمكن أن نعيش بعار 67، كان لا بد أن يحدث شيء حتى لو على سبيل الكذب. وبعد تلك الأيام الصاخبة، بدا أن النصر ليس شيئاً، وأن الحياة أصبحت سيئة أكثر من أيام الحرب، أحوال الناس تنحدر، و«محمد الزمر» يُصبِّر صاحبه على هموم المعيشة وتربية البنات. يقول لنفسه إن من حظه الطيب أن الزمر كان صديقه، ولكن الزمن لا يترك شيئاً على حاله؛ الزمن هذا الوحش غير المرئي يذيب الحياة ويبددها.
مرّ اليوم أربعون يوماً على موت صديقه، وها هو يجلس وحده بجانب عصام في غرفة الجلوس، يسمع أخت المرحوم في الداخل، تُكركِّب في الشقة. الله يرحمه، يوم الأربعين، روحه عبرت اليوم من الحساب.
خرج من بيت الزمر. الظلمات كثيفة في الشارع كأن النور مقطوعاً، عبر إلى ميدان الساعة الصاخب ولم يجد رغبة في دخول المقهى، فرجع إلى البيت مُتعباً، خلع ملابسه وارتدى البيجامة وجلس يشاهد التلفزيون ويُصبِّر نفسه مازحاً:
جاذبية التدخين
كان حلم «أحمد مصطفى» أن يدخل كلية الهندسة. ظهرت نتيجة الثانوية العامة، وخذله المجموع. لم يصدق ما حدث. بدا مصدومًا كأنه تعرّض لخيانة، دبّرتها يد خفية حتى تحرمه من مستقبل خطط له بشغف. لم يتمكن على البقاء في البيت ولا لقاء أصحابه. ظلّ يدور في الشوارع بلا هدف، من الصباح حتى المساء. في النهاية تعب، بعد أن نزع المشي الطويل من الصدمة سطوتها، وبدا على وشك أن يتقبل الأمر، مُفكراً أن يتحدى سوء حظه وأن يعيد السنة ليحصل على مجموع يؤلهه لأن يصبح مهندساً.
رأى مقهى صغيرًا في حارة ضيقة بين شونة للخشب وعمارة قديمة، توجّه إليها كأنه مجذوب، وعلى مقعد خشبي جلس، ودون أي تدبير طلب شيشة، كانت أول مرة في حياته يُدخِّن.
بعد مرور عدة أشهر، هدأت الزوبعة، وبدأ يتقبل الأمر الواقع. دخل كلية التربية قسم الرياضيات، ونسى إعادة السنة والحزن والرغبة في أن يكون مهندساً، وبقيت تصاحبه، منذ ذلك اليوم، عادة تدخين الشيشة، كأنها علامة باهتة على ذلك اليوم البعيد الذي تغيرت فيه حياته.
عمل في أول تعينه مُدرِّساً للرياضيات في بلدة قريبة من المدينة، وصاحب شباب البلدة وسهر معهم، ذات يوم، في مزرعة دواجن يُدخِّن الحشيش حتى انخفض ضغط دمه وكاد يموت. بعد ذلك قابل فتاة تخرجت حديثاً في كلية التربية النوعية، لها فلجة في أسنانها وتنطق حرف السين ثاء، أحبّها وتزوّجها. أنجب الآن بنتان وولداً، ويعمل مدرس أول رياضيات فخوراً بأنه يحل أعقد المسائل، وأنه أشهر مدرس رياضيات في المدينة.
أغتنت خبرة التدخين بمرور الوقت بترقبه للمساء، بعدما ينتهي من الدروس الخصوصية، ومن هموم الحياة المنزلية، وأصبح مشوار المقهى «واحة اليوم»؛ لا يحمل فقط حساً بالصفاء والتخلص من الضغط، بل يشبه تنهيدة بأنه يوماً من الأيام المرهقة قد مر.
ظلّ ذهابه إلى المقهى في نهاية كل يوم، نداء لا يمكن تغافله، له سر وجاذبية لا يستطيع مقاومتها، يمكن أن يتحمل كل شيء من أجل أن يجد نفسه في نهاية اليوم يجلس على رصيف المقهى، يُدخِّن.
عَشِق لحظة التدخين ورائحة الدخان، وتَصاحب مع روّاد المقهى، ثم غيّر المقاهي وعرف أناساً آخرين، وكل يوم ينتظر بشوق أن ينتهي من آخر درس من دروسه الخصوصية، لكي يحتفل بهذا السرب من الأحداث الهشة، التي ترفرف حول مجرى الحياة، وتُشكِّل هامشاً جذاباً للحظات صغيرة، يتكئ عليها لكي يواصل الحياة.
الخط مغلق
في السابعة مساءً، أذان العشاء يأتي من الزاوية القريبة خشناً، تقول لنفسها ألا يجدوا غير هذا الصوت الخشن ليؤذن؟ تدرك أنها متوترة وأن الصداع الذي يمسك رأسها في المغرب علامة على التوتر، كما قال لها الدكتور محمد. لو تتوقف عن الخوف والتوتر، لكن ما باليد حيلة، خلقة ربنا.
لبست نظارة القراءة وطلبت رقم أخيها مرة أخرى. أعلن الصوت الآلي أن الموبايل خارج الخدمة، وينصح بالاتصال في وقت لاحق.
قالت غاضبة:
– متى يجيء الوقت اللاحق؟ منذ ثلاثة أيام اتصل به وتليفونه مغلق.
جاءت مي ابنتها من غرفتها، قائلة:
– ثالث مرة تأخذي مسكن يا ماما؟
– الصداع هيكسر دماغي.
قامت لتصلي العشاء وعادت إلى الكنبة وطلبت من نفسها الهدوء، لن تقول له خبراً يُحزنه، سوف تزف إليه أخباراً طيبة، لقد هرب من المدينة وسكن على أطراف الصحراء، حتى يتخلص من الهموم، ترك بيته وهجر إخوته حتى يجد الراحة من الهموم، لو أستطيع أن أقول له إن الهموم لا علاج لها غير أن نصاحبها؟ لو أتمكن من الحديث معه؟ سوف أقول له إن ابن أخيه أخذ جائزة عشرين ألف جنيه في مسابقة علمية وهو في التاسعة من عمره، وأستاذ من كلية الهندسة سوف يتبناه، أخبار مفرحة، لا بد أن يفتح الموبايل، هو يستحق منّا أن نزف إليه خبراً مُفرحاً بعد أن أغرقناه في مشاكلنا وهمومنا، لكنه واجبه، إنه واجبه، هو مثل الأب عليه رعايتنا.
أدارت الرقم لتجد نفس الرد.
نادت غاضبة:
– يا بت يا مي… بلّغيه على الفيس أو إنستجرام أو أي نيلة من بتاعتكم… قولي له افتح الموبايل… الزفتة أختك هتقولك أخبار حلوة.
تذكرت وجهه عندما حاولت الحديث معه عن مشاكلها مع زوجها وصوته الواهن وهو يقول:
– اعتبروني مت يا أختي، اعتبروني ميت.
– بعيد الشر، بلّغيه حالاً يا مي، وإلا هقوم آخذ عربية وأروح له.
يقف وحيداً على رصيف المحطة
تحركت الجموع، عندما وصل القطار. حملت «هديل» الحقيبة، وفي لمحة رأت الوجه المستطيل والشعر الخشن الشائب، يحمل حقيبة ويهرول باتجاه عربة القطار. تعرف هذا الوجه. ظهرت فتاة تسير خلفه، عرفتها، «ناهد» زميلتها في المدرسة التجريبية، وحضرت صباحات قديمة إلى خواطرها، وهي تحاول أن تجد عربتها ولا تفقد الرجل الذي يحمل الحقيبة.
من أيام «كي جي» وهو يمشي بنفس الطريقة المُهرولة، زمان عندما كانت المدرسة في نهاية شارع الجلاء عند كوبري فاروق، كان يأتي في الميعاد يركن سيارته «الفيات» القديمة ويحمل حقائبهما ويضعها بتؤدة في شنطة السيارة ثم يركب «عبدالله» بجانبه و«ناهد» في المقعد الخلفي.
أبوها لم يحمل عنها الحقيقة أبداً، يقول إنها حقيبتها، إنها قادمة وهو راحل، لا بد أن تتعلم حمل حقيبتها. ظلّت مقتنعة بهذا الكلام. اليوم تشعر بشك في هذا وهي تجلس في مقعدها بجانب النافذة وترى والد «ناهد» يضع حقيبة ابنته فوق الرف ويغادر العربة قبلما يتحرك القطار، ويقف في مواجهة النافذة، وجهه حزين وشعره الشائب أضفى عليه سحراً، وبعد أن كانوا في المدرسة التجريبية يسخرون منه، أصبحت وقفته وحيداً على الرصيف، مؤثرة جداً، وأخذت «هديل» تتعاطف معه، خاصةً أنها تمنت اليوم عندما نزل أبوها ليُركِّبها التاكسي من أمام البيت، أن يصحبها إلى المحطة، فقد كانت السماء غائمة والدنيا توشك على المطر، ولم يكن في شارع «بطرس» مخلوق، وبائعة الجرائد ترص الصحف في صفوف قبل أن ينتشر ضوء الصباح.
منظر الأب على الرصيف أثار ذكريات قديمة جداً وحزن عميق تفتّح لأول مرة، ربما نقمة لأنها ترُكت وحيدة على هذا النحو، تسافر كل أسبوع إلى القاهرة، تعمل في شركة برمجة.
كانت «ناهد» دائماً الأولى على المدرسة وهي الثانية، وكان أبوها يُعايرها بأن هناك منْ هو أشطر منها، لكنها الآن فهمت السر؛ لم تهتم بأن تكون الأولى، لكن ما كان بمقدورها أن تتخلف عن المركز الأول لو أن أباها مثل هذا الرجل الذي يقف وحيداً على الرصيف.
كان طبيباً عمل في السعودية عدة سنوات، ثم عاد وترك الطب وتفرغ لتربية ناهد وعبدالله، والآن هما طبيبان. قد تكون ناهد مسافرة لتحضر مؤتمراً، لم ترها من سنة ثانية ثانوي، عندما دخلت –بعمد- قسم الرياضيات حتى توقف معايرة أبيها وتفك الارتباط بينها وبين ناهد.
لم ترها لسنوات طويلة، لم تتقاطع طرقها إلا في هذا الصباح الشتوي والأب يقف على الرصيف مُنتظراً، والبسمة الخافتة المستغرقة تشع من كل ملامح وجهه.
قضت اليوم في عملها، يباغتها الوجه الحزين بشعره الشائب المُغبَّر، مُنتظراً أن يتحرك القطار، يفلت تركيزها وتجد الرجل لا يزال منتظراً على رصيف المحطة كأنه سيبقى في مكانه على هذا الشكل حتى تعود ناهد من رحلتها. الانتظار منحه نوعاً من السمو.
في آخر اليوم وهي تغادر المكتب، وتركب السيارة بجانب زميلتها، تشعر بالبرد وتفكر ماذا ستأكل اليوم؟ أدركت أنها كرهت طريقة أبيها في الحياة، رغم اقتناعها بأنها الأفضل، تذكرته وهو يقول:
– الألم سيعلمك.
لا تريد أن تتعلم إن كان الألم هو الثمن، ولاح لها انتظار والد ناهد، الذي ظل يشع طول اليوم بالغموض واللامعنى، وهي تقف في السوبر ماركت تُقلِّب في عبوات البسلة المُجمدة، به سمة رفيعة، تفوق كل ما قدمه لها أبوها طول عمره، وخُيِّل إليها أنه سيبقى هكذا على الرصيف لليوم التالي حتى تعود ناهد من رحلتها.
بعد عشر سنوات
يجلس في مكتبه يدخن. يشعر بهدوء نادر يغمر روحه. رائحة العطر لا تزال تسري في المكان، بعدما غادرت المكتب، منذ ساعة تقريباً وهو ما زال يشعر بوجودها. كانت خطيبته في يوم من الأيام، وكان على وشك الموت يوم فسخ الخطوبة.
مرت عشر سنوات على ذلك اليوم البعيد. يدخن ويقلب في الأوراق التي تركتها له من أجل أن يرفع لها قضية طلاق. كيف كان سيموت من أجل هذه المرأة ذات يوم؟
لقد تهاون في حقه، كان يريد أن يتخلص من الألم فحسب، فلم يحصل على كل ما دفعه غير بقايا «الشبكة»، لكن الألم ظل يبرق ناصعاً من حضورها، واقفة في غرفة الجلوس بثوبها المنزلي وشعرها الأسود الفاحم يتأرجح، وتقاسيم جسدها المرن اللدن متناسق بطريقة معذبة.
قهره جمالها في ظلمات ظهيرة من ظهيرات الصيف، موشاة بضي شمس يتوهج خلف النوافذ المغلقة، وظل صداه عائشاً معه فترة طويلة يبرق خلف كلماتها:
– لا أريدك. أنت لا تصلح لي.
منذ ساعة كانت تجلس هنا، تتحدث بصوت خافت وقد ازدادت بدانة ووجهها كساه الحزن والغضب، وجمالها ما زالت آثاره باقية، لكنه لم يعد يخصه، لم يظهر أبداً أنها نفس الفتاة التي وقفت في غرفة الجلوس، وسمّمت روحه بكلمات يشق صداها المؤلم طريقه أحياناً إلى وعيه.
ذلك الألم القديم خفت حدته مع الأيام وأصبح بارداً، طيباً. لم يعد يخص المحامي الكبير، ولا تلك المرأة التي جلست منذ ساعة أمام مكتبه.
ألم تلك الظهيرة مُعلَّق في الفضاء، ألم عام، مجرد، يخص كائنات أخرى غيرهما. صحيح أنه من الصعب نسيان الآلام نسياناً تاماً، غير أنها تصبح أحياناً خفيفة، تغمر القلب بدفء به مسحة من التشفي، مثلما يحدث له الآن وهو يقود سيارته في شوارع المدينة الخالية في منتصف الليل.