مراحل التقارب الأمريكي – الإيراني
يبدو أن المنطقة الشرق أوسطية كانت على موعد مع «الربيع الإيرانى» مع سحب آخر الجنود الأمريكان من العراق لولا اندلاع الثورة السورية التي هزت عرش الحليف الأول لإيران في المنطقة، وما تبعها من ظهور تنظيمات جهادية على عداء بيّن مع الجمهورية الإيرانية لأسباب عقدية بالأساس.
الكثير من المتابعين ينظر إلى المساعي الإيرانية لبسط نفوذها الإقليمي على أنه إعادة لرسم الخريطة السياسية للمنطقة، الأمر ذاته هوّن منه البعض؛ وسواءٌ كان حجم التغير السياسي كبيراً أو صغيراً، فإن المنطقة العربية بأكملها تفور على فوهة بركان لا يمكن استشراف مآلاته. ولعل التغير الواضح فى السياسات الإيرانية الخارجية في عهد الرئيس -الإصلاحي- حسن روحانى مع المجتمع الدولي، وتباين مواقفه الدبلوماسية مقارنة بسابقه، ليس بالأمر الذي ينبغي أن يمر على الباحثين و المتابعين مرور الكرام.
وفيما يلى نستعرض أهم المراحل التي مرت بها العلاقات الأمريكية-الإيرانية.
محاولات خجولة: ما بعد الحادى عشر من سبتمبر
بالرغم من أن إيران قد تخلّت عن سياستها فى تصدير الثورات مع نهاية الثمانينات، إلا أن دعمها لحزب الله والمقاومة الفلسطينية قد بات من ثوابت سياستها الخارجية.
الحقيقة أيضاً أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم تُفضِ إلى تغير جذري في السياسة الخارجية الإيرانية، ولم تُستأنف العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية بالرغم من بداية حوار خجول مع انتخاب الرئيس الإيراني «سيد محمد خاتمي»، غير أن ما حدث عقب تلك الأحداث قد صبّ في المصلحة الإيرانية حيث جرى كنس أعظم التهديدات الإقليمية لإيران، نظام طالبان في أفغانستان، وصدام حسين في العراق.
ولم يكن مُستغرباً أن يكون التصريح الأول للمرشد «خامنئي» عقب سيطرة قوات التحالف الأمريكية-البريطانية على بغداد عام 2003 هو: «نحن مسرورون». وهو خطاب بدا مغايراً لخطاب زعماء المنطقة آنذاك. فوق ذلك بدت إيران الأكثر استعداداً بين دول المنطقة للحلول محل النظم التي جرّفتها الحرب، فبدت كأنها المنتصر الأول في تلك الحرب، وكان أول من زار العراق بعد الحرب من زعماء المنطقة الرئيس الإيراني «أحمدي نجاد» في مارس/آذار 2008.
عملت إيران في الداخل العراقى على محورين أساسيين: أولهما تقوية النفوذ الإيراني فى عراق ما بعد الحرب، وثانيهما الحيلولة دون نشوء عراق قوي من جديد. أما فيما يخص الشأن الأفغاني، فقد عقدت الإدارة الأمريكية عدة لقاءات بنظيرتها الإيرانية لبحث سبل التعاون للقضاء على نظام طالبان وتشكيل حكومة جديدة لا تشكل خطراً على كليهما.
وفي هذا السياق قال السفير «جيمس وبينز» رئيس الوفد الأمريكي، عن نائب وزير الخارجية الإيراني في ذلك الوقت «جواد ظريف» -وزير الخارجية الحالى-: «تمكن ظريف من تحقيق الانفراج النهائي الذي من دونه لم يكن ممكناً لحكومة كرزاي أن تتشكل».
على الرغم من أن إيران لم تكن على علاقة مباشرة بما حدث في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بل وأبدت موقفاً متعاوناً حينها، وعلى الرغم أيضاً من هذه التغيرات الإقليمية، وجدت إيران نفسها في عزلة أكبر وجرى وسمها بأنها تنتمى إلى «محور الشر» على لسان الرئيس الأمريكي «جورج بوش» الابن في خطابه عام 2002، بعد بضعة أسابيع من عمل الدولتين المشترك في أفغانستان؛ الأمر الذي بدا للجانب الإيراني تهديداً واضحاً لاسيما و أن الحضور الأمريكي العسكري بات محاصِراً للجمهورية الإسلامية شرقها من أفغانستان وغربها من العراق.
غير أن المقاومة التي لاقتها قوات التحالف في العراق جراء المعارضة المسلحة التي دعمتها إيران بشكلٍ انتقائي حالت دون التهديد العسكري الحقيقي لإيران التي فضّلت التنازل والصمت حيال المساعي الأمريكية لزعزعة أمنها واستقرارها.
تقليم الأظافر: أحمدي نجاد
بعد هزيمة الإصلاحيين في إيران 2005 بعد فترتين رئاسيتين لمحمد خاتمى، أدى الصراع ما بين الإصلاحيين والمحافظين إلى فوز محمود أحمدي نجاد. وربما كانت لهزيمة الإصلاحيين أسباب متعددة، منها بلا شك تردي الوضع الاقتصادى ونقمة الرأي العام على الفساد الذي استشرى في الطبقة الحاكمة للجمهورية الإسلامية في عهد رفسنجاني وكذلك خاتمي، وربما أيضاً ضجر الشارع الإيرانى من محاولات الإصلاحيين البائسة للتقارب مع الولايات المتحدة والتي قوبلت بمزيد من الحصار الاقتصادى وتصاعد النبرة العدائية من الجمهوريين الأمريكيين.
ربما يدل على هذا المزيج الاجتماعي-السياسي بأنّ الشعب الإيراني أتى باليمين الراديكالي في تشريعات 2004 إلى مواقع السلطة المتعددة (البرلمان، مجلس صيانة الدستور، مجلس تشخيص المصلحة العليا للنظام، موقع المرشد) وكان نجاد هو اللبنة التي أتمت بناء السلطة اليمينية في انتخابات الرئاسة 2005.
ظهر نجاد شعبويًا أكثر منه إسلامويًا، وكان أشبه برؤساء أمريكا اللاتينية الشعوبيين، وبدا خطابه الأعنف والأكثر راديكالية منذ الثورة الإيرانية 1979. فعلى الصعيد الداخلي كان مؤيداً لولاية الفقيه والعودة إلى قيم الثورة وضرورة السعي نحو تحقيق عدالة اجتماعية ومكافحة الفساد، وكانت أولى أولوياته التخلص من المافيا النفطية.
وعلى الصعيد الدولي، تمسك نجاد بالحق الإيراني في المشروع النووي وتخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية، ولم يُبد في هذا الشأن أي نية للتفاوض، كما تحدث عن طموحه في القضاء على إسرائيل ودعمه الواضح لقوى المقاومة الفلسطينية وحزب الله في الجنوب اللبناني، وتكررت كلمة الشيطان الأعظم في خطاباته عن أمريكا وإسرائيل.
اتخذت العلاقات الأمريكية-الإيرانية المنحنى الأكثر تعقيدا بعد الثورة، ورفضت إيران الانصياع لطلبات مجلس الأمن بوقف تخصيب اليورانيوم فتبنى مجلس الأمن فرض سلسلة من العقوبات الاقتصادية لردع إيران ودفعها للانصياع لقرارات المجلس. وتلقى الاقتصاد الإيراني في عهد نجاد ضربات موجعة؛ حيث فرضت الولايات المتحدة عقوبات قاسية على البنوك الإيرانية وحظرت التعامل معها من قبل أي جهة خارجية وتحت أي مسمى. كما ادّعت الإدارة الأمريكية أن الحرس الثوري الإيراني يعمل على نشر أسلحة الدمار الشامل، وحظرت التعامل مع شركات النفط الإيرانية -كما هو معلوم، يقوم الاقتصاد الإيراني على تصدير خام النفط.
ومع تزايد العقابات التي طالت شركات خارجية اتُهمت بتعاملها مع شركات إيرانية محظورة، ضاق الخناق المفروض على الاقتصاد الإيراني وعاش الشعب الإيراني سنوات عجاف مع الرئيس أحمدي نجاد، وهو ما دفع الشارع الإيراني لانتخاب حسن روحاني كإصلاحي يمكنه العمل على إصلاح العلاقة الإيرانية بالمجتمع الدولي وإنقاذ المجتمع الإيراني من براثن العزلة المفروضة عليه جراء مواصلته العمل على مشروعه النووي.
الربيع الإيراني.. المرتقب:
حديثاً نشرت صحيفة الجارديان البريطانية مقالاً للكاتب والمؤرخ البريطانى مايكل أكسورثى ينتقد فيه السياسة الأمريكية المتبعة فى الشرق الأوسط تحت عنوان «هل آن الأوان لنعادى السعودية ونصادق إيران» (قمنا بترجمته:هنا)! ربط «أكسورثى» التنظيمات المتطرفة بمشاربها الوهابية السعودية، وعلّق منتقداً قصر نظر رجال السياسة الغربيين في تحالفهم مع السعودية من أجل صفقات السلاح في حين أنها تمثل بؤرة الإرهاب في الشرق الأوسط الذي يهدد المصالح الغربية الاستراتيجية المرتبطة باستقرار المنطقة.
من الواضح أيضاً أن روحاني أدرك حاجة الشعب الإيراني إلى التخلص من الأعباء الاقتصادية التي أثقلته بها سياسات الرئيس السابق أحمدي نجاد بمواقفه المتطرفة وصلابته التي أبداها في التعامل مع متطلبات المجتمع الدولي فيما يخص الملف النووي الإيراني والملفات الشائكة الأخرى. وصرح روحاني ضمن حملته الانتخابية قائلا:
ألقى روحانى بعض الإشارات التي توحي برغبته الملحة في رأب الصدع الإيراني-الأمريكي لأكبر درجة ممكنة، فأعقب اختياره رئيساً للجمهورية الإيرانية بتغيير وزير الخارجية وتعيين محمد جواد ظريف، ونقل الملف النووي من مجلس الأمن القومي إلى وزارة الخارجية. التقى ظريف بنظيره الأمريكي جون كيرى على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ68 وجرى اتصال هاتفي بين روحاني والرئيس الأمريكي باراك أوباما ليذيب الجليد بين البلدين.
وقام روحاني في إطار التحضير للجمعية العامة للأمم المتحدة بحملة علاقات عامة ممنهجة ومدروسة للتواصل مع الجمهور الغربي من خلال الكتّاب والباحثين الغربيين المهتمين بالشأن الإيراني، كما أقدم على كتابة مقالات في الصحف الأمريكية (منها مقالة له شخصياً وأخرى للرئيس الإيراني الأسبق سيد خاتمي). والتقى بمحطات إذاعية كبرى وقدّم خطاباً جديداً تخلى فيه عن المصطلحات العنيفة التي تعوّد الغرب سماعها من سابقه نجاد، حتى أنه اعترف بالمحرقة -الهلوكوست- اليهودية، و أشار بأن منكرها قد رحل، قاصداً سلفه أحمدي نجاد، وهو ينبئ بمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين.
دوافع طهران للتسوية مع واشنطن
لا شك أن سلسلة العقوبات التي وقعتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على إيران عام 2012 أواخر حكم الرئيس السابق نجاد كانت هي الأشد على الاقتصاد الإيراني منذ الثورة الإيرانية، ولا شك أنها خلّفت وراءها زيادة في معدل التضخم المالي وارتفاعا في نسب البطالة بين الشباب وتراجعا لقيمة العملة المحلية أمام الدولار وشيوعا للفوضى والفساد والتذمر في الشارع الإيراني، وبات ضرورياً على السلطة الجديدة أن تتبنى سياسات أكثر حكمة وعقلانية تسهم في إنهاء معاناة هذا الشعب، وهو ما وعد به روحاني أثناء حملته الانتخابية وحقق الفوز على أساسه.
الرغبة في ترتيب البيت الإيراني الداخلي، فالمرشد في شيخوخته يريد أن يرتب بيت الخلافة من بعده وأن يهيئ الأمور لرحيله بما يضمن بقاء الدولة وتماسك أركانها، ولعل ذلك كان من بين دوافعه للوقوف خلف روحاني سعيا نحو تسويات خارجية.
أما على الصعيد الخارجي، فلطالما اتسمت السياسة الخارجية الإيرانية بالبرغماتية وقياس المصلحة القومية في ظل الظروف المتغيرة. فإيران التي رحّبت علانيةً بالغزو الأمريكية للعراق، وخرج المرشد العام خامنئي ليعلن عن سروره به، هي نفسها التي دعمت بعض فصائل المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي في العراق، لأن الوجود العسكري الأمريكي وإن أزاح نظام صدام حسين في العراق وطالبان في أفغانستان إلا أنه شكل تهديداً مباشراً للأراضي الإيرانية شرقها وغربها.
ومع وصول الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى الحكم 2009، وإعلانه نيته سحب كامل القوات الأمريكية من العراق في نهاية 2014، رأت إيران أن الفرصة أضحت مواتية لملأ الفراغ الأمريكي؛ غير أن الثورات العربية التي طالت نظام بشار الأسد الحليف الأول لإيران حالت دون مطامع إيران في سيطرة إقليمية، إضافةً إلى تدهور أوضاع حلفائها في العراق وظهور ما يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية.
دوافع واشنطن للتسوية مع طهران
لا شك أن الحروب التي تورطت فيها الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر 2001 أرهقت الاقتصاد الأمريكي، وأدخلته في واحدة من أخطر الأزمات الاقتصادية التي واجهها على الإطلاق، وهو ما دفع الشارع الأمريكي للتذمر من التدخلات العسكرية الأمريكية، وعليه فإن الرئيس أوباما جاء إلى البيت الأبيض بهدف التخلص من آثار التورط العسكري الأمريكي ولم شمل القوات الأمريكية المبعثرة، والدفع بالحلول الدبلوماسية في القضايا الدولية إلى الأمام، والحد من التدخلات العسكرية ما لم تتهدد المصالح الأمريكية بشكل مباشر.
انتهج الرئيس الأمريكي الحالي سياسة خارجية جديدة تضرب معارضيه في عقر دارهم دون أن يكلّف نفسه عناء الحرب وتكاليفها المنهكة. وأتت تلك السياسة أُكلها مع النظام السوري الذي رضخ بتسليم سلاحه الكيماوي مقابل الامتناع عن ضربه عسكرياً. وحديثاً لجأت الولايات المتحدة في إطار الأزمة الروسية-الأوكرانية لفرض عقوبات اقتصادية على الدولة الروسية لإنهاكها دون الدخول معها في صراع عسكري لا يأمن الطرف الأمريكي عواقبه.
الأسلوب نفسه انتهجه أوباما مع إيران، حيث شدد العقوبات الاقتصادية عليها، وأخضعها لحصار اقتصادي وعقوبات غير مسبوقة في تاريخ النزاعات الدولية حتى تحوّل المشروع النووي الإيراني عن هدفه من تعزيز النفوذ الإقليمي الإيراني وصار عبئاً على إيران نفسها.
المآلات والتحدّيات
العقبة الأولى التي تعرقل حدوث تسوية إيرانية – أمريكية هي، كما يراها السفير حسين موسويان -السفير الإيراني السابق لدى ألمانيا ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الأمن القومي الإيراني والمتحدث الرسمي باسم وفد التفاوض النووي الإيراني- أن فقدان الثقة بين البلدين وخاصةً الجانب الإيراني يحتّم على البلدين العمل وفق نتائج اتفاقية جينيف، وأنه لن يتم أي تحديث للعلاقة الثنائية بينهما حتى يصلا إلى اتفاق شامل بشأن الملف النووي الإيراني.
وأرجع السفير قوله إلى حاجة حسن روحاني وفريقه بمن فيهم وزير خارجيته جواد ظريف إلى إقناع المرشد الأعلى خامنئي والحرس الثوري من خلال محادثات جادة ومفاوضات صادقة. وكذلك نقلاً عن السفير الأمريكي جون كيري، فإن إدارة أوباما تواجه الصعوبات ذاتها في إقناع الكونجرس الأمريكي بجدية تلك المحادثات.
العقبة الثانية هي ما ورد على لسان السيناتور الأمريكي منديز -الراعي الرئيس لمشروع القانون المعروف إعلامياً (قانون إيران الخالية من الأسلحة النويية)- أن العقوبات الاقتصادية هي التي جلبت إيران إلى طاولة المفاوضات، وهو ما يصرّ عليه اللوبي المؤيد لإسرائيل وبعض أعضاء الكونجرس الأمريكي، كما يصرون على أن فرض مزيد من العقوبات على إيران هو السبيل الوحيد لإحداث التغيير في سلوكها.
العقبة الثالثة تمثلها المطالب الأمريكية التي تبدو في ظاهرها محاولة واضحة لعرقلة المباحثات. فما قالته ويندى شيرمان -رئيسة الوفد الأمريكي المفاوض-؛ «نحن نعلم أن إيران لا تحتاج لأن يكون لها منشأة تخصيب محصنة تحت الأرض -مثل فرادو- أو مفاعل الماء الثقيل في «آراك» من أجل أن يكون لها برنامج نووي سلمى»، هو التصريح الذي جاءه الرد السريع من وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف واصفاً أي مطالب لإيران بالتنازل عن منشآتها النووية في تعداد «الأمور المستحيلة»؛ فالحقيقة أن البرنامج النووي صار أحد ركائز الاعتزاز الوطني لدى الإيرانيين وأي حديث حول التنازل عنه سيكلف صاحبه كلفة سياسية كبيرة.