رسالة عمر بن الخطاب: مراحل «أسْلَمة» احتفالات الفراعنة بالنيل
رواية يحلو لكثيرين ترديدها، تفيد أن مصريين أتوا عمرو بن العاص والي مصر يستأذنونه أن يأخذوا فتاة بكر ويلقونها في النيل ليفيض، وفقًا لتقاليدهم، فرفض عمرو وقال لهم، إن الإسلام يهدم ما قبله.
وبعد تأخر مياه الفيضان أرسل عمرو إلى الخليفة عمر يخبره بما جرى، فأرسل الرسالة السابقة في بطاقة مكتوبة وطلب من عمرو إلقاءها في النيل، ففاض النيل بعدها.
الرواية فندها كثيرون وقالوا، إن المؤرخ ابن عبد الحكم (ت ـ871م – 257هـ) هو من انفرد بروايتها في «فتوح مصر والمغرب»، وهو متأخر عن الحدث بأكثر من مائتي عام، وبالتالي يرجح أن يكون قد رواها له مخرف أو مشعوذ أو أن يكون قد اخترعها كنوع من الدعاية للإسلام متمثلة في تقوى الخليفة عمر بن الخطاب، وللهجوم على الحضارة المصرية القديمة متمثلة في عادة دموية إجرامية.
إلا أن المتأمل يجد أن الرواية تنطبق عليها فكرة الأسطورة بكل ما تحمله من معنى. والأسطورة ليست خيالاً أو كذبًا خالصًا، فدائمًا بها شيء من الحقيقة، لكن هذا الشيء الحقيقي يختلط عبر الزمن بالخيال فتنتج الأسطورة.
ما هو الواقع أو الحقيقة التي استمدت منها أسطورة عمر ابن الخطاب، وكيف اكتسب عيد وفاء النيل طابعًا إسلاميًا يبدو مستمدًا من الحضارة المصرية القديمة، وما مظاهر الاحتفال بوفاء النيل في العهد الإسلامي؟ هذا ما نجيب عنه في هذا المقال.
ليست خيالًا خالصًا: رواية عمر وجذورها الفرعونية
هناك 3 حقائق ربما استلهم منها ابن عبد الحكم- أو من حكى له الحكاية- خياله، وهي:
- كان المصريون بالفعل يحتفلون بعيد وفاء النيل
- كانوا يلقون عروسًا إلى النيل بالفعل
- كانوا يلقون رسائل دينية مكتوبة إلى النيل
بالفعل، كان المصريون القدماء يصنعون تمثالاً على هيئة فتاة جميلة، ويزوجونها بتمثال حابي «إله النيل»، حسبما تنقل الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف في كتابها «مصر في فجر الإسلام» عن علماء مصريات، وقيل كانوا يلقون تمثال العروس في النهر بعد أن يلبسوها الحلي وكأنها عروس حقيقية.
وبعد ظهور المسيحية اكتسب عيد وفاء النيل طابعًا مسيحيًا، فكانوا في عيد الصليب أو عيد الشهيد يلقون في النيل تابوتًا من خشب فيه إصبع من أصابع أسلافهم الموتى، وظلت هذه العادة موجودة في العهود الإسلامية حتى أبطلت في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون (702 – 738هـ) ثم ألغيت نهائيًا في 755هـ، بحسب خطط المقريزي.
أي أن فكرة إلقاء عروس أو قربان إلى النيل كان حاضرًا بالفعل حتى العهد الإسلامي، وإن كان ليس بالشكل الذي أورده ابن عبد الحكم، بإلقاء فتاة حقيقية.
أما فيما يتعلق برسالة عمر بن الخطاب، ففي الغالب استلهمها ابن عبد الحكم من عادة كانت موجودة بالفعل منذ العهود القديمة، فقد كانوا يلقون إلى النيل برديات مكتوب عليها تعاويذ دينية وأشعار ومدائح، تقديسًا وتضرعًا لنهرهم العظيم، واهب الحياة لهم، بحسب ما أورد مجموعة من علماء المصريات منهم الدكتور سليم حسن في موسوعته «مصر القديمة».
فما المانع أن يستبدل خيال المؤرخ الإسلامي التعاويذ المصرية القديمة بتعويذة إسلامية، هي رسالة عمر بن الخطاب، وبفيضان النيل وفقًا لهذه التعويذة ينتصر الدين الجديد، ويثبت أنه دين حق، تتحقق به المعجزات؟!
صلاة واحدة من أجل النيل
حين كانت مصر مجرد ولاية تابعة للخلافة في عهود الخلفاء الراشدين ثم العهدين الأموي والعباسي الأول، لم يشترك الولاة في الاحتفال بوفاء النيل، وإنما كانوا يتركون المصريين يحتفلون على طريقتهم، بحسب ما توضح سيدة إسماعيل كاشف.
ولكن كان المسلمون من المصريين يشتركون مع المسيحيين في الاحتفالات الكرنفالية التي كانت تقام، وكانوا يشتركون في الصلاة من أجل النيل، كل على طريقته، إذا ما أتى الفيضان ناقصًا عن منسوبه أو تأخر ميعاده، فكان المسلمون يصلون صلاة الاستسقاء، وكان المسيحيون يصلون أيضًا على طريقتهم، ليتجنبوا جميعًا خطر الجفاف.
حدث ذلك مثلًا في ولاية حفص بن الوليد الثانية على مصر في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك الأموي، حين حدث قحط فاستسقى حفص بالناس، بحسب ما يذكر ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة».
ويذكر ساويرس بن المقفع في «سير الآباء البطاركة» أن المسلمين والمسيحيين صلوا من أجل النيل عندما نقصت مياهه في ولاية أبي عون على مصر (132 – 136هـ).
ولكن منذ حاول بعض الولاة الاستقلال بمصر عن دولة الخلافة في بغداد خلال العهد العباسي، أخذ الحكام يتقربون من المصريين ليتقوّوا بهم أمام الدولة العباسية، فأعطوا لأعياد المصريين زخمًا وشاركوهم فيها وكأنهم مصريون مثلهم، بخاصة في عهد الدولة الإخشيدية، بحسب ما توضح سيدة كاشف.
لم تطل مدة الحكم الإخشيدي أكثر من 33 عامًا (935: 968م)، وربما كان ذلك سببًا في عدم ذكر المصادر تفاصيل احتفال حكامهم بوفاء النيل، إلا أن المصادر حين تتحدث عن الاحتفال بوفاء النيل في الدولة الفاطمية التي ورثت الدولة الإخشيدية لا تبين أن المعز لدين الله أول حاكم فاطمي لمصر استحدث مشاركته في الاحتفال من العدم.
بل تذكر الأمر وكأنه طبيعي، ما يشير بقوة إلى أن مشاركة الحكام المسلمين في الاحتفالات كانت موجودة منذ العهد الإخشيدي وربما الطولوني (868 – 905م).
ولهذا فإن بيان طبيعة الاحتفال الإسلامي بوفاء النيل يبدو جليًا مفصلاً من خلال المصادر الفاطمية، وما تلاها، كما سنوضح.
المقياس: مكان الاحتفال الذي تتعلق به مصائر الناس
أخذ الاحتفال بوفاء النيل في العهد الفاطمي مظاهر فخيمة إمبراطورية، ربما اقتربت أو فاقت في فخامتها ما كان يحدث في عهود ملوك مصر القدامى كرمسيس الأول والثاني والثالث.
ومن خلال مجموعة مصادر تاريخية مهمة– سنذكرها في ذيل المقال- وثقت لهذه الفترة وما تلاها في العهدين الأيوبي والمملوكي سنبين فيما يلي أهم مظاهر هذه الاحتفالات.
كان عيد وفاء النيل ينقسم في بعض الأوقات خلال العهد الفاطمي إلى احتفالين بينهما نحو ثلاثة أيام من الاحتفالات الشعبية، وهما الاحتفال بـ«تخليق المقياس»، والاحتفال بفتح سد الخليج المصري.
والمقياس الذي أنشئ على الطرف الجنوبي لجزيرة الروضة في النيل بالقاهرة الحالية، هو بئر عميقة يتوسطها عمود من الرخام عليه علامات قياس مدرّجة، وتتصل البئر بمجرى النيل من خلال أنفاق.
فحين يفيض النيل تتدفق المياه إلى البئر من خلال الأنفاق، ومن خلال علامات القياس على العمود الرخامي يعرف المسؤول عن المقياس حجم المياه التي أفاض بها النيل.
وحين يكتمل الفيضان ويبلغ ارتفاع المياه على المقياس 16 ذراعًا فأكثر يُفتح السد الخاص بالخليج المصري، ليسمح بتدفق المياه إلى العاصمة والمدينة القديمة القريبة منها.
كانت القاهرة مدينة صغيرة (قياسًا بوقتنا) محصورة فيما يعرف اليوم بالحي المعروف بالقاهرة الفاطمية، والتي لا تصل حدودها ميدان العتبة. وكانت هناك مدينة أخرى مُجاوِرة لها، تعارف الناس على تسميتها بمدينة «مصر» وهي ما يعرف اليوم بحي «مصر القديمة» والتي تضم الفسطاط وجامع عمرو بن العاص.
وكان الخليج المصري قناة مائية، تتفرع منها قنوات صغيرة، تنقل مياه النيل إلى داخل مدينتي مصر والقاهرة، ليشرب الناس ويستعملوها في شتى استخداماتهم.
وكان المسيحيون الأقباط هم المسؤولون عن مقياس النيل الذي بُنِي في 97هـ – 715م في العهد الأموي، حتى عزلهم الخليفة العباسي المتوكل، وعين بدلًا منهم عبدالله بن عبدالسلام بن أبي الرداد المؤدِّب، وخلفه في المنصب أبناؤه، فصار كل من يتولى أمر المقياس يعرف بابن أبي الرداد.
احتفالات أسطورية دينية: الفاطميون على خطى الفراعنة
في مبنى المقياس وحوله كان يقام الاحتفال بوفاء النيل الذي اكتسب طابعًا إسلاميًا، ففي الليلة التي تسبق وصول المياه 16 ذراعًا على العمود الرخامي، كانت الولائم تقام وتحوي ما لذ وطاب ويستدعى إليها المشايخ لتلاوة القرآن وتطريبه، ويختمونه كاملاً في تلك الليلة في مسجد المقياس.
وفي اليوم التالي يُبَشر أبو الدرداء الخليفة الفاطمي بوفاء النيل وبلوغه الـ16 ذراعًا، فينطلق الخليفة في موكب مهيب في أبهى صورة له مرتديًا الذهب والفضة، ومعه وزيره وآلاف من الجنود.
أمامهم تمشي الفرق الموسيقية تعزف، وحولهم حشود المصريين تتابع أو ترافق الموكب الذي ينطلق من قصر الخلافة في شارع المعز، مخترقًا باب زويلة مارًا بجامع أحمد بن طولون، ثم بمدينة مصر حتى يصل ساحل النيل.
بعدها يركب الخليفة سفينة ليصل إلى المقياس، ويصلي ركعتين، ثم تحضر له آلة بها زعفران ومسك، فيصب منها في إناء، ويعطى الإناء لمسؤول بيت المال، والذي بدوره يعطي الإناء لأبي الرداد، فينزل البئر ويدهن حوائطه والعمود الرخامي بالزعفران والمسك، وفي الوقت نفسه يجلس قراء الحضرة على الجانب الآخر يتلون القرآن.
وتظل مصر والقاهرة تعيشان في احتفالات لمدة ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث أو الرابع يركب الخليفة مرة ثانية ويمشي في احتفال مهيب أضخم بكثير من الاحتفال السابق، بين آلاف من الجنود، وحولهم الناس، وذلك لفتح الخليج.
في هذا الموكب كان عدد عازفي البوق فقط يتجاوز 40 عازفًا بكثير، عشرة أبواق منها تصنع من الذهب، وثلاثون من الفضة، إضافة إلى عازفي الأبواق النحاسية التقليديين، إضافة إلى عشرة من ضاربي الطبول الضخمة، والتي يستبدل خشبها بالفضة.
وكان للخليفة ثياب مخصصة لهذا اليوم فقط، من أفخر أنواع الحرير، ومطرزة بكميات كبيرة من الذهب.
في هذا العيد يُنصب للخليفة على رأس الخليج سرادق عظيم التكاليف من الديباج الرومي وموشى كله بالذهب ومكلل بالجواهر، ويعد أعظم إعداد بحيث يتسع ظله لمائة فارس هم الحرس الخاص بالخليفة، وأمام السرادق خيمة من البوقلمون وسرادق آخر كبير.
وحين يركب السلطان يصطف 10 آلاف فارس، على خيولهم سروج مذهبة وأطواق وألجمة مرصعة بالجواهر، وتطرز حواشيها باسم الخليفة الفاطمي، إضافة إلى تفاصيل أخرى لا تقل فخامة عن ذلك.
ونلاحظ في هذا الاحتفال ما يلتقي مع ما كان يحدث في عهد المصريين القدماء، حيث كان الملك يحضر بنفسه الاحتفال كما يحضر الخليفة، ويرتل الكهنة كما يرتل الشيوخ، وتعزف الموسيقى، وتقام الولائم في الحالتين، كما ترصد مصادر التاريخ المصري ومنها موسوعة سليم حسن.
كذلك فإن التخلق أو التطييب بالزعفران له جذور في الحضارة المصرية القديمة، بحسب ما ذكر المؤرخون المسلمون أنفسهم، وكان المصريون معتادين على تطييب ملابسهم به، واستقبال زائرهم وتبخير معابدهم به، وامتد أثر ذلك مع المسلمين منذ عصر الولاة الأول، ومن هذه العادات جاءت فكرة تخليق أو تطييب المقياس بالزعفران.
ألعاب نارية واحتفالات نيلية: الأيوبيون والمماليك على العهد
استمرت المظاهر الاحتفالية بوفاء النيل وتخليق المقياس في العهد الأيوبي (1174–1250م) الذي ورث التركة الفاطمية، وإن قلّت أبهة السلطان عن البذخ الفاطمي، إلا أنها احتفظت بكثير منها، فمثلًا كان صلاح الدين يلبس العمامة المذهبة، وخلفاؤه كانوا يرتدون ملابس مذهبة، على الأقل كان حزام البطن يطعم بالذهب والفضة، وكثيرًا ما كان من الذهب كله.
وكان السلطان الأيوبي ينطلق في موكب مهيب من قصر السلطنة في القلعة إلى مقياس النيل بالروضة، وتعد الموائد الفخمة له ولأمرائه من المماليك، وتُعطى الهدايا لمتولي المقياس.
واحتفظت الاحتفالات بمظاهر مثل آنية الزعفران التي يعطيها السلطان لمسؤول المقياس، ونزول هذا المسؤول إلى بئر المقياس ليدهن حوائطها والعمود الرخام.
ولكن استحدثت عادة سك الدنانير من الذهب والفضة لتوزع على الأمراء والفقراء والمحتاجين من عامة الناس ابتهاجًا بهذه المناسبة.
ولم تكتف الجماهير بمشاهدة موكب السلطان في الشوارع، وإنما كانت تحتشد في النيل نفسه، وتركب القوارب، وتحيط بقوارب السلطان وأمرائه الذين يركبونها بين شاطئ النيل وجزيرة الروضة.
وكان السلطان الأيوبي يمسك المعول بنفسه، ويضرب سد الخليج ثلاث ضربات إيذانًا بفتحه، ويأتي العمال بعده ومعهم الفؤوس فيكملون فتحه حتى يجري الماء في الخليج.
في الدولة المملوكية (1250 – 1517م) التي ورثت الدولة الأيوبية استمر الأمر كذلك، بمظاهره التقليدية، ومنها سير الموكب والتخليق بالزعفران، ومنح العطايا والهدايا، وضرب الموسيقى.
واستحدثت في العهد المملوكي إقامة بعض الألعاب النارية على ظهور السفن الحربية في النيل، والتي كان يسمونها الحراريق، وكان السلطان المملوكي يركب حراقته ويذهب إلى السد المقام على فتحة الخليج «فم الخليج» ويضربه بمعول من ذهب إيذانًا بفتحه، ثم يعود بموكبه إلى القلعة.
بعد انتهاء العصر المملوكي، واحتلال مصر من العثمانيين عام 1517، وعودة مصر كولاية تابعة، وليست مركزًا لسلطنة كبيرة، تراجعت الاحتفالات واهتمام الولاة بأمرها، ولم يعد هناك شيء مهم يذكره المؤرخون في هذا الشأن.
- «أخبار مصر» لابن المأمون
- «نزهة المقلتين» لابن الطوير
- «مفرج الكروب» ابن واصل
- «صبح الأعشى» للقلقشندي
- «الخطط» للمقريزي
- «السلوك لمعرفة دول الملوك» للمقريزي
- «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي
- «الدولة الفاطمية» لأيمن فؤاد سيد
- «المواكب السلطانية» لفائزة محمد عزت وسيبان حسن علي
- «التخلق بالزعفران» لمحمد حماد