استقرار الفقه السُّني في مصر
انتهينا في المقال السابق إلى أن حركة الفقه السُّني في مصر كانت تتقاسمها منذ القرن الثالث الهجري ثلاثةُ مذاهبَ كبرى، تباينت في درجة انتشارها ومقدار النفوذ الذي حظيت به على الصعيدين المعرفي والسياسي، وهـي بترتيب دخولها مصر: المذهب المالكي، والمذهب الحنفي، والمذهب الشافعي.
وأما المذهبُ الحنبلي الذي اكتمل بظهوره ما اصطلحنا على تسميته قبل ذلك بـ«الرباعية المذهبية» بوصفها أحد المعالم الرئيسة للإسلام السُّني= فلم يُعرف في البيئة المصرية إلا مطلع القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)؛ ذلك أن الحنبلية في طور تشكُّلها الأول بَدَتْ أقربَ إلى أن تكون مذهبًا إقليميًّا خاصًّا بالعراق، بحيث إنها لم تتجاوز حدود ذلك الإقليم إلى غيره إلا في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وهو القرنُ الذي استولى فيه الفاطميون على مصر، قاصدين إلى اتخاذها قاعدةً للإمبراطورية الشيعية الكبرى التي كانوا يطمحون إلى إقامتها، الأمر الذي حال بين الحنابلة وبين دخول مصر ونشر مذهبهم في ربوعها، طوال الحقبة الفاطمية (358- 567هـ).
ومن هنا لم يكن للمذهب الحنبلي حضورٌ يُذكر في مصر إلا بعد سقوط الدولة الفاطمية سنة 567هـ/1171م، وقيام الدولة الأيوبية التي عملت على تعزيز الفقه السُّني، ودعم مرتكزاته العلمية والأيديولوجية[1]. ووفقًا لما أورده السيوطيُّ فقد كان الحافظ عبد الغني المقدسي (ت 601هـ/1204م) أولَ فقيه حنبلي مرموق يحفظ التاريخُ حلوله بمصر واستقراره فيها فترة من الزمان[2].
وهكذا سيطرت على حركة الفقه والتشريع في مصر ــــ منذ القرن الثالث الهجري وإلى قيام الدولة الفاطمية منتصف القرن الرابع ـــــ «ثلاثيةٌ مذهبية» أومأ إليها المقريزي قائلاً:
وتشير تلك العبارةُ إلى أن وظيفة القضاء كانت شركةً بين المذاهب الثلاثة المذكورة، وإنْ غَلَب عليها الفقهاءُ الأحناف؛ انطلاقًا من أن مذهبهم كان هو المذهب الرسمي للخلافة العباسية. ولم يحدث أن تولى القضاء مَنْ لا يدين بأحد هذه المذاهب إلا في حالات نادرة لا يُقاس عليها؛ فمن ذلك مثلاً: أن عبد الله بن أحمد بن شعيب (ت 369هـ/979م) تولى القضاء رغم كونه فقيهًا ظاهريًّا، معروفًا بميوله الاعتزالية.[4]
ولا ريب أن القضاء أسهم في تعزيز فكرة المذهبية الفقهية والتمكين لها علميًّا وشعبيًّا؛ ذلك أن القاضي كان يُصْدِر أحكامه ــــ في الغالب ــــ وفقًا لتقاليد المذهب الذي ينتمي إليه، فلم يكن يأذن لنفسه بالاجتهاد المطلق المتحرِّر من سطوة التمذهب، وفقًا لما يتراءى له أو ينتهي إليه تقديرُهُ الشخصي، إلا في أضيق الأحوال، على الرغم من أن عددًا غير قليلٍ ممن تولوا قضاء مصر إبان تلك الفترة كانوا معدودين من أئمة الاجتهاد .
ومن المفارقات اللافتة للنظر أن تسلط الأحناف على منصب القضاء كان يتكئ في المقام الأول على دعم الخلافة العباسية وتشجيعها، لا على قاعدة شعبية واسعة من الأتباع وطلاب الشريعة، كتلك التي كان يتمتع بها المذهبان المالكي والشافعي[5]. ولعل في تفاوت عدد الحلقات العلمية التي أُفردت لتلك المذاهب بجامع عمرو بن العاص ــــ المركز العلمي الأول آنذاك ــــ ما ينبئ عن الوزن الحقيقي لكل مذهبٍ منها، ويقدّم دليلاً واضحًا على تباين حظوظها من الانتشار والقبول؛ فقد كان للمالكية خمس عشرة حلقة، وللشافعية مثلها، في حين لم يظفر أتباع المذهب الحنفي بأكثر من ثلاث حلقات[6].
ومما يشير إلى ضعف حضور المذهب الحنفي بالقياس إلى المذهبين المالكي والشافعي: أنَّ السيوطي لم يترجم خلال الفترة التي أعقبت التكون الجماعي للمذهب حتى قيام الدولة الفاطمية إلا لشخصية واحدة هو الحسن بن داود بن بابشاذ المصري (ت 339هـ/950م)، «وكان من أفاضل الناس وعلمائهم بمذهب أبي حنيفة»[7].
وقد أجمل الجغرافيُّ الشهير المقدسي (ت 390هـ تقريبًا/1000م) ملامحَ الحالة الفقهية في مصر خلال النصف الثاني من القرن الرابع الهجري إجمالَ نظرٍ ومعاينة؛ حيث قال:
وفي ضوء هذا النص يمكن القول: إن المذهب المالكي كان هو المذهب الشعبي الأول في مصر، وهو قولٌ لا تعوزنا الأدلة على إثبات صحته التاريخية؛ فقد رُوي مثلاً أن حلقة أبي بكر النعالي (ت 380هـ/990م) ـــــ إمام المالكية في عصره ـــــ بالجامع العتيق كانت تدور على سبعة عشر عمودًا من كثرة مَنْ يحضرها[9].
وكان بين المذهبين المالكي والشافعي شيءٌ غير قليل من التنافس الذي أملاه ما كان بينهما من تقاربٍ في درجة الانتشار وتعادلٍ في قوة التأثير. وتجدر الإشارة إلى أن تلك المنافسة قد بدأت في مرحلة مبكرة جدًّا من تاريخ المذاهب الفقهية في مصر، وتحديدًا منذ أن رحل الشافعيُّ إليها أواخر القرن الثاني الهجري، فاستطاع أن يكوِّن حلقة من الأتباع والمريدين، وأن يستميل عددًا من المالكية أنفسهم، حتى أضحى يمثِّل تحديًا للسيادة الشعبية التي كان يتمتع بها المذهبُ المالكي. وفي هذا السياق روى ابنُ عبد الحكم أنه سمع أشهب بن عبد العزيز إمام المالكية في زمانه يدعو على الشافعي بالموت[10]. وحين آلت وظيفةُ القضاء إلى الفقيه المالكي الشهير الحارث بن مسكين بين سنتي (237- 245هـ)، «أمر بإخراج أصحاب أبي حنيفة من المسجد وأصحاب الشافعي وأمر بنزع حصرهم»[11].
وقد جعلت حدة التنافس بين المذهبين تزيد شيئًا فشيئًا حتى خرجت من حيز المنافسة العلمية المشروعة، فاستحالت صراعًا بغيضًا لا يقرُّه الشرع، وهو صراع تورط طرفاه ــــ أحيانًا ـــ في ممارسة العنف البدني؛ ففي سنة 326هـ/937م «عاد أصحاب مالك والشافعي إلى القتال في المسجد الجامع العتيق …. فلما زاد قتالهم، أرسل الإخشيد، ونزع حصرهم ومساندهم وأغلق الجامع، وكان يفتح في أوقات الصلوات، ثم سُئل الإخشيد فيهم فردهم»[12].
ولئن كان المذهب الحنفي قد وجد في عطف الخلافة العباسية ورعايتها ظهيرًا سياسيًّا يمكن الاستناد إليه في مواجهة المذاهب الأخرى، فإن أتباع المذهبين المالكي والشافعي لم ينعموا بمثل هذه الرعاية الرسمية، بل إنهم تعرضوا أحيانًا لعسف السلطة ومضايقتها.
وكنا قد ألمحنا في مقالٍ سابقٍ إلى بطش العباسيين بطائفة من المالكية والشافعية ممن رفضوا الإقرار برأي المعتزلة في مسألة خلق القرآن. وثمة أمثلة أخرى يمكن إيرادها في معرض الحديث عما تعرض له أتباع المذهبين من تضييق وإيذاء، منها مثلاً: أن الخليفة المأمون كان ناقمًا على المالكية، ثم اشتدت نقمته عليهم بأثرٍ من علاقته المتوترة بالحارث بن مسكين (ت250هـ/864م)، ذلك الفقيه المالكي المجتهد المعروف بميوله الأموية، فضلاً عما اشتهر به من حِدّةٍ في الطبع وشراسةٍ في الخلق يندر أن يتحملها الملوكُ والأمراء.
وكان ابن مسكين قد شهد في أحد مجالس المأمون حين زار مصر على اثنين من رجال الدولة بالظلم والفساد، فلما سأله المأمون: هل ظلماك في شيء؟ قال: لا، فقال المأمون: فعاملتَهما؟ قال: لا، فقال: كيف شهدتَ عليهما إذن؟ فأجابه ابنُ مسكين في لهجة حادة لا تخلو من اعتداد بالذات وقلة اكتراث بهيبة الخليفة: كما أشهد أنك أميرُ المؤمنين ولم أَرَكَ قطّ إلا الساعة، وكما أشهد أنك غزوتَ ولم أحضر غزوك؛ فما كان من المأمون إلا أن أمر به فنُفي من مصر[13].
وقد رُوي أيضًا أن المأمون سأل ابنَ مسكين عن فتح أحد البلاد قائلاً: ما تقول في خروجنا هذا؟ فقال ابن مسكين: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك أن هارون الرشيد كتب إليه يسأله عن قتال أهل دَهْلَك[14]، فقال: إن كان خروجهم عن ظلمٍ من السلطان فلا يحل قتالهم، وإن كانوا إنما شقوا عصا الطاعة فقتالهم حلال. وهي إجابة تشي بأن ابن مسكين كان يذهب إلى القول بجواز الخروج على الحاكم الظالم؛ تأسيًا بالإمام مالكٍ، فأغلظ له المأمونُ القول، وسبه ومالكًا سبًّا قبيحًا[15].
وكذلك فإن المذهب الشافعي لم يُرْزَق فقهاؤه حظوة في بلاط الإخشيديين (334-358هـ)، وهو ما يشير إليه ابنُ زولاق قائلاً: «كانت الإخشيدية كلُّها تكره ابنَ الحدَّاد؛ لكراهتهم في الشافعية ولغلظته عليهم»[16]. وكان ابنُ الحداد (ت344هـ/955م) فصيح اللسان، مسرفًا في الاعتداد بنفسه، لا يتهيب لقاء الأمراء والحكام، ولا يخشى في مجابهتهم بكلمة الحق لومة لائمٍ.
ورغم إقصائه عن القضاء الذي وليه مرتين (324هـ، 333- 334هـ)، فقد ظلّ الفقهاء والقضاة يعرفون له مكانته ويشهدون له بالفضل والعلم، حتى إنهم كانوا لا يفصلون في قضيةٍ من القضايا المهمة إلا بعد مراجعته والاستنارة بآرائه وفتاويه[17]. وقد ألمح ابنُ أبي زرعة ـــــ أحد فقهاء الشافعية ــــــ إلى أن حِدّة خلق ابن الحداد كان لها تأثيرٌ سلبي على موقف الدولة الإخشيدية من مجموع الشافعية في مصر[18].
وفي ختام الحديث عن حالة المذاهب الفقهية في إبان تلك المرحلة المبكرة من تاريخ مصر الإسلامية، تجدر الإشارة إلى ظهور طائفة من الفقهاء كانوا يجسِّدون ما يمكن الاصطلاح على تسميته بنموذج “الفقيه الزاهد”، وهو ذلك الفقيه الساعي إلى الجمع بين التخصص في دراسة الفقه بوصفه عملاً معرفيًّا ذا صبغة قانونية، وبين التحلي بالورع الديني بوصفه سلوكًا أخلاقيًّا يشغل منه الزهدُ نقطةَ الوسط وعمود الارتكاز. وبمرور الوقت أضحى ذلك الجمع «سمة النخبة الدينية المتعلمة عمومًا، وسمة الفقهاء والمتصوفة لاحقًا على وجه الخصوص»، بعبارة وائل حلاق[19].
ظهرت طائفة من الفقهاء كانوا يجسِّدون ما يمكن الاصطلاح على تسميته بنموذج “الفقيه الزاهد”، وهو ذلك الفقيه الساعي إلى الجمع بين التخصص في دراسة الفقه بوصفه عملاً معرفيًّا ذا صبغة قانونية، وبين التحلي بالورع الديني بوصفه سلوكًا أخلاقيًّا يشغل منه الزهدُ نقطةَ الوسط وعمود الارتكاز.
ولقد كانت سِيَرُ كثيرٍ من فقهاء تلك المرحلة نماذج حسنة لذلك التناغم بين شخصية الفقيه وشخصية الزاهد (أو الصوفي بعد ذلك)، فإنْ شئتَ قرأتَ هذه السيرةَ أو تلك باعتبارها ترجمة لإمام من أئمة الفقه الذين وقفوا حياتهم على خدمة الشريعة، وإنْ شئتَ قرأتها بوصفها تعريفًا بولي من أولياء الصوفية الذين حرصوا على تجاوز النظر في أحكام الشريعة وطقوسها ذلك النظر المعرفي المجرد إلى المعرفة مقرونة بالعمل والإخلاص، مع محاولة استيحاء ما تحمله تلك الأحكام من دلالات روحية عميقة.
وتحفل المصادر التاريخية بكثير من تراجم الأعلام الذين مثَّلت سيرهم الشخصية وطرائقهم في الحياة نماذج ممتازة للفقهاء الزُّهاد/الصوفية؛ فكان عبد الرحمن بن القاسم (المالكي) «زاهدًا صبورًا مجانبًا للسلطان»[20]، وكان ابن وهب (المالكي) «عالمًا صالحًا خائفًا لله تعالى»، وقيل في سبب موته: «إنه قرئ عليه كتاب أهوال القيامة من جامعه في الحديث، فغشي عليه، فحمل إلى داره، فلم يزل كذلك حتى قضى نحبه»[21]، وكان القاضي بكار بن قتيبة (الحنفي) «أحد البكائين التالين لكتاب الله عز وجل»[22]، وقد ترجم له السيوطي ضمن من كان بمصر من الزهاد والصوفية.
وقد شهد القرن الرابع الهجري بروز طائفة من الفقهاء غلب التصوفُ على تكوينهم الديني والمعرفي، فكانوا إلى التصوف أدنى منهم إلى الفقه. وأكثرُ هؤلاء ممن تخرج في مدرسة الإمام الجنيد (ت 297هـ/909م)، ذلك الصوفي البغدادي الذي راد طريقًا في التصوف يقوم على الالتزام بمعطيات الكتاب والسُّنة، ويتجه وجهة أخلاقية تربوية تمتزج بشيء من النظر العميق والتأمل الروحي ذي النزعة المعتدلة. وكان أتباعه ـــــ كما يقول قاسم غني ـــــ يشبهون «من حيث السير والسلوك وطريقة الفكر وأسلوب القول صوفيةَ القرن الثاني مشابهةً تامة، بل إن بعضهم كانوا يمثلون في سلوكهم الزهاد والمرتاضين المعتدلين في صدر الإسلام»[23].
ولعل أبرز ممثلي تلك المدرسة في مصر: أبو علي الرُّوذباري البغدادي الشافعي (ت 322هـ/933م)، وهو فقيه متصوف، وإمام مُفْتٍ، صحب الجنيد وغيره من أئمة التصوف[24]. وأبو بكر الدقاق الكبير، وكان ــــ كالجنيد ـــــ يرى أن حقائق التصوف يجب أن تكون تابعة لمقولات الشريعة متسقة معها غاية الاتساق[25]، وأبو الحسن بن بُنان الزاهد الواسطي (ت 316هـ/928م) أحد أصحاب الجنيد والمبشرين بطريقته في مصر[26].
وبعدُ، فتلك خلاصة مركزة لتاريخ الحركة الفقهية السُّنية في مصر منذ نشأتها في القرن الأول الهجري إلى قيام الدولة الفاطمية منتصف القرن الرابع. وفي المقال التالي نستعرض بإذن الله حالة الفقه في ظل السيادة الشيعية/الإسماعيلية التي مثَّلها الفاطميون، فإلى الملتقى.
- حسن المحاضرة 1/397
- السابق نفسه. وراجع في ترجمة الحافظ عبد الغني: الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي
- المواعظ والاعتبار 4/370
- ولي ابن شعيب القضاء بين سنتي (331- 333هـ)، وفقًا لما أورده الكندي، وقيل: بل وليه مرتين: الأولى بين سنتي (329- 330هـ)، والثانية بين سنتي (334- 336هـ)، وفقًا لما ذكره ابن حجر. الولاة والقضاة، ص 489، رفع الإصر عن قضاة مصر، ص 181
- سيدة إسماعيل كاشف، مصر في فجر الإسلام، ص 328
- ابن سعيد الأندلسي، المغرب في حلى المغرب، ص 173
- حسن المحاضرة 1/385
- أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ص 202
- حسن المحاضرة 1/376
- وفيات الأعيان 1/239
- الولاة والقضاة، ص 469
- ابن سعيد الأندلسي، المغرب في حلى المغرب، ص 173
- رفع الإصر، ص 116، 117
- دهلك: جزيرة في بحر اليمن، وهي بلدة ضيقة حارة كان بنو أمية إذا غضبوا على أحد نفوه إليها. معجم البلدان 2/492
- رفع الإصر، ص 116، 117
- رفع الإصر، ص 335. وراجع أيضًا: عبد اللطيف حمزة، الحركة الفكرية في مصر، ص 335
- رفع الإصر، ص 331- 333
- السابق، ص 332
- نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، ص 247
- الفهرست 2/8، وفيات الأعيان 3/129
- وفيات الأعيان 3/37، حسن المحاضرة 1/263
- وفيات الأعيان 1/279
- تاريخ النصوف في الإسلام، ص 83
- حسن المحاضرة 1/339
- السابق 1/421
- السابق 1/421، 422