من سربرنيتسا إلى النجاة: قصة أحد الناجين من المذبحة
في 27 يوليو/ تموز عام 1995 احتفلت بمناسبة بلوغي الثامنة عشرة. لم أحتفل بها وسط أهلي، ولا في مدينتي. كنت أحتفل في الحقيقة ببقائي على قيد الحياة بأعجوبة حتى بلغت هذا العمر، على رأس جبل، مع حوالي مائة شخص كلهم ماتوا بعدها بيومين ولم ينجُ منهم إلا ستة، كنت أحدهم. كيف وصلت لذلك المكان؟ وكيف بقيت على قيد الحياة حتى الآن لأحكي لكم ما جرى في سربرينتسا في تلك الأيّام المشئومة من عمر الإنسانيّة؟ تلك قصة طويلة، وهاكم بعضها.
بدأ كلّ شيء في الساعة الثانية بعد الظّهر في 11 يوليو/ تموز من نفس العام. توجهت مع أمي وأخي وأختي الصغيرة نحو قاعدة الأمم المتحدة في بوتوتشاري طلبًا للأمان. وطوال طريقنا كانت قذائف الميليشيا الصربية تنهال علينا. في الطريق صادفت شقيقي الأكبر أسد، الذي شجّعني على المضيّ معه نحو الغابات فرارًا من تنكيل ميليشيات صرب البوسنة. وعلى الرّغم من وعود الأمان التي صدَّقها البعض، كنا معتادين على غدر الميليشيات، لذا حزمت أمري وودَّعت أمي وشقيقتي وذهبت لنقطة تجمع الرجال الذاهبين لأقرب أرض محرّرة تحت سيطرة الجيش البوسني، على بعد مائة كيلومتر من مدينتي سربرينتسا، مدينة توزلا.
أنا وشقيقي الكبير أسد، وشقيقي الأصغر حسن، سنشق طريقنا عبر الغابات على الجبال، لم يكن معنا سلاح، وحملت حقيبتي المحتوية على بعض الخبز وسكين، كنا نعيش أصلًا حياة شظف تحت الحصار الصربي منذ ثلاثة أعوام، ولم نكن نملك الكثير من القوت لأتزود به في حقيبتي.
تجمّع حوالي عشرة آلاف رجل في المنطقة، وبدأنا درب الوصول لتوزلا، ولم نكن نعرف أن أوامر من القيادة العليا لصرب البوسنة قد صدرت لميليشياتهم بعدم السّماح لأي واحد من سربرينتسا بالنجاة من القتل (هذا ما أكّده أحد المقاتلين الصرب في شهادته أمام محكمة لاهاي)، لذا لم نكد نقطع عشرين كيلومترًا حتى وقعنا في كمين نصبته الميليشيات، وبدأت القذائف والرصاص ينهال علينا بغزارة من كل جانب. أُصبت في قدمي، وتلفتُّ حولي فوجدت أخي أسد وقد انقطعت يده وينزف بغزارة، انتظرت القصف حتى يهدأ وجثوت بجانبه أحاول ان أسقيه وأطعمه بعض الخبز، لكنه هتف بصوت واهن: اهرب! تلفتُّ ورائي فإذا بمقاتلين يركضون نحوي محاولين قتلي فسارعت بالركض، لم أر اسد بعد ذلك إلا جثة محروقة، عرفناه من طرف سترته.
هذا الكمين جعل مجموعتنا تتفرّق، تسلّلت بين الأشجار حتى لمحت جمعًا منهم فانضممت لهم، وكنا جميعنا في حالة ذهول وأغلبنا جرحى، كان عقلي لا ينفكّ يتساءل عن مصير أسد، دعوت الله من قلبي أن يكون حيًّا، وكان أخي حسن أيضًا قد افترق عنّي ولا أدري ما الذي حدث له.
في أثناء مسيرنا وصلتنا معلومة التقطها أحدهم من راديو صربي محلي يعلن أن هناك ممرًا آمنًا عرضه أربعة كيلومترات سيكون مفتوحًا لمن يشاء الوصول لتوزلا، بدأت الهمهمات تتزايد، وقرّر بعض أفراد المجموعة التوجه نحو ذلك الممر، حذَّرناهم من وعود الصرب الكاذبة، لكنهم كانوا في حالة يأس دفعتهم لتصديق أي شيء، فغادرونا ولم يرهم أي أحد أحياء بعد ذلك.
استمررنا في المسير حتى وصلنا لنهر كبير، كنا لم نجد ماءً في الغابة طوال هذه المدة. شرب كثيرون من النهر وعبئوا عبواتهم، كنت أريد الشرب مثلهم لكن شيئًا ما أجفلني، لأن بعض الذين شربوا بدءوا يتصرفون بشكل غريب، يتحدثون عن أشياء يرونها وهي غير موجودة، وأطرافهم ترتجف. وسرعان ما أصبح كل الذين شربوا وكأنهم فقدوا عقولهم! كانت مياه النهر مسممة. بعضهم قتل نفسه، وبعضهم تركنا وصار يمشي وحده، ونحن لا نستطيع أن نفعل لهم شيئًا.
انقلبت الدنيا حولنا جحيمًا، مات في هذا الكمين ما يقارب الألف، وجرح كثيرون، كنت أهرول ضائعًا وجرح قدمي لا يسمح لي بالركض سريعًا، اختبأت بين أعشاب عالية، ومن مكاني سمعت مقاتلي الصرب يطالبون بالاستسلام، استسلمت مجموعة وطلب منهم أفراد الميليشيا نقل الجرحى لأعلى التلة، ومن مكاني الذي بقيت فيه كاتمًا أنفاسي رأيت وسمعت الصرب يذبحون كل الموجودين، صرخات الاستغاثة تتعالى، وبعض الضحايا كان يطلب السّماح من رفاقه قبل ذبحه، والبعض يهتف مناديًا الله، وسمعت صوت البعض يتقيأ وأنا أئن في داخلي من العجز وقسوة الحال، وحجم الوحشيّة التي ما كنت أتصور وجودها حتى رأيتها. ساعات مضت وسكن كل شيء.
حل الظلام التام، لملمت قواي وتسللت من مكاني، لمحت شبحًا ضئيلًا قريبًا مني يتحرك، إنه نفايل دوديتش الذي لم يكن قد بلغ الرابعة عشرة، ترافقنا في زحفنا لنبحث عن بقايا المجموعة الأصلية التي خرجنا معها، سرنا طوال الليل، واختبأنا في النهار خوفًا من اكتشاف أمرنا، واستأنفنا مسيرنا عندما ساد الظلام، كان مساء الثالث عشر من يوليو قد حل ونحن نسير منذ يومين، وصلنا لأسفل منحدر ولم أستطع تسلقه، حملني نفايل على كتفه حتى أستطيع الوصول والتشبُّث بالحافة، ثم رفعت جسمي حتى أصبحت في الأعلى ثم صعد نفايل ورائي، وجدنا ثلاثة رجال بلباس مدني يحملون بنادق، ظنناهم من البشناق فقلت لهم من فضلكم دعونا نسير معكم فسنصبح آمنين أكثر برفقة بنادقكم. رد أحدهم صارخًا: أما كفاكم حمل السلاح كل هذه السنين وضربني بقوة على رأسي، سقطت مغمى عليَّ.
فتحت عيني لأجد رأسي على ساق المقاتل وهو يحمل شعر رأسي بإحكام ليثبّته ليقوم بفصل رأسي عن جسدي، تجمدت من الذعر وأغلقت عيني بسرعة بينما كان يحاول سحب سكين من جرابه، لسبب ما علق السكين، وبقوة فجائية لا أعلم كيف جاءتني قفزت هاربًا لا ألتفت وهو يطلقون النار خلفي، كانوا قد أسروا نفايل واقتادوه لمعسكر اعتقال، علمت فيما بعد أن الضابط المسئول هناك قد ظنه طفلًا لصغر حجمه فسمح له بركوب الحافلة مع النساء والأطفال إلى توزلا.
أنا وحدي الآن، لا أميز الاتجاهات ولا أهتدي في المكان، ولكن لأن توزلا في الغرب فقد جعلت مطلع الشمس ورائي وسرت بقدر ما أستطيع، أملت أن أجد في طريقي مجموعة أنضم لها. كان الإعياء قد أهلكني وقواي ضعيفة.
من بعيد بدأت اسمع خطى تتابع، كنت قد تعلمت درسًا قاسيًا بألا أثق بسهولة، راقبت المجموعة المكونة من عشرات الرجال وبعضهم كان مسلحًا فسرت وراءهم بعدما تأكدت أنهم بشناق، بقيت بعيدًا عنهم بمسافة، فجأة قابلنا كمين ثالث، وبدأ الصرب إطلاق النار فرد عليهم رجالنا بإطلاق النار، وتمكنا من فك الحصار.
شعرت حينها أني بأمان أكبر، لكن للأسف بعد عشرين كيلومترًا فقط تقريبًا وقعنا في كمين آخر، لكن هذه المرة كانت الألغام تحيط بنا من كل مكان، ولأني صرت معتادًا على المرور بين الكمائن جمدت محلي وزحفت تدريجيًّا أسفل شجرة انحنت أوراقها وبقيت نصف ساعة حتى توقفت النار، كان أنين الجرحى يصلني ولكن المقاتلين الصرب كانوا يجهزون عليهم.
لاحظت رجالنا مختبئين مثلي يتسللون، واحد، فالثاني، فالثالث، حتى رأيت السابع فلحقت به. كان اسمه ميرزا سماتيتش.
عندما وصلنا لمكان نرتاح فيه، منعنا بقية أفراد المجموعة من مواصلة الطريق معهم، أخبرونا أنهم قرروا الذهاب لمدينة جيبا، الجيب الوحيد الذي لم يسيطر عليه الصرب بعد، وقالوا إنهم لا يمكنهم اصطحابنا لأننا غير مسلحين فسوف نكون عبئًا عليهم، وهددونا بأنهم سيطلقون علينا النار إن لحقناهم، نصحونا بالاستسلام للقوّات الصربية فلعلنا نحصل على فرصة للنجاة.
تشاورت مع صديقي ميرزا حول العمل، كنا خائفين جدًّا وليست لدى كلينا أي خبرة عسكرية، أو معرفة بطرق الغابة. وقررنا أن نبحث عن أقرب قرية صربية فنطلب الأمان من سكانها، فلعلهم سيكونون كمدنيين أكثر رحمة.
كنت أعرف أن المجموعة التي تركتنا كانوا في طريقهم لبلدة «نوفا قصبة»، وهناك قرية صربية في الطريق لها، فمضيت مع ميرزا باتجاهها، أصبح الوقت قبيل الغروب تقريبًا ونحن على بعد 300 متر عن القرية. سمعنا أصوات الحيوانات، لم نجرؤ على دخولها علانية، ولكن مشينا باتجاهها من تحت مستوى الشارع. كنا أنا وميرزا عطشين جدًّا ونريد ماء بأيّ ثمن وبدأت المناظر أمامنا مغبّشة بسبب نقص الماء في أجسادنا.
اختبأنا تحت شجرة كرز، وإذ بطائر ينقر حبات الكرز فتقع علينا ونأكلها، سررت كثيرًا وبدأت أملأ علبة فارغة كانت معي بالكرز لآكلها أثناء الطريق لتقوية دمي الذي نزف منه الكثير، وأمطرت السّماء مطرًا غزيرًا ففتحنا أفواهنا نحوها ونحن لا نصدّق أن الماء وصل إلينا. نمنا مكاننا هذه الليلة دون أن يكتشفنا أحد، ولما استيقظنا كان الوقت مشابهًا للذي نمنا فيه! يبدو أننا نمنا أربعًا وعشرين ساعة أو ثمانية وأربعين ربما، ليس لدينا ساعات ولا نستطيع تحديد الأيام. كنا أنا وميرزا منتعشين لما صحونا، وهذا أمدنا بالعزيمة والتفكير الواضح، فقررنا ألا نستسلم ونمضي في طريقنا كيفما اتفق حتى نصل للنجاة، وجدت بعض الأعشاب الطبية مكان نومنا، فاستعنت بها لتخفيف التهاب جرح قدمي.
بهذا التفاؤل قررنا استكمال طريقنا، كنا ننام النهار كاملًا، حيث تكون الميليشيا الصربية تمشِّط الغابة بحثًا عن أي ناجين من سربرينتسا، وقبيل المغرب حيث يكونون قد أووا للاستراحة نبدأ المسير ونستمرّ طوال الليل حتّى تبدأ تباشير الصباح، فنبحث عن مخبأ طبيعي من حفرة أسفل الأشجار، أو مكان تغطيه حشائش كثيفة.
لا أدري كم بقينا هكذا نمشي على غير هدى، مجتنبين الطرق الإسفلتية التي كانت الدّوريّات الصربية تنتشر فيها بكثافة وتجوبها ليلًا نهارًا، ومجتنبين أيضًا قمم جبال الغابة حيث من المتوقّع أن تكون مجموعة مقاتلين قد تمركزت فيها لمراقبة الغابة واصطياد من يحاولون الفرار.
وفي مكان بدا بعيدًا عنّا لمحنا دخّانا يتصاعد من سفح جبل، فسرنا نحوه متأمّلين أن تكون قرية صغيرة نجد فيها بعض الطّعام، فقد كنّا نتغذّى بأقلّ القليل مما نجده من ثمار الغابة، وكانت لا تكفي لسدّ الجوع، اقتربنا حذرين لأبعد مدى وسمعنا صوت أناس يتحدّثون، ولكن كانت أرضًا عراء دون بيوت فتوقّعنا أن يكونوا فارّين مثلنا لجئوا لهذا الجبل البعيد النّائي عن طريق توزلا.
انضممنا لهم، وكانوا حوالي مائة شخص، وصلوا قريبًا من توزلا ولكن لم يستطيعوا اجتياز الطريق الإسفلتي لوجود ميليشيا الصرب، فارتدوا على أعقابهم داخل الغابة واختبئوا فوق الجبل بانتظار فرصة لخلوّ الطّريق، كانت هناك امرأتان بين الموجودين ورجل معه طفلاه. وكانت مفاجأة سارّة لنا أن هناك طعامًا معهم! وهم كانوا يعرفون تاريخ اليوم فعلمت أنه السابع والعشرين من يوليو/تموز وهو يوم مولدي وقد بلغت الثامنة عشرة، احتفلت ببقائي على قيد الحياة بدعوات أرسلتها من قلبي، وقمت للصلاة، وإذ برجل يضربني بقوّة من وراء ظهري صارخًا:
«أين هو الله الذي تصلي له؟ كيف تركنا لهذا المصير؟». كان مؤلمًا لي هذه الحالة الصعبة التي وصل لها هذا الرجل الذي أفقدته مرارة ما حدث في سربرينتسا وأهوال الطّريق الثّقة بأيّ شيء. من ناحيتي كنت أؤمن إيمانًا جازمًا بوجود الله وبقدرته، كانت هناك دائمًا إشارات رحيمة منه تبشرني بأني سأنجو.
كان هذا جبل أودريتش الذي كنّا عليه، والذي ودّعنا قاطنيه المؤقّتين بعد يومين لأنّنا خشينا أن يتمّ اكتشافه في النهاية من قبل ميليشيات الصرب كما اكتشفناه نحن، مضيت مع ميرزا بعد أن تزودنا بمعلومات عن الطرق القريبة وعن القرى الواقعة فيها، لا زلت أذكر ما قلته لميرزا وقتها: «لقد قال لنا أحدهم أنه بقي لنا اثنتا عشرة ساعة لنصل الى توزلا مشيًا، فلنحاول أن نصل إليها حتى ولو ضعنا خلالها فبالتأكيد في النّهاية سنصل بعد اثني عشر يومًا».
كان من المفترض أن نمضي في طريقنا حتى نصل لقرية مسلمة مهجورة، وهناك ربّما نجد شيئًا من طعام أو سقف يئوينا في اللّيل، وحين وصلنا القرية هالني ما رأيت، كانت جثث منتشرة هنا وهناك تملأ المكان وقد تلوّنت بشكل غريب أعتقد أنّه نتيجة لشرب ماء النّهر المسموم الذي كان قريبًا منهم، لم نستطع البقاء في المكان من فظاعة المشهد ورائحة الجثث التي تزكم الأنوف، فتركناها ولم ندخل مبانيها.
في مسيرنا كنا نقترب من حافة الطريق الإسفلتي بقدر معقول حتى نميز خط السير لتوزلا، دون أن نغامر بالاقتراب أكثر حتى لا يتم اكتشافنا، وكانت ميليشيا الصرب تتبع أساليب في غاية الدهاء لكشف أي أحد في الغابة، فمرّة ونحن نمشي سمعنا صوت آذان «إنهم جماعتنا!» هتف ميرزا، ولكني ميزت بسرعة أن الأذان لم يكن بصيغته الصحيحة التي تعلّمتها، بل فقط كان يردد “الله أكبر، لا إله إلّا الله”، وفعلاً تبيّن لنا فيما بعد أنه كان فخًّا، لأن مجموعة مقاتلين صرب كمنت في مدخل الغابة وشاهدناهم من بعيد.
ومن الأساليب الأخرى أنّهم كانوا يهتفون بأسماء مسلمة «يا يوسف، يا أحمد.. تعالوا انضمّوا إلينا أنتم بأمان»، ورأيتهم بعيني واقفين على مدرّعة على الطّريق الإسفلتي جاهزين للانقضاض.
كان هاجسنا أنا وميرزا أن نجد طريقة لقطع الطّريق الإسفلتي الذي لا بدّ منه للوصول للنّاحية الأخرى من الأوتوستراد التي نمرّ عبر غاباتها لتوزلا، لذا كانت خطّتنا التي حرصنا عليها أن نتحيّن فرصة خلوّ الطّريق ونتأكّد من أنّه لا أحد يراقبنا ثمّ نعبره بسرعة.
للأسف، في إحدى مرّات مسيرنا قريبًا من شارع الإسفلت لمحنا أحد الجنود، وبدءوا يطلقون النّار بغزارة حرّكت الأشجار حولنا فسقطت في مزبلة وبقيت ساكنًا هناك. ثمّ قاموا بتمشيط المنطقة بشكل دقيق لأنّهم ظنّوا أنّنا مجموعة، ولم نقم من مكاننا حتى حلّ الظّلام، مشينا نتلفّت في كلّ خطوة، على بعد كيلومترات شاهدنا رجلين يحترقان، أحدهما كان ما زالت النّار تشتعل في شعره، لقد كان في الغابة غيرنا إذن! ملأ الهلع قلبي من منظرهما ودعوت لهما بالرّحمة، وفي طريقنا صادفنا أحدًا بدا أنّه مثلنا، وهكذا انضمّ لنا عصمت.
كان عصمت يعمل كهربائيًّا، ودلّنا على طريقة جديدة لنحدّد خطّ سيرنا، قال إنّ خطوط الضّغط العالي تستمرّ حتى توزلا، وإذا تتبّعناها فسنصل.
في طريقنا مررنا بقرية صربية وانتظرنا حتى خلت الطريق من المارة، فاندفعنا لمقبرة القرية للحصول على بعض الطعام لأن من عادة الصرب أن يتركوا بعض الأكل عند موتاهم، ولا أدري من أين جاء الجنود وكيف رأونا، واندفعوا ليدخلوا من بوّابة المقبرة ليقبضوا علينا، وفي تلك اللّحظة أرعدت السّماء وسقطت صاعقة وانهمر برد شديد، فوجئ الجنود وتراجعوا، واحتمينا نحن بشواهد القبور، وأشعر أن ما حدث كان إنقاذًا ربانيًّا.
بعد القرية وصلنا لمبنى في مكان خالٍ، درنا حوله وبدا لنا معسكرًا احتياطيًّا للميليشيا الصربية، ولكنّه كان مهجورًا. نمنا فيه وكانت هذه أول ليلة أنامها تحت سقف منذ تركت سربرينتسا، كان تاريخ ذلك اليوم الثاني من آب، أذكر هذا لأنني في طريقنا استمعت لراديو يبثّ أخبارًا محلّيّة وذكر تاريخ اليوم.
حين غادرنا المعسكر المهجور سمعنا تبادلًا لإطلاق نار بين جهتين، كنّا على بعد كيلومترات من جبهة قتال، ملأ الأمل قلوبنا بأن نكون قد اقتربنا من الخلاص، لا بدّ أن يكون جنودنا هم في الطّرف الثّاني.
تشبّثنا بهذا الأمل، تسلّلنا حتى بدأنا في الاقتراب من الجبهة، ما زلنا خائفين أن تكون هناك خديعة ما، بدأنا نلاحظ أعقاب سجائر من نوع مختلف عن الذي كنّا نلمحه طوال مسيرنا، وكذلك طلقات فارغة من نوع جديد، كان هذا دليلًا أنه جيشنا.
وهكذا، في مساء استطعنا فيه أن نغافل ميليشيا الصرب، فعبرنا بسرعة خط الجبهة، وصعدنا التلة التي كانت في الجانب الثاني لجبهة القتال، ولمحنا جنود سارعوا بالالتفاف حولنا، كنا ما زلنا في شك أن يكونوا فعلًا أفراد جيش البوسنة والهرسك، ولكني ارتحت لما رأيت قائدهم ينزل وبدأ يهدّئ من روعنا، كان وزني قد صار 43 كيلوجرامًا ووجهي شاحب وهيئتي يرثى لها، وتنفست الصعداء.
هذه حكاية مسيري الطويل نحو النجاة من الإبادة الجماعيّة في سربرينتسا، أرويها كاملة لأول مرة للصحافة، امتنعت لسنوات عن روايتها لأني لا أستطيع تمالك نفسي أثناء حكايتها، فيتصبب مني العرق ويتهدج صوتي، وأشعر بضربات قلبي تتصاعد، ولمدة طويلة فكرت: كيف كتبت لي النجاة حقًّا؟ فأنا لست بالبطل، كنت مواطنًا عاديًّا وأخي أسد رحمه الله ربما كان أجدر بالنجاة مني، كان قد أنهى دراسته العسكرية ومقاتلًا شجاعًا ومدربًا بالتأكيد على المواقف الصعبة. لكنها إرادة الله قضت أن أعيش ويموت هو، أرجو أن يكون هانئًا عند ربّه، أمّا أنا فلا أكفّ عن التفكير فيما حدث آنذاك في سربرينتسا، ولفرط المشاهد المؤلمة التي شاهدتها في مسيري صرت خبيرًا في اكتشاف المقابر الجماعيّة لضحايا المجزرة، واستعانت بي المؤسّسات المسئولة لأدلهم على مواقعها. وترأست جمعية الناجين من ضحايا الإبادة الجماعية التي سعت للمطالبة بمعاقبة الذين قاموا بالمجازر، إن العدالة مبدأ أصيل لا بد أن نحارب لإقراره.
بعد أيام قليلة سأبلغ الثانية والأربعين، وسنواتي كلها في الحقيقة التي تلت مغادرتي لسربرينتسا اعتبرها عمرًا ثانيًا كتب لي، ولا يسعني إظهار مدى امتناني أنّي على قيد الحياة رغم مشاهدتي الموت وجهًا لوجه، كم هي الحياة غالية! وكم هي الحرية ثمينة بالفعل! لكننا لن نكون أحياء حقًّا وأحرارًا حقيقيين إذا لم نفكر بغيرنا ونقدر قيمة حياتهم التي أهدرت في سبيل شوفينية عمياء وطمع قادة في نيل مجد على حساب الملايين، علمني المسير كيف أكون حيًّا بالفعل، إنني كل يوم أعيش عمري الجديد.