مسلسل Squid Game: هل يستحق كل تلك الضجة؟
هل من الممكن أن يعيد فيلم إعادة تعريف مصطلح ما في اللغة والثقافة الشعبية؟
اعتاد مصطلح المعركة الملكية battle royale الإشارة إلى أي عراك محتدم يضم شخصين أو أكثر في ساحة محددة ويتحدد الفائز بنجاة شخص واحد، ليس من الموت بالتأكيد لكن من يبقى واقفًا بعدما طرح الجميع أرضًا، في عام 2000 اقتبس المخرج الياباني كينجي فوكاساكو رواية صدرت في العام الذي سبقه إلى فيلم بعنوان المعركة الملكية Battle royale، تناول الفيلم قصة ديستوبية عن واقع ياباني مُزرٍ صنعته سلطة فاشية خيالية تملك سيطرة كاملة على شعبها، في تلك المعركة يتم اختيار طلاب مدرسة واحدة بشكل عشوائي في كل عام لكي يخوضوا معركة حتى الموت ينجو منها طالب واحد أو طالبة بعدما ينجح في التخلص من زملائه في قتال وحشي على جزيرة نائية، أثناء ذلك يراقب المدرسون وعناصر الجيش تلك المعركة، في ترقب وكأنما يشهدون مباراة مصارعة منتظرة على قناة تلفزيونية.
بعدما أثار الفيلم جدلاً واسعًا نظرًا لاحتوائه على عنف مروع بين الأطفال والمراهقين، تم إعادة تقييمه حتى أصبح علامة في سينما الرعب والإثارة اليابانية والعالمية ومن أكثرها تأثيرًا في الثقافة الشعبية، بل إنه بسببه تم إعادة تعريف ما يعنيه مصطلح battle royale ليشير إلى نوع من الحبكات في الوسائط البصرية والأدبية تتضمن قتالاً يفضي إلى الموت وينجو منه فائز واحد، عادة ما يكون القتال موجهًا من سلطة فاشية، ربما تتذكر تلك الحبكة بأسماء أخرى مثل ألعاب الجوع the hunger games على سبيل المثال، أما إذا كنت منغمسًا في الثقافة الشعبية الحالية ومنصات البث فمن المؤكد أنها أعادت إلى ذهنك مسلسل لعبة الحبار squid game، آخر وأنجح إصدارات نتفليكس العالمية. كسر لعبة الحبار الكثير من الأرقام القياسية بدون ضغط إعلامي أو توجيه منظم، بل انتشر بالتداول الشفهي للمعلومات والإعجاب حتى أثار فضول الجميع.
يكمل لعبة الحبار سلسلة من النجاحات العالمية الصادرة من كوريا الجنوبية التي تركز تحديدًا على مناقشة الفجوة الطبقية الهائلة محليًا لكنها تصل بسهولة إلى جمهور عالمي يشهد الفجوة ذاتها بأشكال مختلفة، يتكون المسلسل من تسع حلقات مكتظة بالأحداث والشخصيات تحث على المشاهدة دون توقف binge watching، وتجمع بين التسلية والنقد المجتمعي. لكن هل يستحق المسلسل ذلك النجاح الجماهيري والنقدي الذي حظي به، أم أن ظاهرة نجاحه واكتساحه لأعداد المشاهدات في العالم هو مجرد صدفة مدفوعة بالفضول؟
مجاز الحالة البشرية
يبدأ مسلسل لعبة الحبار بإرساء عالم الشخصية الرئيسية سانج جي هان (لي جانج جي) وتحديد طبقته الاجتماعية ومعاناته المادية والأسرية وهو ما سوف يترتب عليها فهم دوافع أفعاله المقبلة وفهم بقية الشخصيات بالتوازي، جي هان رجل في منتصف عمره، مدمن للمقامرة والرهانات، يعيش على النقود المحدودة التي تجنيها والدته المسنة وعلى مكاسب المقامرة غير الثابتة وبالطبع يدين بأموال طائلة نتيجة خسائره المتكررة، يملك طفلة في السابعة تعيش مع والدتها وزوج تلك الوالدة، يعجز عن تلبية احتياجاتها الأساسية ويمتد ذلك إلى الفرعية مثل هدايا عيد الميلاد وتواجده كأب نشط في حياة ابنته.
يكفي ذلك التعريف لتبرير كل ما هو آت، فبعد تلك البداية المسالمة الواقعية يبدأ العمل في أخذ منحى خيالي وديستوبي لكن أحداثه تقع في الوقت الحالي وليس في مستقبل قريب وهو ما يضاعف تأثيره، يصطدم جي هان برجل وسيم يبدو كمندوب مبيعات، يعرض عليه صفقة سوف تغير حياته إلى الأبد وهو أن يلاعبه لعبة طفولية سهلة ويكسب من جرائها مبلغًا كبيرًا من المال، يؤدي ذلك اللقاء العابر في محطة قطار الأنفاق إلى دخولنا مع الشخصيات في عالم تحت أرضي يحكمه جيش ذو ملابس وردية وأوجه مقنعة يعرض على مجموعة من أفراد الطبقة الوسطى والعاملة والفقيرة من المديونين لعب مجموعة ألعاب طفولية شهيرة بالنسبة للأطفال الكوريين لكنها ذات مخاطر عالية، أصغر خطأ سوف يعرضك لرصاصة مميتة دون تفاهم، وفي المقابل سوف يحصل من ينجو على مبلغ ضخم من المال يمكنه من تسديد ديونه والعيش دون قلق مادي.
حتى الآن تبدو تلك العوالم مألوفة، اختبرناها في ألعاب الجوع والمعركة الملكية وغيرها، فنحن أمام لعبة تحت إشراف جيش فاشي لا يعرف الرحمة، وبالطبع تمثل تلك اللعبة مجازًا يتعلق بالعالم الذي نعيش فيه، في المعركة الملكية النسخة الأولى من ذلك النوع يأتي المجاز مستترًا وقابلاً للتفسيرات المتعددة، من الممكن تحليله كقصة تتأمل الفجوة العقلية الكبرى بين البالغين والصغار في اليابان أو أن يكون الصغار ممثلين لطبقة اجتماعية معينة أو من الممكن حتى إخراج البالغين من المعادلة ومشاهدة القصة كتمثيل لصعوبات الحياة المدرسية الثانوية، فقصص الحب العنيفة تصبح عنيفة بشكل حرفي وتصبح الصداقة معرضة لاختبارات حياة أو موت، فهل ستختار التضحية من أجل صديقك أم قتله والنجاة بحياتك؟
كذلك في ألعاب الجوع، توجد العديد من التحليلات والإسقاطات على طبيعة الإعلام والحياة السياسية المعاصرة، عن الثورات وعواقب فشلها، في لعبة الحبار نحن أمام مجاز مباشر، يُتلى علينا كل حلقة دون فرصة لتفسيرات متعددة، صراع بسيط وبدائي بين الغني والفقير، وعواقب تراكم الديون وطبيعة البنوك الجشعة والقروض الضخمة، قلة حيلة الفقراء وسيطرة أصحاب رؤوس الأموال الكاملة على من تحتهم، تتفرع من ذلك قضايا متعددة لكن يتم تناولها بأكثر الوسائل سطحية ويتم نسيان بعضها أحيانًا، مثل خط تجارة الأعضاء الذي تم إدراجه ثم تخطيه دون تأثير حقيقي، وفي النصف الأخير من المسلسل يظهر مشاركون جدد في سلسلة العنف، مجموعة من الرجال ذوي الملامح الأوروبية يجتمعون لمشاهدة مجموعة من الفقراء الآسيويين يقتلون بعضهم البعض، يراهن الأثرياء على لاعبيهم المفضلين وينفقون أموالاً طائلة للخروج من ضجر الحياة.
تم كتابة ذلك الجزء من العمل بأكثر الأساليب سذاجة، حوار إنجليزي ركيك وطفولي بدون ثقل أو معنى حقيقي، مجموعة من الأثرياء المغفلين يستعيضون عن التلفاز بالعالم الحقيقي لأنهم يشعرون بالملل من حيواتهم المثالية وأموالهم الطائلة، لا تضيف تلك الشخصيات أي ثقل للمجاز الرئيسي الواضح منذ بداية العمل، يرجعنا ذلك إلى طبيعة كتابة الشخصيات في المسلسل بشكل عام، فبعيدًا عن الشخصيات العارضة فإن الشخصيات الرئيسية تمثل مجموعة من الأنماط تشبه أفلام المدارس الثانوية، ربما يرجع ذلك لتأثر الفيلم بسابقيه من الأفلام التي جعلت من المراهقين أبطالاً لقصصها، لكن ذلك بالضبط هو موضع قوته فالشخصيات الأكبر سنًا تملك مسئوليات وتعقيدات أكبر فكل منها يملك عائلة تنتظره خارج عالم اللعبة وديونًا يجب تسديدها وحيوات يجب أن تستمر.
الشخصيات وما تمثله
تتكون حلقات لعبة الحبار من مجموعة ألعاب متنوعة بعضها فردي وبعضها جماعي، عندما تصبح الألعاب جماعية تظهر ديناميكية العلاقات بين الشخصيات وطبيعتها الفردية، لكن يظهر ذلك أيضًا نقاط ضعفها كتابيًا، يمضي المسلسل وقتًا طويلاً في تشكيل تحالفات متضادة، مجموعتان من الشخصيات يمكن تقسيمهما إلى مجموعة ذات ملامح أخلاقية ومجموعة ليست كذلك، وبالطبع تملك المجموعة الأولى بينها شخصًا متلاعبًا يدعى النبل لكنه يملك أنانية متجذرة به، بينما تشبه المجموعة الثانية عصابات المتنمرين في المدارس الثانوية يترأسها شاب قوي البنية يملك وشمًا على وجهه وامرأة لعوب مكتوبة بكراهية كبيرة للنساء وتنميط مزعج، يتمثل دورها كله في عرض خدماتها الجنسية على الرجال في مقابل أن تتخطى مراحل الألعاب المختلفة، أما مجموعة الطيبين فيترأسها بطل المسلسل جي هان بجانب شاب متعلم جامعي لئيم وخادع وتتضمن مهاجرًا باكستانيًا يحاول أن يجد نفسه في مجتمع لا يتقبله، ورجلاً مسنًا مغلوبًا على أمره وفتاة متجهمة جميلة لكنها طيبة القلب يمكن أن تتوقع تطور شخصيتها لحظة رؤيتك لها.
يستخدم مخرج العمل هوانج دونج هيوج تلك الآلية لاستكشاف الطبيعة البشرية والتعاطف الإنساني وتغلغل الفساد في النفوس، ويصنع بذلك التقسيم لحظات المسلسل المؤثرة فلا توجد مساحة للغموض أو خلق روابط مختلفة بين المشاهدين والشخصيات، لكل شخصية دوافعها الواضحة المحددة سلفًا، المتعلم اللئيم يبدو لئيمًا والمهاجر الساذج لا يضيع فرصة لإثبات ذلك وبالطبع البطل الكسول طيب القلب، وعندما يقرر العمل خلق رد فعل عاطفي بكائي يفعل ذلك بشكل متلاعب ومتوقع فيضع كل شخصيتين متقاربتين معًا في لعبة تتطلب ثنائيات، فنرى ندم جي هان ونواياه الملتبسة بين شفقته على منافسه الضعيف ورغبته في الفوز، كذلك نرى حيلة ودهاء الشاب المتعلم الثري سابقًا هاي سو واستغلاله طيبة علي المهاجر، وتتفتح أمامنا الفتاة الغامضة سي بيوك ونرى مدى هشاشتها المستترة خلف وجه من حديد، لكن على الرغم من فقر كتابة تلك الشخصيات وتسطيحها فإن الممثلين المؤدين لها جعلوها أكثر آدمية بأداءات مؤثرة ومخلصة.
لماذا تلتوي الحبكة؟
يتم وصف لعبة الحبار بكونه مسلسلاً سياسيًا ذا نزعة نقدية واضحة للرأسمالية وحتى للشرطة والسلطة العسكرية، يدمج العمل في وسط أحداثه المتسارعة شخصية شرطي صغير السن يبحث عن أخيه المحتجز داخل اللعبة، يمثل الشرطي الوسيم الجانب الجيد من الشرطة لكنه استثناء في نظام فاسد، فزملاؤه ورؤساؤه في العمل لا يأخذون اللعبة بجدية، يتخاذلون ويسخرون منه ومن الادعاء نفسه بأن هناك مؤسسة تحت أرضية تستغل عوز الناس وتخلق عالمًا مفرط العنف، لذلك يأخذ على عاتقه مهمة التسلل إلى ذلك العالم لكي يحل اللغز ويجد أخاه، وبعد رحلة طويلة من البحث والتخفي والتعرض للمخاطر يكتشف ببساطة أن أخاه هو قائد الجيش السري، في مواجهة تمثل التواءً مفاجئًا للحبكة يقف الشرطي أمام قائد جيش اللعبة وعندما يخلع القائد قناعه نتفاجأ معه بأنه أخوه، في صدفة ميلودرامية غير مؤثرة وليست ذات معنى إلا ذلك المعنى القصصي الطفولي أنه يمكن لشخصين من أسرة واحدة أن يأخذا طرقًا متنافرة أخلاقيًا.
تستمر التواءات الحبكة العشوائية عندما يفوز بطل المسلسل باللعبة ويحصل على مبلغ خيالي من المال لن يكفي عمره كله لإنفاقه، لكنه يخرج للعالم الحقيقي ليجد أن كل ما قاتل من أجله ليس موجودًا، يخرج محملاً بذنب الجرائم التي ارتكبها، ويدرك هشاشة المادة وعدم كفايتها لصنع معنى للحياة، عندها يقابل زميله العجوز من جديد رغم وفاته في اللعبة، يتضح أنه هو العقل المدبر لكل شيء، شخص فاحش الثراء وضجر يريد التسلية لذلك صنع مجموعة ألعاب لمتعته الخاصة تذكره بطفولته البسيطة المتحررة من الهموم، لكنه أيضًا شخص ساخر ويائس لا يصدق في الخير الكامن في الإنسانية، لذلك يرى أن البشر يستحقون العقاب، تقلل تلك المفاجأة من الثقل السياسي للمسلسل وتنقله من نقد مؤسسي للرأسمالية والفاشية العسكرية إلى عمل آخر يشخصن المعاناة الجماعية ويتفه من أسبابها الحقيقية، فيصبح كل العنف والأذى الذي شهدناه على مدار تسع حلقات ما هو إلا وسيلة للتسلية، في لحظة ما نستدرك أن العنف الذي نراه على الشاشة يعمل كتسلية لنا تمامًا مثلما يستهلكه الأثرياء الغرب المقنعون بأقنعة حيوانية، البلهاء الذين يتفوهون بالنكات المراهقة حول الأوضاع الجنسية.
لعبة الحبار هو أحد أكثر الأعمال شعبية في اللحظة الراهنة، يثير تساؤلات حول تعرض الأطفال للمواد العنيفة وتوفر منصات البث للجميع دون رقابة، هو أشبه بظاهرة ثقافية لكن لا أحد يهتم كثيرًا بأفكاره السياسية الهشة، بل بالأدرينالين الناتج عن مشاهدة مجموعة من الأشخاص يرمون بعضهم البعض بالرصاص في لعبة للأطفال، ذلك لأن مجازاته السياسية غائمة وطفولية مباشرة يتم نسيانها فور قولها، أما تأثيره الحقيقي يمكن في جماليات العنف الجماعي وطبيعته الجذابة والمثيرة التي سوف تحقق لصناعه الكثير من الأموال والشهرة، ولمشاهديه فرصة لمشاهدة موسم ثانٍ ينهون حلقاته في ليلة واحدة متطلعين للمزيد.