التجسس على أجهزة الاستخبارات: دروس من تاريخ السوفييت
يبدو لك عنوان المَقال مُزحة أو نكتة فاترة، فأجهزة الاستخبارات موّكل إليها حماية أسرار الدولة من عمليات التلصص والتجسس، فكيف يقوم شخص بالتجسس على جهاز استخبارات؟ أو بالأحرى كيف يقوم جهاز استخبارات بالتجسس على جهاز استخبارات مُعادٍ أو حتى صديق؟
وكما يقول الصحافي الاستقصائي بصحيفة النيويورك تايمز «مارك مازيتي»:
الدفاع عن النفس
الكثير منا يربط كلمة استخبارات Intelligence بعمليات التجسس، لكن لأجهزة الاستخبارات وظائف أخرى غير التجسس منها؛ حماية نفسها من اختراق أجهزة الاستخبارات المعادية لها.
كي أشرح لكم تلك الكلمات المُعقدة، علينا الطواف حول وظيفة أساسية لأجهزة الاستخبارات؛ وهي «الاستخبارات المُضادة أو الوقائية» Counter-intelligence، والتي تتضمن اكتشاف الجواسيس والزج بهم في السجون، فما بالنا إن كان الجاسوس يعمل داخل جهاز الاستخبارات الذي يتجسس عليه؟ خطورة الأمر أنه يُمكن لجاسوس يعمل في الاستخبارات نقل معلومات غاية في السرية والخطورة لجهاز استخبارات مُعادٍ، فمثلًا يُمكنه الدخول إلى ملفات العُملاء السرية وبيع أسمائهم لمن يهمه الأمر.
ومن هنا كان على أجهزة الاستخبارات أن تُدافع عن نفسها وتحمي العاملين فيها من الوقوع في فخ العمالة لأجهزة استخبارات مُعادية، أو بلغة الاستخبارات يصبحون «عُملاء مزدوجين»، أي العمل لصالح جهازيْ استخبارات في الوقت نفسه.
ولهذا لا تسمح (بعض) أجهزة الاستخبارات لأي من أفرادها المطّلعين على الأمور بالسفر إلى الخارج، سوى هؤلاء الذين يتطلب عملهم أصلًا التواجد خارج الدولة، مثل مسئولي الاستخبارات في السفارات، ففي كل سفارة يكون هناك مسئول استخبارات، وضباط الاتصال مع العُملاء، الذين يتقابلون مع المُتعاونين -الجواسيس- في أراضٍ أجنبية.
المنع من السفر يكون خوفًا من تجنيدهم من قبل أجهزة استخبارات مُعادية، وإن كان السفر ضروريًا، فإنه يلزم موافقة أعلى رأس في الدولة. كما أن حساباتهم المصرفية تكون دائمًا مُراقَبة، كما يجب موافقة الجهاز على سفر الزوجة، ويُمكن أن تطال تلك الاحتياطات الأمنية أبناءهم.
ولهذا أيضًا -بجوار طلب الكفاءة- تُغربل أجهزة الاستخبارات المُرشحين للعمل في مَكاتبها، وبعد فحص دقيق، ولا تقبل أن يعمل في مكاتبها الداخلية أي شخص أجنبي أو مزدوج الجنسية حتى يضمنوا ولاءه إليهم فقط (تقبل التعامل والتعاون مع الأجانب من أجل مصلحتها). ويظل ضباط الاستخبارات طيلة الوقت تحت المُراقبة، فيما نستطيع أن نُسميها «دائرة المُراقبة» أي الجميع يراقب الجميع.
هذه اللوائح والقوانين نتاج أن أجهزة الاستخبارات تعلّم نفسها بنفسها، ولا يُسمَح بتكرار الخطأ، فحينما يرتكب جهاز استخبارات خطأ ما، فإن أجهزة الاستخبارات تدرس هذا الخطأ وتعدل من طريقة عملها كي لا يتكرر مرةً أخرى.
ماذا حدث لمكتب الاستخبارات الخارجية البريطانية MI6؟
اعتنق «كيم فيلبي» Kim Philby الشيوعية عندما كان طالبًا بجامعة كامبريدج، والتي تبعد عن لندن 60 ميلًا، وفي عام 1933 جنّدته الاستخبارات السوفييتية للعمل لصالحها، وكانت إحدى مهامه الأولى تحديد زملائه الشيوعيين في كامبريدج وتجنيدهم، وقد عرفوا فيما بعد بـ «خماسية كامبريدج Cambridge Five» وهم دونالد ماكلين، وغاي بورغيس، وكيم فيلبي، وأنتوني بلانت، وجون كيرنكروس.
عُين الجاسوس الروسي في مكتب الاستخبارات الخارجية البريطاني MI6، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية أصبح فيلبي رئيسًا لعمليات مكافحة التجسس لـ MI6، حيث كان مسئولًا عن مكافحة التخريب السوفييتي في أوروبا الغربية. ثم تم إرساله إلى واشنطن للعمل كرئيس لضباط MI6 هناك وكضابط اتصال أو ارتباط بين أجهزة الاستخبارات البريطانية والأمريكية، في الوقت ذاته كان ينسخ الأوراق السرية ويسلمها إلى ضباط الاستخبارات السوفييت خلال لقاءات سرية.
سرّب فيلبي إلى السوفييت معلومات مفصلة عن MI6 ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA، وكشف إلى السوفييت عن كثير من الخطط التي كانت تُحاك في الظلام ضد بلدهم، وسرّب إليهم أسماء عملاء MI6 الفاعلين في أوروبا.
وبحكم عمل فيلبي كرئيس لعمليات مكافحة التجسس، علم أن الشك يحوم حول اثنين من زملائه الجواسيس في خماسية كامبريدج، حذرهما مُبكرًا من أنهما أصبحا موضع شك، فهرب الرجلان إلى الاتحاد السوفييتي عام 1951.
بعد فرار بورغيس وماكلين، وقع الشك على فيلبي، وتم إعفاؤه من مهام الاستخبارات في عام 1951 ثم طُرد من MI6 عام 1955؛ وفي العام ذاته طالب الحكومة بإظهار دليل على خيانته أو الاعتذار الرسمي فتمت تبرئة الجاسوس من تُهمة التجسس، وتم الاعتذار إليه رسميًّا. استغل ذلك وعقد مؤتمرًا صحفيًا ليبدأ من جديد، وبعد ذلك سافر إلى بيروت للعمل كمراسل أجنبي.
في ديسمبر/كانون الأول 1962 اكتشفت MI5 (وكالة الاستخبارات المعنية بالأمن القومي بالمملكة المتحدة) أدلة تربط مُباشرة بين فيلبي وجواسيس كامبريدج الفارين، أرادت إرسال محققها الخاص لمواجهة فيلبي لكن MI6 اعتقدت أن العميل المزدوج (فيلبي) سيكون أكثر عرضة للبوح أمام زميل قديم.
في عام 1963، انهار فيلبي واعترف بخيانته أمام صديقه نيكولاس إليوت (ضابط استخبارات في MI6). اعترف يوم الجمعة واختفى يوم السبت؛ في 23 يناير/كانون الثاني 1963 فرّ من بيروت على متن سفينة شحن سوفييتية.
اُستقبل في موسكو ببرود، استقر بها ووصل في نهاية المَطاف إلى رتبة عقيد في جهاز الاستخبارات السوفييتي KGB. ونشر كتابًا بعنوان My Silent War، يعرض فيه حكايته بالتفصيل.
التعلم من أخطاء MI6
كان يُمكن لـ MI6 تجنب كيم فيلبي منذ البداية بالتحري القوي عن ماضيه والأيديولوجيات التي يعتنقها، فمن غير المعقول أن يعمل في الاستخبارات البريطانية شخص شيوعي ولاؤه للعدو في موسكو، ولهذا لا تقبل أجهزة الاستخبارات موظفين في مكاتبها من أصحاب الأيديولوجيات المُتطرفة أو المُخالفة لنظام البلد.
حتى وإن تسلل كيم فيلبي خِلسة إلى وظائف MI6، كان يُمكن كشفه عن طريق مُراقبة العاملين في الجهاز: مع من يتقابل؟ مع من يتعامل؟ أين يذهب؟ أيضًا مُراقبة مُمتلكاته وحساباته المصرفية والتي كان من المُحتمل أن يضع فيها أموالًا زائدة عن المعتاد؛ تقاضاها من الروس.
ولكن، يظل تجنيد جاسوس داخل جهاز استخبارات العدو أمرًا شاقًا ونادر الوقوع، ولكن إن فزت به يومًا ما فيجب أن تقلق وتعدّ أصابعك خلفه، لأنه من الممكن أن يكون مُخادعًا، وما يجري تمثيلية أعدتها استخبارات العدو من أجل تمرير «معلومات مسمومة» إليك عن طريق رجُلهم، الذي يتظاهر بأنه يعمل لصالحك.
مصطلحات هامة
1. الاستخبارات المضادة Counter-intelligence
جانب من الاستخبارات يشمل كشف وتحديد ومنع والقضاء على: عمليات التجسس والتخريب والأنشطة الهدامة وغير ذلك من أنشطة الأفراد والمجموعات الأجنبية والمحلية والكيانات الأخرى، المعادية للأمن القومي والسلامة العامة. كما تشمل مهام الاستخبارات المضادة كشف الأنشطة التي تقوم بها البلدان الأخرى ووكالات الاستخبارات التابعة لها والهيئات الأمنية والهيئات والمؤسسات الأجنبية، بهدف تقويض المصالح الأمنية للدولة والقوات المسلحة والحكومة، والتحري عن تلك الأنشطة والحيلولة دون وقوعها.
2. عميل مزدوج Double agent
هو شخص يشارك في نشاط سري لجهازين للاستخبارات أو الأمن (أو أكثر)، يوفر معلومات عن واحدة لصالح أخرى، ويتظاهر بأنه يخدم مصالح جهاز استخبارات بينما هو في الحقيقة يخدعه ويضر بمصالحه. وقد يكون العميل المزدوج ضابط استخبارات أو جاسوسًا عاديًا في خدمة دولتين متنافستين، يتظاهر بأنه يخدم إحداهما بينما هو يعمل ضدها.
- مارك مازيتي، “حروب الظل: الحروب السرية الامريكية الجديدة”، ترجمة: أنطوان باسيل، الطبعة الثالثة، (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2016)، ص 37.