رواية «ربيع الشتات»: وجوه أخرى لثورات الربيع العربي
غيَّرت الثورات العربية وجه الحياة بشكلٍ كبير لا مفر من محاولات رصده والتعبير عنه، وكان الأدب والروايات أصدق وأقرب الوسائل، وربما أكثرها خلودًا على الأيام، التي استطاعت أن ترصد وتحكي وتتأمل لترصد الكثير بدءًا بالأحداث الجارية الساخنة في وقت الثورات، مرورًا بالتحليلات والتأملات الخارجية لما نتج عنه ذلك الحراك السياسي والاجتماعي وما أنتجه على نفس الأفراد وتركيبة المجتمعات، انتهاءً بالتقييم السلبي أو الإيجابي لما حدث وهل كان ذا جدوى ونفع أم أنه ورط البلدان في المزيد من الدمار فحسب!
منذ ستينيات القرن الماضي ومع فترة الانفتاح التي شهدتها مصر سافر عدد كبير من المصريين طلبًا للزرق في دول الخليج، ورغم الأثر الكبير الذي حدث في غربتهم عن أهلهم ووطنهم، واحتكاكهم المباشر بمجتمعات مختلفة عنهم وأفكار وعادات وتقاليد مغايرة كثيرًا لما نشأوا وتربوا عليه، رغم أنها بيئات عربية مسلمة، إلا أن الرصد الروائي لهؤلاء المغتربين لم يكن بالقدر الكافي في مسيرة الرواية العربية، فلا نذكر من ذلك إلا رواية إبراهيم نصر الله «براري الحمى» و«البلدة الأخرى» لإبراهيم عبد المجيد، فيما نجد العديد من الروايات التي ناقشت الاغتراب عالميًّا.
من الثورات العربية إلى اغتراب العرب داخل مدنهم العربية ينقلنا الروائي سراج منير في روايته «ربيع الشتات» الصادرة في العام الماضي عن دار الكتب خان والتي تتوقف لترصد تجارب عدد من الثورات العربية دفعة واحدة، وكيف أثَّرت وغيَّرت في حياة وعلاقات ونفسية مجموعة من الشباب العربي المغترب صادف أن اجتمعوا في الكويت في وقتٍ واحد بعد ما لحق بهذه الثورات من هزائم.
ولا شك أنها فكرة طموحة في البداية من الكاتب أن يسعى للم شتات الربيع العربي ورصده وتصويره وتناوله في عملٍ روائيٍ واحد، ولا شك أيضًا أن الرهان سيكون صعبًا مع القارئ منذ سطور الرواية الأولى، إذ يقفز التساؤل هل يستطيع الكاتب أن يلم بكل هذه الثورات والأحداث والمواقف مع تعدد شخصيات روايته ليطرح الموضوع بشكلٍ روائي صحيح؟
بين بناء الشخصيات وسيطرة الأفكار
نبدأ التعرف على أبطال العمل وشخصيات، حسن من مصر مدرس اللغة العربية الذي يعمل سائقًا، وصديقه هشام من ليبيا الذي يبدأ حارسًا للعقار ثم يتحول للكتابة الصحفية، وكذلك عبد العزيز من سوريا الذي لم يتم التركيز على حكايته كثيرًا، بالإضافة إلى شخصيات نسائية جانيس من الفلبين، وشيخة من الكويت.
ولعل أكثر ما يميز الرواية هو قدرتها على عرض هذا العدد من الشخصيات مختلفة التوجهات والجنسيات، وما يشير إليه اجتماعها في مكانٍ واحد، وتشكل علاقتهم معًا من أن مشاكل الإنسانية هي مشاكل عامة لا علاقة لها بالجنس أو اللون، وأن الهم الذي يصيب شعبًا من الشعوب لا شك سيصيب شعوبًا أخرى، وأننا في النهاية كلنا في الهم عرب وبني آدم، يجمع بيننا العديد من الهموم المشتركة والأحزان والأفراح المتشابهة رغم كل ما يمكن أن نرصده بين ذلك من اختلافات.
هناك مشكلات عابرة في طريقة بناء بعض الشخصيات في الرواية، وصياغة المواقف والأحداث التي يمرون بها، فنحن لا نكاد نتعرف على حسن وهشام ودوافعهم في العمل حتى نوضع في تلك المواقف التي يمرون بها، بل المصادفات التي توضع في طريق بعضهم، والتي تبدو في كثير من الأحيان غير منطقية مثل هشام مدرس اللغة العربية الليبي الذي تحوله محادثة بسيطة مع رئيس التحرير إلى كاتب مقالات في الجريدة، لنفاجأ بأن رئيس التحرير يقرأ المقالات ثم يرفضها، فيتعرض هشام للطرد من الكويت فيعود رئيس التحرير لقبول عمله في الجريدة! (بغض النظر عن أن ما يكتبه هشام هو حكايات عن الثورة في ليبيا وليس مقالات).
كذلك رسم بعض العلاقات غير واضحة المعالم بين حسن وجانيس مثلًا، والتقلبات بين حكايتهم وعلاقته بحبيبة القديمة نهلة. بغض النظر عن كونها فلبينية وهو مصري وأن العلاقة بينهما لا شك سيشوبها على الأقل في البداية الكثير من التعثر بسبب اللغة. ثم تأخر السارد في تعريفنا بخلفيات علاقات جانيس بزوجها السابق، وأثر ذلك عليها بعد فشل علاقتها مع حسن.
كما أن استخدام صيغة الراوي الخارجي غير العليم أفقد الرواية الكثير من التشويق، ذلك أنه يحدثنا عن كل شخصية وتفاصيل حياتها عن طريقة الصدفة بين الأحداث التي تجري في الرواية، مما يقلل من تفاعل القارئ مع الشخصيات والأحداث، فليس هو الراوي العليم الذي ينقل الصورة كاملة، ولا هو الراوي المتكلم الذي يضعنا في الأحداث مباشرة!
مشكلة أخرى تبرز في الرواية تتعلق بمحاولة التعبير عن الثورات العربية ورصدها من خلال مواقف هذه الشخصيات وعلاقتهم بالثورات في بلادهم، وبغض النظر عن النهاية التي نعرفها جميعًا عن إخفاق أو فشل محاولات الثورة في الوصول للناس بما كانوا يصبون إليه من كرامة وإنسانية وحقوق. فإن هناك مشكلة في طريقة عرض السارد/الكاتب لتلك الأحداث، وإيجاز مخل، بل سطحي في بعض الأحيان لموقف الناس من الثورة مثلًا، يأتي ذلك في حكاية حسن التي يحكيها لحبيبته:
مشكلة مقطع مثل هذا لا أنه يعرض الموقف بشكل سطحي فحسب، ولكن قد لا يفهم القارئ منه المقصود بالكلام الذي صدقه الناس مثلًا، وكيف اجتمع الشيوخ والقوادون والجلادون في صفٍ واحد ولماذا؟!
رغم هذه المآخذ التي يمكن رصدها والتجاوز عنها في العمل، تبقى الرواية فكرة طموحة، وطريقة عرض مختلفة لعدد من شباب الوطن العربي وكيف أثَّرت فيهم هذه الثورات التي غيَّرت شكل حياتهم تمامًا وقلبتها رأسًا على عقب، والتي استطاع الراوي/الكاتب أن يحيط بجوانبها بشكلٍ جيدـ وأن يعرضها على هذا النحو، وربما يرجع السبب الرئيس لمعرفته وإحاطته بهذه الشخصيات وعالمها كونه يعمل هناك طبيبًا للتجميل في الكويت، كما أشار في حوارٍ معه أنه اختار عرض مشكلة ليبيا تحديدًا لأنها لم تلقَ اهتمامًا إعلاميًّا كبيرًا من جهة، ولأن له صديقًا ليبيًّا عاش مثل تلك المعاناة وعرف منه تفاصيلها.
هكذا استطاع سراج منير في النهاية أن يضع رواية واقعية تحكي صراعات هؤلاء الشباب العربي، وترصد بدقة وبكثيرٍ من التفاصيل الصادقة مشاعر وأزمات جيل كامل يسعى للحياة، ولكنه يواجه طوال الوقت بالمزيد من الفشل والإخفاقات، كما يضع رهانه في النهاية على الحب كمنقذٍ وحيد وسط كل ما مروا به من فوضى وصراعات ومشكلات.
سراج منير روائي وطبيب تجميل مصري، من مواليد كفر الشيخ، صدر له رواية سبعة زيرو من قبل، وحصلت روايته “حكاية جديدة للأندلس” على جائزة راشد بن حمد للإبداع عام 2020.