ربيع الديموقراطية يصنع خريف الخوف: سياسات صناعة الخوف
الخوف حالة غريزية نفسية ملازمة لطبائع الإنسان، تظهر حين يحس الفرد باحتمال التعرض لخطر ما يهدد أمنه وحياته، فهو انفعال من جملة العناصر الأخرى التي تشكل مزاج الإنسان وتحكم نفسيته، فيحدث إثر ذلك تفاعل ديناميكي ذهني سلوكي يكون استجابة معينة للمثير المتعرض إليه. والخوف نقيض الأمن الذي يؤدي إلى توازن النشاط الفردي والمجتمعي.
ومن زاوية تاريخية تعد ثقافة الخوف ميدانًا واسعا لممارسة الضبط الاجتماعي والسياسي وحتى القهر، وقد عرفته مختلف الثقافات القديمة وسعت إلى تأسيسه تحت ألوان ومسميات فنية رمزية مختلفة منها الأساطير الشعبية، التي تتخذ من المبهم والمجهول الذي يراقب ومستعد للفتك والإيذاء مادتها الأساسية ومنها يستمد الراوي والمشعوذ والكاهن قوته وهيبته، مع الأخذ في الاعتبار أن رموز الخوف تختلف من ثقافة إلى أخرى، وفق ما تقتضيه طبيعة التجربة الثقافية للجماعة، وبنية النظام الاجتماعي والسياسي للسلطة.وبما أن ثقافة الخوف بشكلها التقليدي لم تعد ثقافة الخوف المجدية لأداء نفس الأدوار التاريخية، وبفعل توسع رقعة التعلم والمتعلمين، وانتشار المخترعات المختلفة والكهرباء، فقد سعت القوى الجديدة إلى استثمار هذه الثقافة لكن في قوالب جديدة لتصبح مادة مصنعة تحت الطلب، لا تخضع لرمزية دائمة وإنما تتغير بتغير المواقف الجديدة وغالبا مقتضيات السياسات الجديدة، اتخذت فيها وسائل الإعلام مكانة المنتج والراوي في آن واحد، يقول باريج لاسنر B. Glassner “إن هذا النوع من الثقافة عملت على تصنيعه في المجتمعات المعاصرة بطريقة مقصودة ومتأنية، مؤسسات كثيرة أهمها المؤسسة الإعلامية، كنوع من سياسة المتاجرة بالخوف والذعر“.يستثمر صناع الإعلام والساسة هذه الحالة في عملية إنتاج الخوف من خلال جمع المعطيات والأخبار والأحداث وإعادة التعامل معها بفنيات وتقنيات متنوعة لتأخذ طابع التصنيع ثم تقدم للجماهير في قوالب إخبارية وأجناس إعلامية بعضها درامي يصعب التخلص من تأثيرها العام، حيث تؤدي هذه الممارسات مع التكرار والضخ المتزايد إلى تثبيت ما يعرف بثقافة الخوف في وسائل الإعلام، ومنها يصبح للخوف المصنع إعلاميا سلطة على المتلقي، حيث يتحول منتجو الخوف إلى سائسي العقول، وذلك من خلال قصفها وتظليلها .ويحدد غلاسنر عدة أسباب لتصنيع الخوف في وسائل الإعلام منها: تحريف انتباه الرأي العام عن قضايا جوهرية تمس واقعه اليومي، كمشكلات الفقر والبطالة وتلوث البيئة والتمييز ضد الأقليات والأمن الاجتماعي، وهي المشكلات التي يعجز النظام عن حلها أو التكامل معها، وإشغاله بقضايا أخرى أقل أهمية منها.و يبدو أن سياسة الخوف هي صنيعة الأنظمة الاستبدادية سواء كانت عسكرية أو مدنية، تطبيقا لقاعدة ميكافيللي أنه من الأفضل أن يهابك الناس على أن يحبوك، ولهذه الصناعة عدة أساليب منها:
(1) استدعاء الأعداء الداخليين والخارجيين:
لا يمكن للطغاة نشر الخوف في صفوف الجماهير دون تجسيد هذا الخوف في صورة أعداء داخليين وخارجيين. عندما يخاف الناس فإنهم يكونون أكثر استعدادًا لقبول إجراءات تنتقص من حرياتهم الشخصية، بل حتى من مقومات حياتهم الأساسية.
ففي الوقت الذي كانيلتسن يقصف فيه البرلمان بالدبابات كان يمرر القرارات الاقتصادية التي أفقرت الشعب الروسي وأدت إلى إفلاسه. وفعل بينوشيه الشيء ذاته، وهو يعلن حربه على الشيوعية.
وكذلكقانون الباتريوت الأمريكي المشبوه الذي سلب الأمريكيين حرياتهم الشخصية، قد تم تمريره في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتحديدًا في 26 أكتوبر، تحت مبرر الاستعداد للحرب على الإرهاب (قانون الباتريوت قانون يوسع صلاحيات المؤسسات الأمنية في التصنت والتفتيش دون رقابة قوية على أدائها). كما أن لينكولن نفسه فرض الأحكام العرفية أثناء الحرب الأهلية.
(بوستر ساخر من قانون الباتريوت)حريق الرايخستاج في 27 فبراير 1933 الذي تزامن مع إعلان النازية الحرب ضد الشيوعية، تم اتخاذه كذريعة لقمع الشيوعيين الألمان والحزب الشيوعي الألماني. (حريق الرايخستاج اتخذ منه هتلر ذريعة لقمع الشيوعيين)وبذلك تسعى الأنظمة الاستبدادية إلى خلق تهديد مرعب وغير مفهوم بشكل كبير: خطر الإرهاب – الشيوعية – المؤامرات الخارجية. وذلك لجعل الناس أكثر استعدادا للتضحية بقدر كبير من حريتهم إذا شعروا أنهم في خطر حقيقي، بل التحكم أيضا في حجم استعدادهم لتقبل الممارسات الدموية للسلطة ما دامت تتم في حق غيرهم.
(2) إنشاء شبكة خاصة للقمع:
والمقصود هنا هوالقمع خارج دائرة القانون، بل خارج دائرة الرقابة. بالتحديد كما وصف بوشسجن جوانتنامو الشهير أنه يقع “في الفضاء القانوني”. الشهادات حول حالات التعذيب في السجون التي تديرها الولايات المتحدة حول العالم خارج إطار السيطرة. هناك دوائر شبه رسمية أمريكية صارت تقر الآن بهذه الحقيقية، إذا تجاوزنا بالطبع جوانتنامو الذي أعلن الرئيس الأمريكيباراك أوباما عن رغبته في إغلاقه بسبب سمعته السيئة، فهو من أشهر السجون، ولكنه ليس الوحيد بالطبع على الأقل في الأماكن التي وقعت تحت سيطرة القوات الأمريكية كأفغانستان والعراق كفضيحة سجن أبي غريب على سبيل المثال.
كما أن الوقائع التاريخية تشير إلى أن جميع الأنظمة الاستبدادية كانت تميل للاحتفاظ بشبكة سرية من السجون، تمارس من خلالها أنشطة غير مشروعة، أشهرها التعذيب لأجل انتزاع المعلومات، وهو ما يفضي كثيرا إلى القتل، وأحيانًا الإعدام الجماعي، كما حدث في تشيلي وسوريا مؤخرا، وأحيانًا اغتصاب النساء الذي اشتهرت به الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين. (حركة أمهات ميدان مايو 1983 ضد الاغتصاب الممنهج من قبل الديكتاتورية في الأرجنتين)(3) استخدام شبكات للمسلحين:
يخبرنا تاريخ الأنظمة الديكتاتورية أنها لا تكتفي بنشر الخوف عبر الأجهزة الأمنية الرسمية والسرية، لكنها غالبًا ما تشكل مجموعات شبه عسكرية لترويع مواطنيها بدايةً من مجموعاتالقمصان السوداء في إيطاليا الفاشية، إلى القمصان البنية في ألمانيا النازية. نفس الإستراتيجية استخدمت في نيكاراجوا وفي أمريكا الجنوبية، وغالبًا ما تعمل هذه التنظيمات في ظل حصانة قانونية.
بعد أحداث 11 سبتمبر الشهيرة وما يعرف بالحرب على الإرهاب، توسعت شبكات المسلحين المرتزقة واتخذت إطارا أكثر نظامية تحت مسمى شركات الأمن الخاص، وأشهرها بلاك ووترز، التي حصلت على عقود بملايين الدولارات من حكومة الولايات المتحدة وغيرها، مقابل الاهتمام بأعمال أمنية مشبوهة، مثل أعمال الاغتيالات والتصفية الجماعية التي قامت بها بلاك ووترز في عهد الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر، تحت حصانة كاملة من الملاحقة القضائية. (شركة بلاك ووتر للخدمات الأمنية يعتقد أنها ذراع لتنفيذ العمليات المشبوهة للمؤسسات الأمريكية)(4) السيطرة على المؤسسات الدينية والأحزاب:
قد تكون في وقت ما في حاجة لمن يدعو الناس إلى السلام باعتباره فضيلة كبرى، وفي وقت آخر قد تكون الحرب هي الفضيلة، لا أحد بإمكانه أن ينشر الخوف في دور الجماهير كرجال الدين رغم كل شيء.
(رسم ساخر من دور الكنيسة الكاثوليكية في دعم جرائم الديكتاتور العسكري فيديلا بالأرجنتين)في جمهوريات الخوف، ربما تجد أغلب الجماعات والأحزاب مخترقة من قبل السلطة، حتى تلك التي تعمل في شئون البيئة ورعاية الحيوان، إذا جئت إلى الجمعيات الحقوقية والجمعيات المناهضة للحرب وغير ذلك من المؤسسات تصبح الأمور أكثر خطورة، مهما كانت مساحة الحرية، يجب أن يشعر الجميع أن الأمور تحت السيطرة.
(5) السيطرة على الصحافة والتليفزيون:
لا يمكن للدولة أن تسيطر على الناس بحق دون أن تحكم السيطرة على ما يلقى في عقولهم، جميع الديكتاتوريات فعلت ذلك بداية من إيطاليا في العشرينات، وألمانيا في الثلاثينات، وألمانيا الشرقية في الخمسينيات، وتشيكوسلوفاكيا وديكتاتوريات الشرق الأوسط العسكرية في الستينيات، وديكتاتوريات أمريكا الجنوبية في السبعينيات، والصين وروسيا، وغيرها الكثير.
وذلك بجعل الحقيقة هي العدو الأول، لا حصانة لأحد فالجميع مستهدف حتى لو كنت صحفيًّا، حتى في أكثر الدول ادعاءً للديمقراطية، الولايات المتحدة نفسها، هل سمعت بالمدونجوش وولف من سان فرانسيسكو الذي سجن لمدة عام لرفضه تسليم شريط مظاهرة مناهضة للحرب؟ أم لعلك سمعت عن مراسل جريج بالاست، الذي اتهم بتهديد البنية التحتية عبر تصويره لضحايا إعصار كاترينا في ولاية لويزيانا، أو ربما أنك سمعت بقصة الصحفي جوزيف ويلسون الذي اتهم جورج بوش بتلفيق اتهامات كاذبة لصدام حسين؛ لتبرير الحرب على العراق أبرزها استيراد اليورانيوم من النيجر؛ فكان نصيبه توجيه تهمة التجسس لزوجته! كما تم توثيق أكثر من حالة سجن واستهداف للصحفيين من قبل الجيش الأمريكي أثناء الحرب على العراق.
و يتم ذلك من خلال قانون مقيد للإعلام والصحافة تحت دعوى مقتضيات الأمن القومي، أو حتى تحت دعوى ضمان حرية الصحافة، المهم هو السيطرة على ما يقدم للناس، و لا مانع من مساحة لرأي معارض بشرط أن يكون مستأنسًا، وتحت السيطرة.
(6) توسيع دائرة الخيانة والعمالة:
لا يمكن أن يتعاطف الناس مع خائن أو عميل يعمل ضد مصلحة بلده، أو يتعاون مع أعدائها، المهم أن تتسع تهم الخيانة والتجسس لتصبح فضفاضة إلى أقصى قدر ممكن، على سبيل المثال اتهم النواب الجمهوريون في الكونجرسالصحفي بيل كيلر بانتهاك قانون التجسس؛ لنشره معلومات مسيئة لإدارة الرئيس جورج بوش، وذلك الأمر ليس جديدًا بالطبع ففي موسكو، وتحديدًا في عام 1938، تم توجيه تهمة الخيانة إلى نيكولاي بوخارين رئيس تحرير صحيفة أزفاستيا، و كذلك كانستالين يلقب معارضيه دوما بـ “أعداء الشعب”، بل إن الولايات المتحدة في عام 2006، ومع إقرار قانون اللجان العسكرية صار من حق الإدارة الأمريكية توجيه لقب أو اتهام “مقاتل عدو” إلى أي من مواطنيها.
الخلاصة أن تهم “الخيانة – العمالة – التجسس – التخابر” يجب أن تظل تلاحق الجميع، بداية من القادة والمعارضين السياسيين، إلى النشطاء المزعجين عبر الإنترنت.
(7) القوانين الاستثنائية:
يمكن للحكومات أن تتحدث عن سيادة القانون كما شاءت، في النهاية فهي التي تضع القوانين، الحكومة الأمريكية مررت قانون الباتريوت، الذي يبيح لها التجسس على مواطنيها، وفي النهاية وسعت نشاطاتها خلافًا له، كما تجند الحكومات الجنود المرتزقة وفقًا للقانون، وتحاكم معارضيها بتهم مزرية وفقًا للقانون أيضًا، بل تم إصدار قوانين تبيح قتل فئة من المواطنين فقط لأنهم عديمي النفع كما حدث في ألمانيا النازية مثلا.
و كذلك ما يعرف بـ “حالة الطوارئ” أو “حالة الحرب”، أصبح ستارًا تتخذه الحكومات لتمرير أي إجراءات و إن كانت مخالفة لحقوق الإنسان دون ذكر كم يمكن أن تستمر حالة الطوارئ هذه؟ أشهر، أو سنوات، وربما عقود أحيانًا.
(8) استهداف الرموز الشعبية:
غالبًا ما تحيط الجماهير الرموز بهالة من التقدير والقداسة، فيعد استهداف الرموز المشاغبة والمعارضة من فنانين وأكاديميين وصحفيين ورؤساء أحزاب وجماعات ورجال دين يجعل الناس يشعرون أن الجميع مهددون، وأنه لا سقف للسلطة في الحفاظ على مصالحها.
قام موسيليني باستبعاد كل الأكاديميين وعمداء المعاهد الحكومية الذين رفضوا التجاوب مع خطته الفاشية، الأمر ذاته فعله هتلر في ألمانيا وبينوشيه في تشيلي، والحزب الشيوعي في الصين، فامتد القمع ليطال المتعاطفين مع هؤلاء الأكاديميين من زملائهم وطلابهم.
وكذلك إعادة هيكلة المؤسسات التعليمية ومؤسسات الخدمة المدنية بإصدار قوانين تتوافق مع توجهات السلطة، فينبغي أن يشعر الأكاديميون أنهم يدينون إلى السلطة أكثر من أي شيء آخر، لأنها تملك إبقاءهم في مناصبهم أو ترقيتهم أو استبعادهم بشكل كامل، أوحتى إيداعهم في السجون.
(9) لعبة الاعتقال التعسفي:
أو كما يطلق عليها لعبة القط والفأر، الصحفيان نيكولاس كريستوف وشيريل وودن وصفا الأمر أثناء دراستهما للمعارضة في الصين بكونها تشبه القائمة، يتم استهداف هذه القائمة مع كل حدث، إذا كنت داخل القائمة في يوم ما فمن الصعب عليك أن تصبح خارجها.
في عام 2004، أعلنت الولايات المتحدة لأول مرة أنها تحتفظ بقوائم لأسماء الركاب الذين تعرضوا للتفتيش الأمني في المطارات والموانئ، لم تكن القائمة من المجرمين، ولكن من نشطاء السلام وبعض الرموز من دول تعتبرها الولايات المتحدة معادية كفنزويلا مثلا والكثير من المواطنين العاديين، والكثير من الأمريكيين منهم رموزأكاديمية فوجئوا بوضع أسمائهم على قوائم الاشتباه في محاربة الإرهاب، منهم على سبيل المثال البروفيسوروالتر ميرفي من جامعة برينستون، الذي لم يكن له أي نشاط سياسي سوى أنه انتقد جورج بوش، واتهمه بانتهاك الدستور في أحد محاضراته.
و بعد ذلك أصبح لكل وحدة بوليس قوائمها الخاصة تحتفظ بها من أجل الاعتقال التعسفي، وما تزال لعبة القط والفأر تتوسع يومًا بعد يوم، ليصبح كل معارض عنده العلم التام أنه معرض للاعتقال في أي لحظة.