الإعلام الرياضي في مصر: دعني أخدعك ودعني أنخدع
هناك قاعدة تتعلق بفن الرواية اخترعها العبقري الراحل العراب «أحمد خالد توفيق» وأسماها:
هي – كما يشرحها العراب بنفسه – قاعدة تقتضي بأن القارئ للرواية يبتلع بعض الأشياء غير القابلة للابتلاع ويغفرها للكاتب، وهذا من منطلق أنه يقبل أن ينخدع كي تدور عجلة الخيال، كالزوجة التي تتجاهل الأدلة التي توحي بأن زوجها يخونها فقط لتستمر الحياة.دعنا لا ننسى أن تلك قاعدة تتعلق بفن الرواية، وهو الفن الذي يتعلق بشكل أساسي حول الخيال. لكن وبدون ذرة مبالغة ما يحدث في مجال الإعلام الرياضي تنطبق عليه تلك القاعدة المختصة بالخيال الروائي، أن تنطبق قاعدة خيالية بحذافيرها على واقع ملموس فتلك ببساطة مهزلة.ربما يقودك حظك العاثر لمشاهدة مباراة لمدة ساعة ونصف لا تحتوي سوى على بعض لقطات تتعلق بفنيات كرة القدم، ثم تشاهد بعد المباراة إستوديو تحليليًا يستمر أحيانًا لأكثر من أربع أو خمس ساعات للحديث عن فنيات وتكتيكات وخطط ومباريات جانبية بينما لا تعرف متى حدث كل ذلك خلال تلك المباراة التي لا تنتسب لكرة القدم إلا في القليل. أنت تهيئ نفسك أن تنخدع لكي تدور عجلة الوقت ربما أو التظاهر بالاستمتاع، ومع الوقت أصبح العاملون بالإعلام الرياضي محترفي خداع.ما نتناوله في القادم من حديث كله أحداث واقعية لا تمت للخيال بصلة. وهذا تنويه هام لكل قارئ قد يعتقد أننا نقصد السخرية لا سمح الله من أشخاص بعينها أو من برامج بعينها. فقط تذكر عزيزي القارئ أن تلك الأحداث الواقعية الساخرة لا يُسأل عنها القائمون على الإعلام الرياضي وحدهم، فهي قاعدة ذات طرفين كما تحدثنا من قبل، فالمتلقي الذي يحرص على أن ينخدع هو وللأمانة فريسة سهلة لكي يتمادى الخداع ويصل للذروة كما سنرى.
إيه رأيك في المفاجأة دي؟ حلوة؟
هناك مشهد كوميدي شهير للفنان محمد سعد بشخصية أطاطا، حيث فازت أطاطا برحلة عمرة، فيشترط المذيع الذي يقدم لها تلك الجائزة التي علمت بها بالفعل أن تتفاجأ بحصولها على رحلة العمرة لكي يكتمل المشهد ويبدو حقيقيًا للمشاهدين. يدق المذيع على باب أطاطا فتفتح له قائلة: «إيه رأيك في المفاجأة دي؟ حلوة؟»ذلك المشهد الساخر يحدث بشكل طبيعي للغاية في برامج الإعلام الرياضي بل ويتكرر بشكل دائم دون أن يشعر أي شخص مشترك في ذلك المشهد الأزلي بعذاب الضمير. يشغل الإعلامي سيف زاهر وظيفة عضو مجلس إدارة اتحاد كرة القدم المصري، كما أنه يقدم برنامجًا رياضيًا بإحدى القنوات. يقدم سيف زاهر للمشاهدين مقدمة نارية، ثم يضيف في أجواء من الترقب والإثارة أنه يملك انفرادًا هامًا لم يستطع أحد الوصول إليه. ولأنه رجل يعرف كيف تدار الأمور فالانفراد يجب أن يقدمه من فم المسئول مباشرة لأذن المشاهدين، هذا بالطبع يحدث بعد الفاصل الإعلاني، أجواء من الإثارة تليق بالانفراد. يتحدث المصدر المسئول والذي سيزف لنا الانفراد الهام لنكتشف جميعًا أنه على سبيل المثالأحمد مجاهد عضو مجلس إدارة اتحاد كرة القدم وزميل الإعلامي سيف زاهر.
يُفاجأ كابتن سيف بالخبر ويؤكد عليه، ثم يسأل بذكاء: «يعني اعتبر ده خلاص صدر بشكل رسمي؟» فيؤكد كابتن أحمد بدوره أنه لا يتحدث سوى بالرسميات. لا يبقى لهذا المشهد سوى أن يصيح كابتن سيف فور سماعه الخبر: «إيه رأيك في المفاجأة دي؟»
تستطيع بقليل من الخيال أن تشاهد اجتماع مجلس إدارة الاتحاد المصري لكرة القدم في نهايته بعد اعتماد القرارات الخاصة بكرة القدم في مصر، حيث يؤكد كابتن سيف أنه سيقدم هذا الخبر كانفراد في برنامجه اليوم من خلال مكالمة مع كابتن أحمد مجاهد ليقاطعه كابتن شوبير الذي يملك برنامجًا على نفس القناة: «تمام كده، خد انت انفراد الحكام وهاخد انا انفراد الملاعب بس هكلم كابتن كرم كردي عشان ننوع المصادر».هذا التضارب ،الذي يحدث بين وظائف أعضاء مجلس إدارة اتحاد الكرة ووظائفهم كإعلاميين، وجد مناخًا مناسبًا لدى المشاهدين حيث يحرص المشاهد على متابعة تلك الأخبار لأنه باختصار يعرف أنها مؤكدة. فالمذيع هو المصدر بعيدًا عن تلك المسرحية الهزلية التي تقدم له.الأمر لم يقتصر على أعضاء مجلس الإدارة. كريم حسن شحاتة مدير الكرة بنادي النجوم والمذيع الرياضي أيضًا قرر أن يستضيف لاعب نادي النجوم صلاح أمين عبر مكالمة تليفونية. سأل كابتن كريم لاعب الفريق الذي يشرف على إدارته عن العروض التي وصلت له ومدى احتياج الفريق لعدد من الصفقات. ولا يعرف أحد لماذا لم يجبه صلاح أمين قائلًا ببساطة: «والله انت أدرى يا كابتن!»
كيف تعبئ الهواء في زجاجة بخطوة واحدة؟
كرة القدم تسيطر بما لها من شغف على عقول المصريين. فمباراة واحدة بين قطبي كرة القدم في مصر كفيلة أن تصبح المحور الأساسي للحديث بين المصريين لأسبوع على الأقل. أدرك ذلك القائمون على الإعلام الرياضي فقرروا أن تلك المباراة تحتاج لأسابيع من التقديم وعشرات الساعات للحديث عنها.لعبت المصادفة دورها عندما لُعبت مباراة الأهلي والزمالك يوم جمعة، وهو الحدث الذي لا يؤثر بشكل حقيقي في أي من مجريات الكون، ولكن هذا بحسابات أي شخص غير كابتن مدحت شلبي. وهنا دعنا نتفق أن مدحت شلبي إعلامي متمكن ورجل خفيف الظل بالفعل.قرر كابتن مدحت شلبي أن الإستوديو الخاص بمباراة القمة سيبدأ بعد صلاة الجمعة، علمًا بأن المباراة ستقام في التاسعة مساءً. ولأن هذا الهواء المباشر مطلوب من كابتن مدحت أن يملأه، الأمر هين على كابتن مدحت، فهو باستطاعته أن يعبئ ذلك الهواء في زجاجات إن لزم الأمر.بدأ كابتن مدحت الإستوديو المسمى بالتحليلي مجازًا، باستعادة ذكريات مباريات الدوري التي كانت تقام قديمًا يوم الجمعة. ولكي نحيي تلك الذكرى الهامة للغاية قرر كابتن مدحت أن يستعيد مع المشاهدين يوم الجمعة بالكامل.بدأ الإستوديو بعرض فقرات من البرامج التي كانت تذاع يوم الجمعة على التليفزيون المصري قديمًا. بدأ بفقرة من برنامج عالم الحيوان، ثم برنامج تفسير القرآن للشيخ محمد متولي الشعراوي، ثم برنامج خمسة سياحة. هنا تحديدًا أصبح المشاهدون مهيئين تمامًا لمشاهدة الفنان صلاح السعدني في الحلقة الأخيرة من مسلسل أرابيسك، إلا أن كابتن مدحت شلبي كان رحيمًا بمشاهديه وعرض عليهم أهداف فريقي الأهلي والزمالك في المباريات التي جمعت بينهما آخر خمسين عامًا! نحن تجاوزنا قاعدة دكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله، لقد تحورت تلك القاعدة لتصبح: «دعني أخدعك .. انت كده كده موراكش حاجة». هذا الأمر ليس استثناء لقاعدة الإعلام الرياضي بل هو القاعدة الأساسية، الحقيقة أن كابتن أحمد شوبير مثال آخر له باع طويل في القدرة على ملء أكبر عدد ساعات من البث المباشر تحت أي ظرف. الأمر الذي وصل بكابتن شوبير أنه قرر إرسال رسالة هامة عبر برنامجه أثناء توقف نشاط كرة القدم في مصر إثر فاجعة بورسعيد. قام كابتن شوبير بتقديم حلقة من برنامجه رفقة زميله الشاب في البرنامج آنذاك إبراهيم فايق، والذي يختلف شكليًا عن إبراهيم فايق مقدم البرامج الحالي كتجسيد لنظرية أهمية المظهر الخارجي في مجال العمل دون الاهتمام بالمحتوى على الإطلاق.بدأ شوبير الحلقة بأخبار عن الدوري ثم فرك عينيه قائلًا اعذروني كنت بحلم، ثم مكالمة تليفونية مع مدرب حراس مرمى نادي الإسماعيلي سعفان الصغير الذي تحدث عن مباراة وهمية ثم فرك كابتن شوبير عينيه مرة ثانية ليؤكد أنه كان يحلم. رسالة واضحة وساخرة ومقبولة أن الجميع أصبح بلا عمل بعد توقف نشاط الكرة.لا لم ينتهِ الأمر، قدم شوبير للجماهير طريقة عمل السلطة. قام كابتن شوبير بتقطيع الخيار بالفعل ثم تحدث مع زميله: «مش عايز طماطمايه يا إبراهيم؟» ليرد إبراهيم: «لا يا كابتن عايز كابوتشا»، تلك الرسالة استمرت لما يقرب 11 دقيقة.
المداخلات التليفونية: كابتن ناصر البرنس
يعرف أي مهتم بالبرامج الرياضية أن الأمر ينطوي على العديد من تلك المهازل، لكنها أصبحت شيئًا عاديًا مع الوقت. هل تتذكر حين قام الإعداد الخاص ببرنامج مدحت شلبي بالاتصال بناصر البرنس صاحب محلات كبدة البرنس في إمبابة على أنه ناصر النني والد اللاعب محمد النني واستمرت المكالمة لعدة دقائق قبل أن يتم اكتشاف الأمر؟الحقيقة أن تلك البرامج أصبحت هدفًا منطقيًا للمشاهدين غريبي الأطوار. فلا أحد ينسى مكالمة أستاذ أشرف والمعروفه باسم مكالمة مصر دي أم الدنيا. ومكالمات سب وقذف واضحة للمذيعين أنفسهم وللأندية وللجماهير المنافسة. وفي كل مرة يرفض المذيع رفضًا قاطعًا تلك المكالمات، ولكن لم يفكر أحد أن المحتوى المقدم لا يحاول أن يثقف المشاهد رياضيًا بأي شكل.وصل الأمر أحيانًا لعقد صداقات مع المتصلين. هناك متصل اسمه «حيدر الدبش» أصبح ضيفًا دائمًا على برامج مدحت شلبي عبر القنوات المختلفة. سواء عن طريق رسالة أو مكالمة تليفونية بل وفي بعض الأحيان يقرر دبش أن يعرض مشاكله التي تتعلق بفتح هويس قناطر إسنا القديمة للكابتن شلبي. المأساة أن كابتن شلبي دوّن بعض الملاحظات على المكالمة في ورقة جانبية ثم سأله لماذا يريدون فتح الهويس!في نهاية الأمر دعنا لا ننسى أن كل ذلك لن ينتهي لأنه اتفاق مسبق بين الإعلاميين والجماهير. أرجوك لا تنسَ القاعدة: