فيلم «Spider-Man: No Way Home» على مائدة الفلاسفة
يدور فيلم الرجل العنكبوت الأخير، «Spider-Man: No Way Home»، حول كل إمكانات نظرية العوالم الموازية. بتعويذة خاطئة من «دكتور سترينج» تنفتح العوالم على بعضها ويأتي أشرار من حكايات قديمة لعالم مارفل الخاص بالمُنتقمين. تخيّل معي لو انفتح عالم موازٍ لا يجلب أشرارًا لكن فلاسفة وعلماء نفس مُهمتهم حل المُعضلة الوجودية والأخلاقية الخاصة بـ «بيتر باركر» وحيرته بين البطولة والحياة العادية كمراهق في الثانوية!
فخ «بيتر بان» أو رعب النضوج
ربما أول منْ سيتدخل لتوصيف مُشكلة الرجل العنكبوت هو عالم النفس الكندي «جوردان بيترسون» الذي سيُخبره أنه يُعاني من مُعضلة «بيتر بان»!
يرى بيترسون أن قصة بيتر بان الشهيرة عن الطفل الذي يأبى أن يكبر هي تنويع قصصي عن سمة مرضية وهي رفض النُضج وتبعاته. الطفولة تحمل إمكانات هائلة، يُمكنك أن تكون رائد فضاء أو ضابطًا أو محاربًا للجريمة أو عاشقًا، لكن النضج يُجبرك أن تتخلى عن جمالية الاحتمالات المتعددة لواقعية خيار واحد، لا بد بعد مغادرة المراهقة أن تُدرِك ما تريد أن تكونه وتتحمل التضحية في سبيله بباقي السيناريوهات البرّاقة، أن تغادر أرض الأمنيات البراقة لإطار أبدي يحدد كينونتك.
يمتلك «بيتر باركر» ما يؤهله ليكون بطلاً خارقًا لكنه يُريد أن يكون عاشقًا، يريد أن يدرس في جامعة MIT، ويُريد أن يذهب في رحلة ويستمر فيها حتى لو جاءه نداء الواجب، ويريد مع كل ذلك ألّا يتخلى عن بزته الخارقة.
حالة الميوعة تلك ستجعله طالبًا بدوام جزئي، وعاشقًا بدوام جزئي، وبطلاً بدوام جزئي، وبذلك ستضطر الظروف أن تأخذ الخيار عنه بشكل إجباري، ودومًا سيكون الخيار مؤلمًا لأن البطل لم يتجهّز له نفسيًا أبدًا.
تتجسّد معضلة بيتر بان ربما في الرجل العنكبوت من بين كل أبطال مارفل لصغر سنه ولأنه لم يُعدّ للبطولة بتربية ملكية مثل ثور، ولم يتمناها مبكرًا مثل ستيف روجرز، ولم يرث مستقبله الاقتصادي مثل آيرون مان، البطولة حدث حط عرضيًا على عالمه بسقوط عنكبوت خارق على يده، لهذا يتفرّد بيتر باركر بالحاجة المُلحة لحسم خياراته والخروج من نزق الطفولة والمراهقة لألم النضوج، لا يملك بيتر باركر أرضًا خيالية يفر لها مُحافظًا على خياراته دون تضحية مثل بيتر بان.
القوة كمعضلة فلسفية
لا يقدم عالم مارفل القوة باعتبارها حلًا أبدًا بل باعتبارها مُعضلة مبدئية، فبداية الأبطال الخارقين تكون حصولهم على قوتهم إمّا بتجربة معملية مثل كابتن أمريكا وهالك، وإمّا بالوراثة مثل ثور، وإمّا بالتسخير العلمي والمالي مثل أيرون مان، القوة هي مُبتدأ حكايتهم، وتعقيد القصة دومًا هو كيف تُستخدم تلك القوة؟
يُخبرنا «إبكتيتوس الرواقي» أن القوة والسطوة والنفوذ هي أشياء لا فارقة، كلها عوارض لا تلبث أن تأتي وتزول، لا تكتمل إنسانية الإنسان بها ولا تعتمد عليها، هي أشياء محمودة أو مذمومة بقدر ما تستعيد أو تفسد توازن النفس الحاملة لها في علاقتها بالعالم.
تحضر وجهة النظر الرواقية لعالم مارفل على لسان Vision أو الكيان الذي يقبع في مركز تكوينه، «حجر العقل»، يُخبر المنتقمون أن قوتهم لو كانت مُتحدية وجاذبة لكيانات شريرة وداعية للتحدي فهي بذلك تفسد سلام العالم، وعليه فالحل الاخلاقي هو إخضاع تلك القوة لإشراف مؤسسي هو الأمم المتحدة في فيلم Captain America: Civil War، فالقوة هنا ليست خيرًا أو شرًا في ذاتها إنما الحكم للسياق الذي تموضعت فيه.
أكثر الأبطال المُعبرين عن وجهة النظر الرواقية في علاقتها بالقوة هو Hulk، الذي يقمع قوته باستمرار ويتمنى زوالها، لأنها في حال انفجارها هي شر محض خارج عن السيطرة، قد تفسد أي توازن تطرأ عليه.
بينما يُخبرنا نيتشه أن القوة هي أساس هذا العالم، فالخير والشر وجهات نظر تبريرية تأتي كنتيجة للقوة وإمّا تُزهرها أو تقمعها، نيتشه سيُخبر الرجل العنكبوت أن يُلبّي نداء قوته ويحصد مزيدًا من القوة لكن لا يضعها بيد الضعفاء ليُقرروا له متى يجب أن يستخدمها وأين؟
نيتشه كان سيتسق أكثر مع أشرار عالم سبايدر مان مثل نورمان أوزبورن وأوكتافيوس، لذا يأتي صدى فلسفته في الفيلم الأخير على لسان «جرين جوبلين» وهو يخبر بيتر:
يترك الرواقيون الخيار لبيتر نفسه في تحديد هل القوة ستفسد انسجامه مع الطبيعة وستعرِّض إرادته الخيرة للخطر أم لا؟ سيتقبّلون إجابته في النهاية بالتخلي عنها أو اعتناقها تبعًا لقدرته على تضمينها في نسيجه الطيب أو عجزه عن ذلك.
بينما نيتشه سيوبِّخه على كل تلك التعقيدات الأخلاقية التي تُعطِّله عن الصعود خطوة أكبر تجاه الإنسان الأعلى، لن يرسله نيتشه بأمصال لعلاج أشراره بل بمُعززات لقوتهم، سيخبره ألّا يتملق العامة ليكون محبوبًا، وألّا يكون فتى كوينز المحبوب، بل أن يُخضِع الحي لإرادته لأنه مخلوق أعلى يصنع قدره وقدرهم.
كانط فيلسوف التراجيديا والأخلاق في عالم مارفل
في كل عالم وكل تقديم لقصة الرجل العنكبوت نجد أن الشعار الذي يوجِّهه ويُثقِله ويُحرِّره في آن هو جملة:
ينتمي هذا الشعار الذي سيحكم علاقة بيتر باركر بقوته لفيلسوف فريد من نوعه هو «إيمانويل كانط».
يؤمن كانط بفكرة الواجب الأخلاقي باعتبارها قانونًا كونيًا، فأنت تفعل الصواب لا لأنه سيُحقِّق لك سلامك مع نفسك والكون مثل الرواقية، ولا لأنه سيضمن لك مزيدًا من القوة مثل نيتشه، بل لأنه الصواب وحسب حتى لو جعلك وحيدًا.
يُخبِرك كانط أن تعتبر الأخلاق الشخصية أخلاقًا كونية، وأن تعتبر الفعل الفردي له صدى كوني، لو قبلت أن تسرِق في سياق فلا بد أن تقبل أن تتعرض للسرقة، لو قبلت اللا مبالاة في سياق فلا بد أن تقبل ألّا يُبالي بك أحد وأنت في محنة.
كل فعلة فردية اعتبر أنك شرعنتها كشرعة كونية للعالم كله وانظر هل سيفسد العالم بتلك الشريعة أم سيتحسن؟
من تلك الناحية أيضًا لو كبّلت نفسك بواجبك الأخلاقي فكأنك شرّعت ذلك كقانون كوني، سيكون هناك بذلك شخص ما في مكان ما دومًا سيُكبِّل نفسه بأخلاقياته لصالحك لإنقاذك ولن يقول هذا ليس شأني. عالم كل أفراده مؤرقون بواجبهم الأخلاقي هو العالم الذي يدعو له كانط كونيًا.
منطق كانط هو منبع تراجيديا قصة الأصل للرجل العنكبوت، الذي استسلم للا مبالاة مرة واحدة، وترك مسئولية الإمساك بمجرم عابر، فقتل المجرم شخصًا يحبه وحطّم سلام عالمه للأبد. فعلٌ فردي حطّم بتبعاته الكثير. الحضور الأبوي في كل قصص الرجل العنكبوت من «العمة ماي» و«العم بن» وغيرهما هو صدى للنصيحة الكانطية:
تلك العقلية ستجعل كانط فيلسوفًا مُحاربًا للإمبريالية وللهيمنة الأوروبية البيضاء على العالم، باعتبار أن التفوق للرجل الأبيض يعني مزيدًا من الواجب تجاه الآخر وليس استعباده، بناء على فلسفة كانط ستتأسس عصبة الأمم سنة 1920، أو فكرة مؤسسة تمتلك واجبًا كونيًا أخلاقيًا تجاه العالم.
صدى الكانطية يحضر بشدة في عوالم مارفل في اختيار المُنتقمين لمقاومة ثانوس، فلسفة ثانوس نفعية محضة وفعّالة بما لا يُقاس، وهو ما تبيّن في نسخة العالم بعد الكارثة في فيلم «Avengers: Infinity War»، عالم أكثر نظافة وأكثر سعة، ترى فيه الدلافين آمنة والبحار أكثر شفافية والسماء صافية، لأن الأرض خلت من نصف حمولتها من البشر. ثانوس تنويع من الفكرة الإمبريالية التي ترى أنه من النفعية تسخير الأضعف لخدمة الأقوى، والتي ستصل لذروتها في نفعية هتلر بإعدام المعوّقين والأجناس الأضعف وصنع صابون من بقايا أجسادهم لأن تكاثرهم بلا فائدة.
كانط كان ليتحدث بلسان «ستيف روجرز» وهو يقول: «إننا لا نُقايِض الحيوات»، وغريزة الإنقاذ صواب لذاتها وليست فيمن ننقذه أو في توابع الإنقاذ، مثلما أن البشر غاية لذواتهم وليس لشيء يتقنونه أو لجينات يمتلكونها.
البطل وحيدًا
مثلما لا تلتفت فلسفة كانط للنفعية وتوابع القرار الأخلاقي لا تلتفت أيضًا لكون القرار سيحقق النهاية السعيدة لحامله. مع كانط ستجد بوصلتك بصرامة لكنك ستُطيعها صاغرًا حتى لو أشارت لشمال بعيد أنت فيه وحيد.
هذا ما تأخر بيتر باركر في قبوله، هذا الفيل الماثل في الغرفة والذي يلتف حوله كل مرة بمراوغة طفولية في أفلامه السابقة، أن قبول البطولة يعني قبول الوحدة، كل منْ يقترب منك سيكون نقطة ضعفك، وعيش الحياة العادية امتياز سخي لمن لديهم مسئولية أخلاقية أن يحيوا وفقًا للخيرية التي يمكن أن يفعلوها بقوتهم.
تلك التراجيديا التابعة لتطبيق فلسفة كانط الصارمة تجد عزاءها في مقولة كانط أن ما نتبعه من خيارات قد لا يجعلنا سعداء لكنه يجعلنا جديرين بالسعادة!
عندما يُلبِّي بيتر باركر نداءه في الفيلم الأخير ويتقبل إنقاذ عالمه مقابل ثمن باهظ سيجعله نسيًا منسيًا في ذاكرة منْ يُحبهم، يمحو بيتر سعادته بنفسه، لكنه لأول مرة يشعر بسكينة خالية من النزاع، يشعر أنه جدير بسعادته وإن لم تتأتى له. ينضج بيتر باختياره لأول مرة ما يريد أن يكونه، لا ما يتمنى أن يكونه.
مثلما أدرك بيتر في مقابلة نسخة من العوالم الأخرى أن كل ما تعلموه من حكايتهم مع البطولة أن يتحولوا لأشخاص أكثر تسامحًا وتقبلًا لواجبهم الأخلاقي، أنهم روّضوا شياطينهم وصدّقوا أنهم جديرون بالغفران وجديرون بالخلاص وإن لم يتحقق لهم.
يأتي الرجل العنكبوت من كل عالم حاملًا ألمه مثل مسيح لكنه حامل سلامه معه، سمة السلام تلك هي البديل الكانطي عن السعادة، تلك الجدارة والسكينة المُضمرة فيها هي ما يعدك به كانط، سكينة منْ أدى واجبه وفق ما تُمليه عليه إنسانيته أو كما قال دستويفسكي: