فيلم «Spencer»: كيف تحول تاريخ الأميرة ديانا إلى فيلم رعب
في أحد مشاهد الفيلم الفرنسي الشهير أميلي Amelie 2001 والذي تدور معظم أحداثه في يوم واحد، يذاع خبر وفاة الأميرة ديانا أو كما كانت تلقب «الليدي دي Lady Di» في أنحاء المدينة الفرنسية باريس، بدا الجميع مهتمًا بما حدث وكأنه حدث محلي رئيسي، لكن ما يجعله عالميًا هو تعليق إحدى النساء على هول مأساة ديانا كونها كانت أميرة جميلة صغيرة السن لا تستحق ما حدث لها، يمثل ذلك التصور الجزء الأكبر بالهوس العالمي بالأميرة التراجيدية، بجانب كونها فتاة نبيلة تهتم على عكس العائلة المالكة بقضايا كبيرة تتعلق بحقوق الإنسان وتولي اهتمامًا خاصًا بمعجبيها، ترد على مراسلاتهم وتعاملهم بلطف، فإن جمالها وصباها يمثلان الجزء الأكبر من المأساة وتأثيرها على العقل الجمعي العالمي، تعتبر ديانا وحكاياتها رمزًا أكثر منها شخصية تاريخية فهي أشبه بسندريلا أو أي أميرة من قصة خرافية، شقراء صغيرة وتتسبب في عذابها ساحرة شريرة أشبه بنموذج زوجة الأب القاسية متمثلة في الملكة التي تملك سيطرة كاملة على حياتها.
على الرغم من مرور أكثر من عشرين عامًا على وفاتها فإن الاهتمام بديانا لا يخفت، يبرز ذلك في التلفزيون والسينما كوسائط لنقل القصص، كل عدة أعوام يقرر أستوديو ما تناول حكاية ديانا، نرى وجهها وإيماءاتها على الكثير من وجوه الممثلات المختلفات، تتبارى كل منهن على التقاط أكبر قدر من جوهر الشخصية، مشيتها، لون شعرها، تعبيرات وجهها الرقيق. في العام الماضي حقق المسلسل الذي يسرد تاريخ العائلة البريطانية المالكة التاج The Crown أقصى درجات نجاحه حينما وصل للنقطة التي نرى فيها دخول ديانا إلى العائلة وبداية معاناتها مع الخيانة والسيطرة والوحدة، قامت بدورها الممثلة إيما كورين في بدايات مراحل نضوج الأميرة المستقبلية، عندما كانت لا تزال أشبه بمراهقة مأخوذة بعالم الحكايات الخيالية، أن تتحول في ليلة من مدرسة حضانة إلى أميرة متزوجة من أمير وتسكن قصرًا شاسعًا.
هذا العام قرر المخرج التشيلي بابلو لارين Pablo Larrain أن يتناول القصة من زاوية مختلفة، تنحى الاهتمام بالسرد التاريخي المتسلسل الذي يميز مسلسل التاج ويهتم أكثر بديانا كشخص في لحظة محددة من تاريخها، في فيلم Spencer اختار لارين فترة قصيرة لا تتعدى أيامًا لكي يعطينا لمحة مما شعرت به ديانا خلال وقتها داخل القصر الشهير وأولى مهمة تمثيل ديانا للممثلة كريستن ستيوارت، وهو ما يمثل خيارًا غير متوقع، فهل وُفق كلاهما في إعادة سرد قصة يعلم العالم كله كيف تنتهي؟
من دراما الفترة إلى أفلام الرعب
ليست تلك هي المرة الأولى التي يتعامل فيها لارين مع نموذج تاريخي، في عام 2016 صنع فيلمًا عن جاكي كينيدي في نقطة محددة من التاريخ كذلك وتجاهل قواعد السرد المعتاد ووضعنا مباشرة في لحظة حميمية من مأساة شخصية جدًا، لم يهتم كثيرًا بإخبارنا بما حدث قبلها أو بعدها، اعتمد على أنها قصة معروفة سلفًا نعلم كيف تنتهي، وهو ما يجعل تلك النوعية من الأفلام مكررة أو يصعب التفاعل معها إذا لم تملك عنصر جذب آخر. يكرر لارين ذلك في سبنسر، يلقي بنا في حدث من وسط آلاف الأحداث، حدث محدد يبدو تافهًا، احتفالية القصر الملكي بإجازات رأس السنة، لكن ما يجعل الحدث ذا ثقل أنه يؤدي إلى ذروة في حياة بطلته الشخصية، فمع تزايد الضغط في تلك الأوقات تقرر ديانا أن تترك تلك الحياة بلا رجعة، أن تترك زوجها أمير ويلز والقصر الذي تسكنه وكل ما يبدو مثاليًا على السطح.
قصة ديانا مكررة ورويت علينا عشرات المرات، لكن ما يجعلها تستحق المشاهدة مرة أخرى هنا هو ابتعاد الفيلم تمامًا عن تقاليد أفلام دراما الفترة Period Drama، التي تلتزم بأناقة بصرية واهتمام بإعادة خلق الملابس ذاتها وأشكال الشخصيات والأحداث كما حصلت في العالم الحقيقي، هنا لا يلتزم لارين بخط قصصي ممتد بل يصنع فيلمًا يتكون من عدة مشاهد متلاحقة يدور معظمها داخل عقل ديانا كما يدور في المساحة التي تحيطها والأشخاص من حولها، يصبح الفيلم أشبه بفيلم إثارة نفسية عن فتاة على وشك الانهيار، وفي أحيان أخرى يميل نحو نوع رعب البيوت المسكونة، ويعيد ديانا للفكرة الرئيسية التي تمثلها، أميرة محبوسة في قصر مهجور.
تمثل البيوت والأماكن مثلما في أفلام الرعب القوطية تحديدًا، التي تُعنى بالأشباح والعمارة، دورًا رئيسيًا في الفيلم، الممرات الطويلة ودرجات السلالم الممتدة والملتفة، كل حركة تقوم بها ديانا داخل تلك المساحات وكل شخص تقابله يمثل خطوة جديدة من خطوات الانهيار، نصل أحيانًا لمراحل من الشك في وجود الأشخاص من خدم وأفراد أمن، هل هم هنا حقًا، أم هم مجرد أجزاء من خيال فتاة ذات عقل مضطرب؟ يعزز ذلك الانزلاق من وإلى العقل الباطن شعور أننا نشاهد العالم من داخل ذلك العقل ويجعل ذلك الفيلم تجربة متحررة من السرد التاريخي ويجعل من ديانا شخصية ذات لحم ودم وليست رمزًا أجوف للمعاناة في سردية تاريخية ضخمة.
خطوات نحو الانهيار
تشارك العناصر التقنية والخيارات الفنية للارين في صنع ذلك الشعور بالفوضى والاحتجاز، عادة ما يهتم صانعو أفلام الفترة بإعادة خلق أزياء من الماضي كعنصر للإبهار يجعل المشاهد يشير: انظر! هذا هو الثوب الذي ارتدته ديانا في تلك الصورة أو غيرها، لكن الأزياء في سبينسر تعمل كمجاز للتحكم والتحرر منه كما أنها تمثل نماذج معدلة وطازجة من الأزياء الأصلية، صممت الأزياء المصممة الشهيرة جاكلين دوران والتي عملت على أفلام مثل Atonement و Little Women، بالتعاون مع شركة Chanel الشهيرة. تُعرف كريستين ستيوارت كذلك بأنها إحدى سفراء الشركة، المعرفة المسبقة بذلك ربما تصور للمشاهد أنه على وشك رؤية استعراض لتلك الشراكة مع الماركة المشهورة، لكن أزياء شانيل ودوران هنا تصنع ربطًا بين ستيورات كممثلة وديانا وما كانت ترتديه، فتصبح التصميمات ملائمة لذلك المزج بين الواقع والخيال بالإضافة لعملها لخدمة القصة.
في أحد مشاهد الفيلم تقول ديانا إن الشيء الأهم هنا هو ما ترتديه ومتى، يمضي الفيلم وقتًا كبيرًا ليصنع من لحظات الاستعداد لمناسبة ما، سواء كانت غذاء أو عشاء أو رحلة صيد، حدثًا هامًا ومعبرًا، تبدأ ديانا في كسر القواعد حينما تختار ثوبًا مخالفًا لما هو محدد لها سلفًا وهو ما تنال بسببه تجريحًا وضغطًا كبيرًا من كل من حولها في القصر، وتأخذ قرار الانفلات من ذلك العالم كله حينما تتخلص من عقد من اللؤلؤ وضعه حول عنقها مثل المشنقة زوجها غير الوفي، سبينسر ومثل عادة الأفلام التاريخية يملك مناظر جميلة وأزياء فارهة لكنه يعلم كيف يجعل كل ذلك ذا معنى وليس مجرد استعراض أجوف.
تمثل الموسيقى عنصرًا آخر من العناصر الأساسية في دراما الفترة، وفي فيلميه جاكي وسبينسر يختار لارين مؤلفين غير معتادين، لا يميل نحو الأوركسترا الضخمة الحالمة التي تملأ الأفلام بشعور بالأناقة والتاريخية بل اختار لجاكي مؤلفة طليعية وهي ميكا ليفي التي صنعت شريطًا موسيقيًا متذبذبًا ومؤثرًا، وفي سبينسر اختار جوني جرينوود وهو في الأصل لاعب جيتار في فريق الروك المعاصر راديوهيد Radiohead، ويمتاز بروح تجريبية حقيقية ومعرفة واسعة بنظريات الموسيقى، عمل جرينوود كمؤلف موسيقي للأفلام مع المخرج بول توماس أندرسون بشكل رئيسي، وهنا استعاره لارين لخلق عالم صوتي مميز، لا يخلو من الغنى الموسيقي المرتبط بالقصور والفرق الوترية لكنه أيضًا يرسخ لكون الفيلم ينتمي لنوع الإثارة النفسية.
يظهر ذلك في تبدل الموسيقى بين المؤلفات الكلاسيكية الشبيهة بمؤلفات فترة الباروك، حيث تشكل الوتريات واللحن موسيقى قادمة من عصر أقدم قبل أن تتحول إلى ما يشبه ارتجالات الجاز غير المنتظمة والتي توحي باقتراب الفوضى وانهيار نظام مستقر، كما تشارك الموسيقى في صنع عالم أشبه بالحلم فتختلط الموسيقى الداخلية بالخارجية، فمن المستحيل مثلاً أن تعزف فرقة ملكية في قصر موسيقى حداثية مثل التي يؤلفها جرينوود، لكن في بعض المشاهد تصبح الموسيقى التصويرية هي الموسيقى التي تسمعها شخصيات الفيلم، مما يكسر الخط الفاصل بين الحقيقي والخيالي وبين ما هو موجه للمشاهد وما هو جزء من دراما الفيلم.
وجه جديد في سلسلة من الأوجه
لكن كل ذلك الكلام عن العناصر التقنية ومدى تأثيرها يجب أن يرتبط بالأداء الرئيسي في الفيلم، كريستن ستيورات في دور الأميرة ديانا، افتراض غريب من الأساس يصعب تصديقه، من ناحية المظهر ومن ناحية سمعة ستيورات الملاصقة لها بسبب أعمالها السابقة وطبيعة أدائها التي تتعرض لانتقاد باستمرار لأنها غالبًا ما تسيطر ذاتها الحقيقية على الشخصيات التي تلعبها، ولكي تلعب ممثلة دور ديانا ربما يكمن المجهود الحقيقي على فريق الشعر والمكياج، بمجرد وضع شعر مستعار أشقر قصير وعيون زرقاء ساطعة فإنك قمت بنصف المطلوب لكي تعيد الرمز للحياة، كما أن لديانا مشية متميزة وإيماءات شخصية متكررة ولهجة ثقيلة يسهل التعرف عليها، تقوم ستيورات بمجهود كبير لالتقاط تلك التفاصيل.
تملك ستيوارت في الأساس لهجة أمريكية وطريقة كلام سريعة وعصبية، تحاول هنا أن تنحي كل ذلك جانبًا، تصبح أهدأ وحين يحتاج الأمر تظهر جزءًا من نفسها يلائم توتر ديانا الدائم وقلقها العصابي، لكن في وسط كل ذلك المجهود يخرج الأداء في بعض الأحيان وكأنه تنكر ممتد، وكأننا نرى شخصًا ما يلعب دورًا آخر، أو تمرين لاختبار قدرات ستيورات التمثيلية والتطور الذي وصلت له بعدما تركت أفلام المراهقين الضخمة ورسخت لنفسها كاسم في عالم الأفلام المستقلة، لكن في اللحظات التي تتناسى فيها ستيورات ذلك وتتذكر أن ديانا مجرد امرأة وحيدة في قصر مسكون بأشباح الماضي والحاضر تنير حقًا ويظهر صدق حقيقي وتعاطف يجعلها منغمسة تمامًا فيما تقدمه.
فيلم سبينسر ليس الأول وربما ليس الأخير في تقديم قصة ديانا التي على الرغم من حداثتها فإنها تبدو قديمة قدم الزمن، لكنه ينجح في جعلها جديدة، مؤثرة وليست استغلالية للمعاناة والمأساة المحتومة، يختار لارين أن يجعل اللقطة الأخيرة لديانا غير منتقعة في التراجيديا، بل يظهرها تبتسم وتأخذ نفسًا عميقًا بهواء غير ملوث بكل الأذى الذي تعرضت له، ربما كذلك تحب أن يتذكرها العالم.