منتخب إسبانيا: قصة أراجونيس، سيناريو جوارديولا، إخراج ديل بوسكي
«لماذا عاد الإسبان بقوة وسيطروا على الأجواء الكروية في أوروبا والعالم؟»، كانت هذه هي صيغة السؤال المُوجَه إلى عراب التكتيك «أريجو ساكي» لمعرفة السر وراء سطوة الماتدور الإسباني. فيرد حليق الرأس بكلمات محورية قائلاً: «لقد اكتفى الإسبان من الصدمات والهزائم الثقيلة في مبارياتهم مع الطليان والفرنسيين. فانطلقوا من مفهوم صحيح هو أن كرة القدم استعراض رياضي، ولكنهم لم يكونوا على معرفة ودراية بكيفية الدفاع. لذلك تطوروا من خلال وضع المهارة الفنية التي تعلموها في الصغر في خدمة الأداء الجماعي. وبعد ذلك كان الأمر يحتاج لأشخاص وأندية يجسدان هذا التطور ويستثمرانه».
ما قبل 2008
بالعودة إلى ما قبل يورو 2008 وبالتحديد في مونديال 2006، صعد الفريق الإسباني إلى ثمن النهائي، واصطدم بالمنتخب الفرنسي. وقتها لم تكن فرنسا مرشحة للظفر بالبطولة، لذلك توقع غالبية المتابعين مباراة متوازنة مع إمكانية لصعود الماتدور، لكن الديوك حوّلوا تأخرهم بهدف إلى فوز بالثلاثة، مع هدف لا يُنسى لزيدان في شباك كاسياس بالوقت بدل الضائع. لم يستسلم بعدها الجد أراجونيس، بل صرح بعبارات واضحة: «من الواضح أننا نحتاج إلى مراجعة طريقتنا في اللعب، نشارك بقوة في البدايات ثم نخرج بسبب تفاصيل دقيقة. حدث هذا من قبل في مونديال 2002، وتكرر معي في 2006. لن نسلم أنفسنا لليأس، وسنعود بشكل مغاير».
يضع كثيرون كامل نجاحات المنتخب الإسباني بالسنوات الأخيرة في صالح مدرسة برشلونة ومدربها الفذ بيب جوارديولا. هذه الرؤية لها كثير من المصداقية، لكن علينا ألا ننسى الرجل الذي وصل بالإسبان إلى منصات التتويج، حتى قبل قدوم الفيلسوف الصغير إلى كامب نو. إنه لويس أراجونيس، العجوز الذي وضع الماتدور على الطريق الصحيح في بطولة اليورو، بعد أداء استثنائي ونتيجة مذهلة في النهائي أمام الألمان.
الساخر
ساخر وشرس ومنافس بالفطرة وعاشق للعب الجميل وقادر على مواجهة أي إنسان كان عندما يعتقد أنه على حق. هكذا وصف موقع الـ «فيفا» أراجونيس. ورغم فوزه مع فريق العمر أتلتيكو مدريد بكثير من الألقاب كلاعب وكمدرب إلا أنه لم يحقق الاعتراف بالإجماع إلا بعد تألقه مع المنتخب الإسباني. تحت قيادته، وضع اللبنة الأساسية للفترة الأكثر أهمية في تاريخ البلاد.
عاد الإسبان مع أراجونيس لأنه عمل على جانبين، فكرة اللعب التي تعتمد على الاستحواذ على الكرة، مع فرض أسلوب لعبه على المنافس. لذلك في النهائي أمام الألمان، فوجئ المانشافت بمنافس يفوقه بمراحل على جميع المستويات داخل الملعب، لذلك لم يقدر أبدًا على فرض إيقاع لعبه، منذ هدف توريس وحتى نهاية المباراة.
الأمر الآخر الذي أعاده أراجونيس هو التحول التام لسياسة الفريق البطل، من حيث أن الجماعية فوق كل شيء، والفريق يعلو الفرد مهما كانت قيمته. لذلك أصر المدرب على استبعاد راؤول جونزاليس، وتحمل ويلات الحرب لفترة طويلة من الصحف الإسبانية، التي فتحت النار عليه، لكنه أصر على موقفه برد ناري: «هل تعرف كم عدد مشاركات راؤول في كأس العالم؟، ثلاث مشاركات. وهل تعرف كم عدد مشاركاته في كأس أوروبا؟، مشاركتان. قل لي كم لقباً فزنا به».
والعجيب أن إسبانيا فازت باليورو أخيرًا في غياب راؤول!.
عودة الـ Holding
فعل كلود ميكاليلي الكثير مع ريال مدريد، لكن بيريز لم يعجبه ذلك. رئيس ريال مدريد يشبه أحد المشجعين الذين يجدون متعتهم في اللاعب الذي يسجل أهدافًا ويلعب دومًا للأمام. لكن قراره كان خاطئًا على الصعيد الفني، ودفع ثمنه الفريق الملكي لعدة سنوات بعد رحيل الفرنسي الصخرة. أعاد الجد أراجونيس لهذا المركز قيمته في يورو 2008، حينما لعب بالبرازيلي الإسباني ماركوس سينا، الصخرة الصلبة والارتكاز الذي يقطع الماء والهواء. سينا لا يصعد إلى الأمام كثيرًا لكنه يقدم كل الإضافة والدعم للاعبي الوسط، تشافي وإنيستا وسيلفا حصلوا على حرية كاملة بسبب سينا، وبدون هذا اللاعب، كان تشافي عليه أن يعود للدفاع، وإنيستا إلى الوسط.
اللعب بخطة أقرب إلى 4-1-4-1، ارتكاز دفاعي صريح هو سينا، وأمامه كتيبة من الأسماء الرائعة والمهارية، تشافي، إنيستا ودافيد سيلفا، مع الضرب بثنائي هجومي في بعض المباريات كتوريس وفيا، أو اللعب بمهاجم وحيد مع الدخول بسيسك فابريجاس لزيادة نسبة الاستحواذ والسيطرة، لقد لعبت إسبانيا كرة مستقبلية، ووضع مدربها حجر الأساس نحو حقبة تاريخية.
جوارديولا وديل بوسكي
رحل أراجونيس وجاء ديل بوسكي لتدريب الإسبان، لكن السر لم يكن فقط في قدوم الشيخ الإسباني العجوز، بل في القرار الجريء والشجاع لرئيس برشلونة جوان لابورتا بتعيين بيب جوارديولا كمدير فني للكتلان، ليحصل المدرب الشاب على بطولات عديدة مع البارسا، ويحقق سداسية تاريخية في 2009 كان لها عامل السحر على مسيرة إسبانيا خلال سنوات متتالية.
ميسي هو نقطة الاختلاف الوحيدة بين بارسا جوارديولا وإسبانيا ديل بوسكي. لذلك عوًض الإسبان عدم تواجد البرغوث الأرجنتيني في إعطاء عامل السيطرة لإنيستا، الرسام هو النجم الأميز في الثلث الهجومي الأخير، خلف دافيد فيا المهاجم المتقدم، وأمام خط وسط فولاذي يقوده تشافي هيرنانديز رفقة الثنائي تشابي ألونسو والمفاجأة وقتها بوسكيتس!.
بوسكيتس هو الارتكاز الذي يبدأ دوره من أمام مرمى فريقه، وليس فقط من خط الوسط. ولا يكتفي بدوره في التغطية الخلفية وقطع الكرات، بل التمركز بين قلبي الدفاع عند بناء الهجمة، وبالتالي هو النسخة الأحدث والأكمل من نسخة «سينا مع أراجونيس في 2008». وتواجده في مونديال 2010 أعطى تشابي ألونسو قدرة أكبر على لعب الكرات الطولية، والقيام بدور هجومي أكبر.
ليس فقط تأثير بوسكيتس على ألونسو، بل أيضًا على تشافي هيرنانديز، اللاعب الأفضل كأداء عام في كأس العالم 2010، بسبب صعوده بضع خطوات للأمام، وقيامه بدور صانع اللعب الصريح في المركز 10، مع تحرك إنيستا المستمر في المساحات الشاغرة هجوميًا، إنها خطة 4-2-3-1 لديل بوسكي لكنها مدعمة بأبجديات التمركز الإيجابي لبيب جوارديولا، هكذا كانت خلطة الماتدور في جنوب أفريقيا.
عصر المهاجم الوهمي
استمرت السطوة الإسبانية في يورو 2012، تحول الفريق الإسباني إلى مارد مرعب، وحصل على كل شيء تقريبًا. وسحق الطليان في النهائي بالأربعة، في ظل بزوغ الموضة التكتيكية الجديدة «المهاجم الوهمي». اللاعب الهجومي غير الصريح في المركز 9، ميسي في برشلونة وسيسك فابريجاس مع الماتدور.
ضربت الإصابات بشدة فريق برشلونة في هذا العام، وقتها تعامل ديل بوسكي بذكاء شديد مع هذه المعضلة، عن طريق استخدامه نفس تكتيك الفريق، لكن مع أدوات وعناصر أكبر؛ لأن المنتخب يضم كل لاعبي الفرق بكل تأكيد، وبالتالي لعب الإسبان في النهائي أمام الأزوري بخطة 4-3-3 دون وجود مهاجم صريح، فكرة جوارديولا لكن مع إضافات أخرى. راموس بجوار بيكيه، مع أربيلوا وألبا في الأظهرة، وفابريجاس في مركز المهاجم الوهمي بين إنيستا ودافيد سيلفا، ليجد الثنائي بونوتشي وبارزالي أنفسهما دون لاعب حقيقي من أجل المراقبة، ويهرب سيلفا وإنيستا في أكثر من محاولة، ليتم ضرب الدفاع الإيطالي بكل سهولة، في أربع مناسبات كاملة، ويحقق الفريق الإسباني بطولتي يورو ومونديال في أربع سنوات.
الخريطة الحرارية لتحركات ثلاثي الهجوم الإسباني: إنيستا – فابريجاس – سيلفا
تغيير الجلد
تبدل كل شيء في 2014، لم يطور ديل بوسكي أبدًا من نفسه، ربما بسبب كبر سن أكثر من لاعب، ومن الممكن أن رحيل جوارديولا عن برشلونة أثر كذلك على منتخب إسبانيا. ولكن بكل تأكيد هناك عوامل تشابه واتفاق بين سقوط الفريق الكاتلوني وانخفاض مستوى الماتدور الإسباني في نفس الوقت، ليخرج المنتخب من الدور الأول في مونديال البرازيل مع أداء سيئ وتمثيل كارثي.
مجاملات في التشكيلة وعدم توفيق في الاختيارات، كلها عوامل جعلت الإسبان فريقًا بطلًا بعقلية قديمة؛ لذلك لم يقدر أبدًا على المواجهة. استبعد ديل بوسكي أكثر من اسم قديم، خوان ماتا، فرناندو توريس، خافي مارتينيز، كذلك استقدم أكثر من لاعب جديد كنوليتو، فاسكويز، سان خوسيه، وحتى أدوريث، ليصبح المنتخب الإسباني بمثابة المزيج الحقيقي بين الخبرات القديمة والعناصر الجريئة، لكن دون شبهة الترشيح الصريح للحصول على اللقب.
«حاولنا تحقيق التوازن في الفريق»، هذا ما قاله ديل بوسكي في مؤتمر صحافي من سالزبورج النمساوية، مضيفًا: «أعتقد أنه مع هؤلاء اللاعبين الـ 23 بإمكاننا التعامل مع أي طارئ. اللاعبون الذين تم استبعادهم يتمتعون بالمستوى اللازم (للمشاركة في البطولة) لكن ليس بإمكاني أن أختار إلا 23 لاعبًا». هكذا ختم الشيخ العجوز تصريحاته قبل البطولة، في انتظار المصير الأخير خلال أيام قادمة.