الدين الأحمر: عندما حاول السوفييت خلق «إسلام شيوعي»
يقول ألكسندر بينيجسن في كتابه «التهديد الإسلامي للدولة السوفيتية»، إن الثورة السوفيتية فور نجاحها في الاستيلاء على الحُكم واجهت تحديًّا كبيرًا في التعامل مع ملايين «المتدينين» القاطنين على أرضها، وتحديدًا أهل الإسلام والمسيحية.
بحسب كتاب «شمعة في مهب الريح: الدين في الاتحاد السوفيتي» ليوجين شيرلي: عرفت الأراضي السوفيتية الإسلام منذ القرن السابع الميلادي (بعد المسيحية بقرنين فقط)، وتمركزت بشدة في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز (منطقة جبلية تقع بين البحر الأسود وبحر قزوين).
صبّت موسكو جام غضبها على الإسلام، واعتبرته خطرًا كبيرًا وعدوًّا يجب ألا يزيد حجمه أكثر مما ينبغي، في رحاب دولة لا تُخفي عداءها المُطلق للأديان، وتتبنّى أجندة عقدية متطرفة تسعى بها لإزالتها من الوجود.
وفي وقتٍ مُبكر من نشأة الكيان السوفيتي، اعتبرت الحكومة أن الشريعة الإسلامية «أداة لأعداء البناء الاشتراكي»، وأنها يجب ألا يكون مكان لها في روسيا.
يُمكن فهم روح العداء المبالَغ فيها التي أبداها السوفييت تجاه الإسلام بمعزلٍ عن كونه دينًا ينشط في أرض «أحفاد ماركس»، وإنما ما زاد أوضاع المسلمين سوءًا، هو أنه لم يكن دينًا منتشرًا في كافة الأصقاع الروسية يعتنقه الملايين هنا وهناك كالمسيحية، وإنما أغلب معتنقيه كانوا من الأقليات العرقية، ما أثار مخاوف كبرى لدى موسكو من أن تثير الحمية الدينية في نفوسهم روحًا قومية تدفعهم للسعي إلى الانفصال عن الدولة وإقامة دويلات إسلامية رفضًا للمدِّ الشيوعي الأحمر.
الإسلام القيصري: نهضة تسبق العاصفة
وفقًا لكتاب «الدين والتحديث في الاتحاد السوفيتي»، عاش الإسلام أوضاعًا جيدة نسبيًّا في العهد القصيري، وبزغت العديد من المراكز الإسلامية مثل مدينة «باكو» في أذربيجان، و«قازان» في تتارستان، و«ترويتسك» التي تقع حاليًا داخل حدود روسيا.
كما شهدت تلك الفترة ظهور عدد كبير من المفكرين الإسلاميين الآسيويين البارزين ضخّوا الحيوية في شرايين الفقه الإسلامي، من أمثال موسى جار الله بيجيف، وعبدالله بوبي وغيرهما من قادة النهضة الإسلامية التترية في عهد القياصرة.
الإسلام الأحمر: لا تدفعوا الزكاة، لا تحجوا، لا تُطلقوا لِحاكم
أما في العهد السوفيتي، فبحسب ألكسندر، بدءًا من عام 1924م، فُرضت ستارة حديدية على أهم تجمع إسلامي داخل الاتحاد السوفيتي، وهما دول آسيا الوسطى والقوقاز، والتي عُزلت عن باقي أنحاء العالم الإسلامي، وخضعت لعملية معقدة من الهندسة الاجتماعية، بغية إعادة غسل عقول مسلمي تلك المناطق.
بموجب هذه الستارة الاجتماعية، لم يُسمح للأجانب بزيارة المناطق الإسلامية السوفييتة، أو في أفضل الأحوال لم يُسمح لهم إلا بالبقاء لفترة قصيرة جدًا.
لم يتبنَ السوفييت سياسات ترمي فقط إلى تحجيم انتشار الإسلام أو حتى التضييق على أهله، وإنما حلموا بما هو أبعد، وهو خلْق إسلام جديد يتناغم مع البنيان الشيوعي ولا يُشكّل خطرًا عليه؛ إسلام قشري لا يمتلك أي دعائم فقهية قوية، وينظر إلى القادة الروس بكل أعين الرضا والتبجيل.
في هذا الإطار بُذلت مساعٍ كبيرة من أجل إقناع المسلمين السوفييت أنهم مختلفون تمامًا عن مسلمي الشرق الأوسط وأفريقيا، ولهذا فهم يستحقون معاملة مختلفة.. وإسلام مختلف.
وبدءًا من عام 1928م، عاش الإسلام سنوات مأساوية على يدي ستالين، الذي قام بأعمال تطهير وحشية أعلى خلالها من شأن الهوية الروسية وحدها، وترسيخها بكل السُبُل في نفوس كافة شعوب الجمهوريات السوفيتية.
ووفقًا لألكسندر، سعى أغلب المسلمين للتعايش مع أهداف الدولة المُلحدة التي هيمنت على حيواتهم لعقود، وتعاون أبرز القادة المسلمين، عن طيب خاطر، مع السلطات السوفيتية للخروج بأقل الخسائر.
هنا يجب فهم أن الزعماء المسلمين– من مُنطلق رؤية سياسة/ اجتماعية ساذجة بلا شك- لم يفرّقوا كثيرًا بين التعامل مع قادة ملحدين بعد الثورة وقادة مسيحيين قبلها، فجميعهم «كفار» في نهاية الأمر، في نظر قادة المسلمين السوفييت، بل وربما بدا لهم أن الدعاية الشيوعية ستكون أقل خطرًا من دعاوى التبشير المسيحية التي أغرقت المنطقة في عصر روسيا القيصرية، وهدّدت أعداد المسلمين بالتقلُّص.
نجَى مسلمو القوقاز من التبشير المسيحي، إلى حين، لكنهم لُوحقوا بعدها بما يُمكننا تسميته بـ«التبشير الإلحادي».
هدف «التبشر السوفيتي» إلى خلق نسخة شيوعية/ إلحادية من الإسلام، وذلك عبْر التخلي عن رسالته العالمية وتحويله في عقول أتباعه إلى «ممارسة شخصية» لا يجوز ظهور معالمها خارج جدران المنزل، بل والغرفة الشخصية لو لزم الأمر.
ولهذا يُوصف عهد «الإسلام السوفيتي» بأنه «صحراء فكرية» حيث اختُزلت فيه طقوس الدين إلى أعتى أشكالها القشرية البحتة، وجرى تجاهل وتسطيح الثراء والتباين الفقهي العميق بين طوائف الإسلام الذي صُنع على مدار مئات الأعوام.
فبقرارٍ سوفيتي أعلى ساوَى بين السُنة والشيعة، ونصَّ على وجوب عدم السماح بنشأة هذه الخلافات الدينية داخل الاتحاد السوفيتي، وعندما رفض يومًا إمام مسجد شيعي بمدينة جوكتشي في أذربيجان السماح للسُنة بالصلاة معه، طُرد من منصبه.
لم يعد مسموحًا للمسلمين بدفع الزكاة، وشنّت الصحافة السوفيتية حملة قوية على أصحاب اللحى البيضاء واعتبرتها رموزًا مُستهجنة، كما تم التضييق بشدة على ممارسة الحج، حتى أصبح عدد الحجاج السوفييت إلى الكعبة لا يزيد على أصابع اليد الواحدة لا يكونون إلا من «الرموز الدينية الموثوقة».
يقول ريتشارد مارشال في كتابه «مظاهر الدين في الاتحاد السوفيتي 1917-1967»: لم يُسمح للمسلمين السوفييت بزيارة مكة حتى عام 1948م، بعد وفاة ستالين، ومن حينها تمكن عدد محدود جدًا من الروس من أداء فريضة الحج، وحتى عام 1954م، لم يُنظر للحج على أنه نشاط جماعي وفريضة على كافة المسلمين الروس أن يُسمحوا بأدائها «ما استطاعوا إليها سبيلاً»، ولكنها كانت جائزة ترضية لأبرز القادة المسلمين المُخلصين.
ومقارنة بالأوضاع التي سبقت الثورة، كان إمام كل مسجد سيدًا مطلقًا للمسجد والمؤسسات التابعة له، أما في العهد السوفييتي فقد أصبح مجرد الإمام «تقني مدفوع الأجر» يُنفذ التعليمات الواردة إليه من لجنة عُليا تتحكم في جميع اختصاصاته بما فيها محتوى خُطبة الجمعة.
لينين حفيد الأئمة الإسماعيلية
أما عن المسلمين أنفسهم فلقد تباينت مواقفهم إزاء هذه الهجمة المرتدة الشيوعية بحقِّ دينهم. واصلت قِلة من القيادات الدينية «المُحافظة» القتال ضد الأساور الإلحادية التي سعت لتطويقهم، بينما أعلنت فئة أخرى من الجماعات الإسلامية «التقدمية» تفهمها لخطط السلطات السوفيتية، ومساعيها للتطوير والتغيير الحتمية بفِعل الزمن.
عادَى المسلمون المحافظون الشيوعية بضراوة، فيما تطرّف التقدميون في الانكفاء للسياسات السوفييتية الجديد، ولم يتوقف كلا الطرفين عن تأويل آيات القرآن لتبرير موقفه.
بحسب مايكل بينيون بكتابه «الحياة في روسيا»، اعتبر ضياء الدين باباخان، المفتي المُعيّن من قِبَل الدولة، في كتابٍ له، أن المسلمين لم يسبق لهم أن يعيشوا مثل هذه الحرية!
وكتب: الاتحاد السوفييتي هو حصن السلام المعترف به عمومًا على الأرض. ويرى المسلمون في الاتحاد السوفيتي، على أنه واحد من الأشكال الرئيسية لنضالهم من أجل السلام والعمل الصادق لتعزيز القوة الاقتصادية والدفاعية لبلدهم.
وكانت أكثر مظاهر التأييد الإسلامية عبثًا ما أبداه بعض الشيوخ الإسماعيليين من قبول مُطلق لكل أفاعيل السوفييت لأنهم «جاءوا من عند الله»، وإعلانهم أن لينين هو حفيد الآغا خان (الإمام الـ48 للطائفة النزارية الإسماعيلية).
ظلت منطقة شمال القوقاز لفترة طويلة الحصن الرئيسي للإسلام الروسي المُحافظ، وكذلك بعض الأقاليم الأخرى مثل جمهورية الشيشان إقليمي كاراشاي وإنغوشيا.
أما في المناطق التترية وفي أغلب الأراضي الروسية المتأثرة بالمدِّ الأوروبي مثل أذربيجان فلقد اكتسحها «المسلمون الشيوعيون التقدميون».
بعض جمهوريات آسيا الوسطى تعايشت فيها كل التيارات معًا؛ في ولاية فرغانة (مدينة أوزبكية تقع شمال العاصمة طشقند)، شهدت في عامٍ 1927م دعوة من رجل دين مرموق لمقاطعة الخدمات الطبية التي تقدمها الحكومة السوفيتية، وفي السنة نفسها شارك أبرز رجال الدين في ولاية قوقند (تقع شرقي أوزبكستان) في مظاهرات حاشدة تحتفل بالذكرى العاشرة لتأسيس الدولة السوفيتية.
هتلر يُنقذ الإسلام، ولو قليلاً
بحسب موريل أتكين في كتابه «الإسلام في طاجيكستان السوفيتية»، فإن أغلب عوام المسلمين حاولوا مقاومة هذا المدّ الأحمر على دينهم، وبذلوا جهودًا كبيرة سرية للحفاظ على معتقداتهم.
وما ساعدهم في تحقيق هذا الغرض هو الهجوم النازي الذي اجتاح البلاد خلال الحرب العالمية الثانية، وبموجبه قرر ستالين منح مساحة أكبر للمسيحية الأرثوذكسية والإسلام لحشد طاقات الشعب الروسي ضد العدوان الألماني، وهو ما منح المسلمين فرصة لالتقاط الأنفاس.
وبحسب هذا التقرير الذي أعده مركز معلومات تابع لوزارة الدفاع الأمريكية، فإنه عقب الحرب، عاش الاتحاد السوفيتي حالة نسبية من التسامح الديني مع الإسلام، فسُمح بتأسيس مجلس مركزي لقيادة المسلمين، وتأسيس مساجد جديدة وتخفيف الدعاية المضادة للدين.
تشكلت المؤتمرات الدولية التي رعاها مفتي طشقند ضياء الدين بابخانوف Ziauddin Babakhanov، التي سعت لتنظف السُمعة السيئة للاتحاد السوفيتي، وتقديمه للعالم على أنه «صديق للعالم الإسلامي»، وبالطبع لم تخلُ هذه المؤتمرات من الإعلان عن تأييد غير مشروط للسياسات الخارجية السوفيتية ضد الصين وأمريكا وباقي القوى الإمبريالية.
وفقًا للوثيقة، حاولت موسكو أن تضفي روحًا مسيحية على الإسلام، وذلك عبْر غرس ولاء روحي عند المسلمين تجاه قادتهم المُعينين من قِبَل موسكو، فسعت لتحويل ضياء الدين إلى «بابا مسلم» يتعلّق كافة مسلمي آسيا بآرائه السياسية والروحية، وهو ما فشلت في تحقيقه فبقيت صلاحياته مرهونة بالجانب الإداري وحسب، وكلما عبّر ضياء الدين عن ولائه للسوفييت وسعادة المسلمين في الجمهورية الشيوعية، لم يقتنع أحد بحديثه ولم يتلزم به أحد إلا نفسه، شأنه في ذلك شأن باقي «المُفتون الحُمر» (مصطلح إعلامي للإشارة للقيادات الدينية المؤيدة للقيادة السوفيتية)، الذين صُنعت زعامتهم بالكامل بواسطة الأجهزة الإعلامية والأمنية الروسية.
بذل المفتون الحُمر جهودًا ملحوظة لدعم الجيش الروسي، في أغسطس 1941م دعا رجال دين مسلمون سوفييت الشعوب الإسلامية للنهوض كـ«رجل واحدٍ لمقاومة الغُزاة الألمان الفاشيين»، وفي 18 يوليو/ تموز من العام نفسه دعا المجلس الإسلامي في مدينة «أوفا» (إحدى المدن الروسية) المسلمين «للوقوف دفاعاً عن وطنهم (يقصد الاتحاد السوفيتي)، والصلاة في المساجد من أجل انتصار الجيش الأحمر ومباركة أبنائه، الذين يقاتلون من أجل قضية عادلة».
رغم هذا فإن الحرب العالمية لم تأتِ بالخير للإسلام في روسيا كما فعلت للكنيسة الأرثوذكسية، التي خرجت من الانتصار بصلاحيات كبيرة وتنازلات حقيقية صلبت بها عودها في المجتمع، وأصبحت قوة ضخمة لا يُمكن المساس بها، بخلاف المسلمين الذين كانت أكبر مكاسبهم «تخفيف» حالة العداء قليلاً.
في أعقاب الحرب مباشرة، اتّخذ السوفييت إجراءات عقابية بحقِّ شعوب إسلامية قوقازية كأهالي القرم والشيشانية والإنجوشية، وترحيل أهلها من ديارهم بدعوى «الخيانة خلال الحرب».
في النهاية، ظفر المسلمون ببعض الإصلاحات الشكلية، مثل بناء 1700 مسجد خلال الحرب ليصل إجمالي أعدادها في 1947م إلى 3 آلاف مسجد، بحسب تصريح بوليانسكي، المسؤول السوفيتي المسؤول عن الجماعات الدينية غير الأرثوذكسية حينها.
أما على سبيل التوقف عن مساعي «الأحَمَرة الإسلامية»، فلم تنتهِ إلا في أواخر العهد الشيوعي.
سقوط الإسلام السوفييتي
وفقًا للوثيقة الأمنية الأمريكية، فإنه خلال السبعينيات، سعت موسكو لفتح قنوات حذرة بين المسلمين السوفييت وأقرانهم في العالم الخارجي، على افتراض أن منجزاتهم الفكرية والفنية ستثير إعجاب المسلمين حول العالم، ولكن بعد عقود من الامتثال القسري للحكم السوفيتي والتسطيح الفكري بالأمر الشمولي، لم يكن لدى المسلمين السوفييت الكثير ليقدموه وليبهروا العالم، بل بالعكس كانوا أكثر عُرضة للتأثر بغيرهم.
بحسب كتاب الدين في الاتحاد السوفيتي لوالتر كولارز، فإن المسلمين السوفيت امتلكوا معرفة دينية قليلة ولم يُنتجوا أي أدبيات إعلامية بأي شكل من الأشكال يمكن مقارنتها بتلك الصادرة عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أو مجلس المسيحيين الإنجيليين / المعمدانيين أو الكنيسة الأرمنية.
لم تنجح موسكو في مساعيها لإنتاج «إسلام أحمر» يُناسبه التربة الروسية، وإنما حدث العكس، بعدما أدّت المحاولات المستميتة لتغيير هيكلية الإسلام إلى دفع المسلمين إلى التمسك به على نحو راديكالي، ربط بين المتحمسين منهم وبعض الجماعات الأصولية الدينية، التي قد تستخدمهم في تقويض استقرار الاتحاد السوفيتي.
وبحسب شيرلي، فإن الإسلام الذي ترسّخ في عقول وقلوب أتباعه السوفييت على مدار ألف عامٍ لا يُمكن تدميره بنصف قرنٍ من الدعاية المُعادية مهما كانت كثيفة.
لذا لم تتقلّص أعداد المسلمين كثيرًا، رغم موجات «غسيل المخ الحمراء» آنفة الذِكر، وفي عام 1979م، بلغ عددهم 44 مليون فرد (عام 1959م، كان العدد 24 مليونًا فقط!) وضعت الاتحاد السوفيتي -رغم أنفه- خامس أكبر دولة يعيش فيها مسلمون بالعالم متفوقًا على السعودية ومصر وتركيا!