جيش لبنان الجنوبي: أن تدافع عن عدوك حتى آخر رصاصة
في العام الماضي، دشَّن وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، نصبًا لإحياء ذكرى جنود عرب ماتوا دفاعًا عن إسرائيل، ومن أجلهم تلا صلاة يهودية تكريمية باللغة العربية لأول مرة في التاريخ العسكري للدولة العبرية.
على هامش الاحتفال استضاف غانتس آخر أفراد تلك القوة الباقين على قيد الحياة، ووعدهم بأن يُدمجوا بشكلٍ أكبر في المجتمع الإسرائيلي، بعد أن أعربوا مرارًا عن شعورهم بالرفض داخل المجتمع الإسرائيلي.
قبل ذلك بنحو عام، وتحديدًا في يونيو من عام 2020م كرَّم الجيش الإسرائيلي 20 ضابطًا سابقًا في تلك القوة العربية التي عُرفت باسم «جيش لبنان الجنوبي»، والتي سطع نجمها خلال الفترة الدموية التي عاشها لبنان عقب اندلاع الحرب الأهلية، مرورًا باجتياح إسرائيل لجنوب البلاد واحتلاله منذ منتصف الثمانينيات وحتى عام 2000م.
فلطالما شكَّل جنوب لبنان صداعًا في رأس قادة إسرائيل بسبب تحوُّله إلى قاعدة منتظمة لشنِّ الهجمات ضد أهدافٍ إسرائيلية، لذا أملت إسرائيل في طريقة تبسط بها سيطرتها على الجنوب وتشكيل منطقة عازلة تقيها شر هجمات حزب الله والفدائيين الفلسطينيين، وتمثَّل الحل الذي تفتقت عنه أذهان قادة إسرائيل في تذكية البُعد الطائفي داخل بلاد الأرز حتى يلعب المسيحيون الموارنة – لاحقًا – دور ضبَّاط الحدود.
خلقت قوة عسكرية من لبنانيين (لم تتألَّف من مسيحيين وحسب، وإنما ضمَّت شيعة أيضًا) قبلوا بالتعاون مع اليهود، عُرفت باسم «جيش لبنان الجنوبي»، تلقت دعمًا إسرائيليًّا طيلة فترة الاحتلال، وكانت الهراوة العربية التي أعانت إسرائيل على ارتكاب العديد من المذابح بطول جنوب لبنان وعرضه.
تكوَّنت تلك القوة من قرابة 5 آلاف مقاتل منشقين عن الجيش اللبناني، بقيادة الرائد الكاثوليكي سعد حداد، وخاضت معارك شرسة ضد الفدائيين الفلسطينيين وحزب الله بدعمٍ كبير من الجيش الإسرائيلي، تعرضت خلالها لخسائر جمة حتى بات مقاتلوها صيدًا دائمًا لجنود المقاومة، وبالطبع كانوا على رأس أهداف حزب الله فور إعلان إسرائيل الانسحاب من لبنان.
بن جوريون: يجب تمزيق لبنان
عين إسرائيل على لبنان لم ترتبط فقط بعمليات اجتياح الجنوب، وإنما بدأت محاولة استغلال الوضع الطائفي المعقَّد به مبكرًا جدًّا؛ كتب أول رئيس وزراء لدولة إسرائيل ديفيد بن جوريون (David Ben-Gurion) بمذكراته في مايو 1948م قائلًا:
وبحسب كتاب «التوسع في الاستراتيجية الإسرائيلية» للدكتور عدنان السيد حسين، فإن شهر فبراير من عام 1954م شهد اجتماعًا ضمَّ 3 من أبرز قادة إسرائيل، هم: بن جوريون، وموشي شاريت، وموشي ديان، لبحث كيفية زعزعة الأمن داخل لبنان.
وخلال ذلك الاجتماع أعاد بن جوريون فكرة استغلال المسيحيين لتمزيق لبنان قائلًا:
وهو الرأي الذي عضَّده ديان بدوره حين قال: «علينا العثور على ضابط – ولو برتبة رائد – وعلينا أن نكسب حماسه ومشاعره، وأن نشتريه بالمال، ونجعله يوافق على الادِّعاء بأنه منقذ الطائفة المارونية، ثم يدخل الجيش الإسرائيلي ويحتلُّ المناطق الضرورية ويُوجِد دولة مسيحية متحالفة مع إسرائيل».
رغم ذلك الحماس ظلَّت كل هذه الخطط محض أحلام حتى تفجَّرت الأزمة اللبنانية عام 1975م. وفي يونيو 1976م خاطَب إيغال آلون، وزير خارجية إسرائيل حينها، مسيحيي لبنان في تصريحٍ إعلامي قائلًا: «يُمكنكم الاعتماد على إسرائيل، لأن سوريا ستقف مع الفدائيين وسيكون وضعكم حرجًا»، وفي نفس العام بدأت اللقاءات السرية بين الزعماء المسيحيين اللبنانيين ومسئولين أمنيين إسرائيليين لبحث التنسيق المشترك بين الطرفين.
فلنصنع جيشًا طائفيًّا
فتحت الحرب الأهلية الباب على مصراعيه أمام التدخل الإسرائيلي، والذي لم يكن ينوي الاكتفاء بنشر قوات عسكرية عبرية تسيطر على الجنوب وإنما إعادة الحلم القديم من مرقده عبر خلق ميليشيات مسيحية تُبقي الجنوب «منطقة هادئة» بشكلٍ دائم، حتى بعد الانسحاب الإسرائيلي منه.
أعلن الضابط اللبناني السُّني أحمد الخطيب – الموالي للفلسطينيين – انشقاقه عن الجيش وتأسيسه قوة أخرى عُرفت باسم «الجيش العربي اللبناني». لاحقًا ردَّ الضباط المسيحيون على تلك الخطوة بتأسيس تكتُّل «جيش التحرير اللبناني» بقيادة الرائد أنطوان بركات، قبل أن ينضم إليهم لاحقًا سعد حداد.
تمركزت تلك الميليشيات اللبنانية المسيحية على الحدود مع إسرائيل، التي حرصت على دعمه خلال حربه مع الفدائيين الفلسطينيين الذين سيطروا على الجنوب وشكَّلوا منه قاعدة لتنفيذ هجمات متتالية ناحية إسرائيل.
بدءًا من عام 1978م بدأ الجيش الإسرائيلي عملياته العسكرية في الجنوب اللبناني لإخلائه من قواعد الفدائيين الفلسطينيين وإخلاء الساحة أمام قوات حداد، الذي أعلن في أبريل/ نيسان 1979م إنشاء «دولة لبنان الحر» في المناطق التي يُسيطر عليها، وهي الخطوة التي وصفتها الرئاسة اللبنانية وقتها بأنها «لا تعيرها أي اهتمام؛ لأنها خروج عن الشرعية ومحاولة لتقسيم الوطن».
وحينما طوَّرت إسرائيل عملياتها العسكرية ضد لبنان إلى غزوٍ شامل جرى في يونيو/ حزيران 1982م، وقف مسلحو جيش الجنوب جنبًا إلى جنب مع نظرائهم الإسرائيليين، بل شاركوهم اقتحام بيروت.
أصبحت لقوات حدَّاد اليد الطولى في الجنوب بأسره بفضل الدعم العبري المتنامي له، ومنح وزير الدفاع الإسرائيلي – وقتها – عازر وايزمن سعد حدَّاد وسام «القدوة المثالية»، وكذا قلَّد مردخاي غور رئيس أركان الجيش الإسرائيلي – وقتها – الضابط الللبناني سامي الشدياق وسامًا بسبب جهودهما المخلصة لخدمة إسرائيل!
بدءًا من عام 1985م بدأ الجيش الإسرائيلي يسلِّم الأراضي التي يزعم الانسحاب منها إلى «قوات حدَّاد/ لحد»، إلا أن هذا لم يمنع من استمرار انهيار تماسك ذلك الجيش كلما حل موعد رحيل اليهود عن أراضي لبنان.
فالجميع يعلم أن ميليشيات حزب الله تفوقه قوة، ولن يصمد أمامها ساعة واحدة لو دخلا في قتالٍ متكافئ، وهي المخاوف التي أعرب عنها قادة الجيش الجنوبي للإسرائيليين مرارًا وتكرارًا، لكن رغم ذلك استمرت عجلة الانسحاب في الدوران.
فاتورة دم لم تتوقف
لم يعش حداد طويلًا ليظفر بثمار عمله، بعدما توفِّي متأثرًا بمرض السرطان عام 1984م -عن عُمرٍ ناهز الـ47 عامًا- وحينها نعاه إسحاق شامير رئيس الوزراء الإسرائيلي قائلًا: «إنه لبناني عظيم، وحليف لإسرائيل»، وتوللى قيادة الجيش الجنوبي من بعده أنطوان لحد وهو جنرال سابق منشق من الجيش اللبناني هو الآخر.
شهد الجنرال أنطوان آخر أيام قوته العسكرية بعدما وصل إيهود باراك إلى سُدَّة الحُكم الإسرائيلي وتعهَّد بالانسحاب من لبنان، وبالرغم من تأكيده المتكرر على أنه سيتخذ كل الإجراءات اللازمة لضمان أمن «اللبنانيين الذين عملوا إلى جانب إسرائيل»، فإن مجرد إعلان انسحاب إسرائيل أحدث رجَّة هائلة في صفوف الجيش الجنوبي كفلت تمزُّقه دون أن يخوض قتالاً حقيقيًّا ضد حزب الله.
كان الانهيار ساحقًا لدرجة مكَّنت مسلحي حزب الله من اكتساح الجنوب في أيامٍ معدودات، وتفجير تمثال لحدّاد في ثكنة مرجعيون مقر القيادة الرئيسي لجيش الجنوب، دون أن يعترضهم أحد عقب يومين فقط من الانسحاب.
أجزلت إسرائيل العطاء بحق لحلفائها الذين باتوا على وشك خوض النار وحدهم، عرضت عليهم العيش في إسرائيل ونيل الجنسية العبرية، ومن ضمن 6500 رجل – إجمالي القوة – وافق 2700 على الانتقال لإسرائيل حيث عاشوا في مُدن شمال إسرائيل، مثل معالوت ترشيحا وكريات شمونة ونهاريا.
وبرغم أن اتفاق الانسحاب نصَّ بوضوح على تفعيل محاولات دمج جنود قوات حداد في المجتمع اللبناني مجددًا، فبقيت النظرة الشعبية بحقِّ أعضائها باعتبارهم مُكللين بعار لا يمحوه إلا الدم.
هرب أغلب أعضاء تلك الفرقة خارج لبنان، من لم يهرب إلى إسرائيل سافر إلى أوروبا، ومن عجز عن ذلك من الجنود صغار الرتبة رضي بالعيش في لبنان بعد أن تعرَّضوا لمحاكمات أودت بهم إلى السجن.
أما عن القادة الكبار، فظلَّت «فاتورة الدم» تلاحقهم حتى آخر أيام حياتهم. في عام 1988م، نجى القائد اللبناني السابق أنطوان لحد من الموت، بعدما حاولت قتله فتاة تنتمي للحزب الشيوعي اللبناني تُدعى سهى بشارة.
لم يتمتَّع قيادي آخر بتلك القوة العسكرية المثيرة للجدل بحظِّ لحد، ففي عام 2020م، وبالقرب من مدينة صيدا، قتل مجهولون أنطوان حايك القائد السابق في جيش لبنان الجنوبي، والذي يُشتبه في تورُّطه في أعمال تعذيب أشرف عليها بحق الفلسطينيين واللبنانيين داخل سجن الخيام الذي كان خاضعًا لسيطرة الإسرائيليين.
رغم هذا لم يهدأ لبنان قطُّ من الماضي، بعدما تسبَّب قائد «جنوبي» في أزمة كبيرة داخل لبنان، هو رجل الأعمال اللبناني عامر فاخوري، الذي يحمل الجنسية الأمريكية وعمل سابقًا جنديًّا لصالح الجيش الإسرائيلي/ اللبناني، فرَّ من لبنان عام 1998م إلا أنه عاد إليه عام 2019م.
يتمتَّع فاخوري بتاريخ مثقل بالدم معتمدًا على شهادات عشرات الناجين من سجن الخيام الذي اعتادت إسرائيل التنكيل فيه بمن يعارضها من أهل لبنان. وفقًا للشهادات فإن فاخوري أشرف بنفسه على عمليات تعذيب ممنهجة بحق المساجين لُقب بسببها بـ «جزار الخيام»، لكن جرى الإفراج عنه لاحقًا بعد ضغوط أمريكية، وهي الخطوة التي وصفها حسن نصر الله زعيم حزب الله بأنها «انتهاك صارخ لسيادة لبنان».